17 - 07 - 2024

السودان ينتفض معتمدا على شعبه وسط تجاهل عالمي: سلمية.. ضد الحرامية

السودان ينتفض معتمدا على شعبه وسط تجاهل عالمي: سلمية.. ضد الحرامية

تتواصل مظاهرات "الخبز والحرية" في الشارع السوداني لنحو عشرة أيام حيث انطلقت من مدينة "عطبرة" ثم اتسعت لتشمل معظم المدن السودانية في ظل غياب سياسي واضح من الرئيس عمر البشير ودولاب الحكم التابع له، ووسط توقعات بتواصل المظاهرات وتحولها الى انتفاضة بسبب تفاقم الازمة الاقتصادية وترافقها مع الأزمة السياسية. 

وعلي الرغم من ان الوقت مبكر لرصد افق المظاهرات الجارية  المتسمة بالحيوية والعنفوان والانتشار في كل ربوع البلاد، والتي من الواضح انها لن تكون حدثا عابرا أوهبة سريعة على شاكلة مظاهرات 2013 التي لم تستغرق أياما، فاننا يمكن أن نرصد الملامح الاتية:-

  1. أن المظاهرات انطلقت من عطبرة، مدينة الوعي والنضال السياسي التاريخي، حيث كانت معقلا للكفاح الوطني والاجتماعي والعمالي منذ 1946 وحتى مقدم انقلاب تحالف العسكر والإخوان (الانقاذ) عام 1989، والتي ارتكزت نضالاتها على كفاح عمال السكك الحديدية والذين بلغت أعدادهم في مطلع الخمسينات فقط أكثر من 30 ألف عامل حيث خاضوا نضالات لافتة شارك فيها تنظيم الحركة الوطنية للتحرر الوطني (يسار) وحزب الاشقاء، وكونت في يوليو1946 تنظيم نقابي "هيئة شؤوون العمال "ولجان ورش، رفع شعارات اجتماعية وسياسية يطالب بحقوق العمال، لكن في نفس الوقت يرفع شعارات وطنية ويطالب بجلاء المحتل، ويتواصل مع السيد علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي .
  2. ان الملمح الثاني للمظاهرات مكاني ايضا، فقد انطلقت من "ولاية شمال النيل" الحاضنة التقليدية لطاقم المؤتمر الوطني الحاكم ورجالات الإنقاذ، وقد عكست هذه الفتة اشارة مفادها أن الاحساس بالغبن يعم الجميع لافارق بين ساكن "نهر النيل" وساكن دارفور أو بورسودان، كما عكست ماهو أهم وهو أن السودان الذي سادته ثقافة الجهوية والقبلية في ظل حكم الانقاذ، نفض عن نفسه وهو يثور تلك العباءات المزيفة، وأن وعي الشعب بمصالحه تجاوز تلك الغلالات المضللة، فعاد كيانا موحدا كشعب 1964، 1985، الانقسام الحقيقي علي أرضه، بين شعب واحد يتعرض للإفقار والقمع، وسلطة ديكتاتورية قمعية تحمي طبقة فاسدة ولصوصية.
  3. الملمح الثالث للمظاهرات هو عفويتها الواعية، وهذا أمر قد يبدو غريب ، فقد كانت المظاهرات شعبية وعفوية وغير مؤدلجة، تسبق بخطوات القوى السياسية التي تحاول اللحاق بها، لكنها مع ذلك كانت مظاهرات واعية ومسيسة، وليس مجرد "مظاهرات خبز" ولا "هبة مطلبية"، انتقلت من الدعوة لخفض الاسعار واتاحة الخبز وفك الحظر عن البنوك إلى شعارات سياسية ضد سلطة المؤتمر الوطني وسلطة "الكيزان" وتدعو للحرية والديمقراطية وتهتف (لا للسكر والبنزين، خرجنا ضد تجار الدين)، وتحاصر مباني الحزب الحاكم، في رمزية وانتقاء شديد الوعي.
  4. قاد المظاهرات جيل شبابي جديد، لم يرى الديمقراطية يوما، تمت محاولات قمعه وغسل مخه علي يد تحالف العسكر مع الإخوان (الكيزان) عبر آلة شمولية جبارة، احتمتبالقمع و"بيوت الاشباح" و"التعذيب" و"التنظيم " و"القوة" و"الاقتصاد" و"الاعلام" وتسترت بالدين مرة تحت اسم "المشروع الحضاري" ومرة بتبشيره زورا بـ"الحور العين"، لكن كل هذا المسخ التربوي والقمعي والأيدولوجي، لم يجدي في ظل العالم المفتوح، فخرج هذا الشباب يطالب بحياة كريمة وحرية، وطالعتنا على الشاشات وجوه لجيل جديد حالم بالتغيير، مختلفة عن طبقة السياسيين القدامى من جيل آبائهم ممن دمرتهم سلطة الانقلاب الانقاذي في السجون والمنافي وتشريد الصالح العام.
  5. اتسمت المظاهرات بأنها "عميقة الجذور"، في عمق الحواري والشوارع ، وليس العاصمة والميادين الكبري، وهو وضع يكاد يكون "معكوس" مظاهرات 25 يناير في مصر التي لم تعرف طريقها تقريبا للأحياء الشعبية ولم تخرج كثيرا من الميادين الكبرى وكادت أن تكون مختفية في المدن الصغرى. وهذا يعطي مؤشرا أن المظاهرات ستتواصل وبقوة.
  6. اتسمت المظاهرات بـ "الوعي الرائق" غير الملتبس بأي شعارات أو مساحات دينية، فهي تطالب ببساطة بحياة كريمة وديمقراطية دون لبس، وهو أيضا أمر مختلف عن مظاهرات الربيع العربي التي تخاطفها الاصوليون والمتطرفون والجهاديون من كل حدب وصوب، ربما كان وراء هذا الملمح أن الكيزان (الإخوان المسلمين) هم الذين يحكمون وتخرج ضدهم المظاهرات، أو لأن السودان مدرسة ديمقراطية في الانتفاض الشعبي ولديه انتفاضتين كبيرتين عامي 1964و1985، أو لأن الثقافة السياسية السودانية لها بصمتها الخاصة. 

وهنا يجب التفريق بين (عدم رفع شعارات دينية) و "مشاركة اسلاميين" في المظاهرات، فقوى سياسية تحمل أسماء إسلامية شاركت وأصدرت بيانات تدعم الانتفاضة، كذلك فعل دعاة إسلاميون وأئمة مساجد معتبرون لهم وزنهم، لكن هذا أو ذاك فعل ذلك بوصفها انتفاضة خبز وحرية ضد الافقار والقمع والديكتاتورية.  

  1. أن الانتفاضة جوبهت بتجاهل سياسي دولي من الكبار بشكل غير مفهوم في الوهلة الاولى، فإدارة ترامب، والاتحاد الأوربي اعتبراها غير موجودة. والغريب أن الإعلام الدولي (الديمقراطي) والمفترض استقلاليته حذا حذو حكوماته. لكن المتامل عن كثب لهذا التجاهل يمكن أن يدرك مغزاه ببساطة، ذلك أن "المجتمع الدولي" انتقل من مرحلة معارضة البشير والسعي لاطاحته، خاصة بعد نجاحه في فصل الجنوب السوداني، وشل الغرب، إلى مرحلة (التواكب معه)، منذ صدور تقرير "كارتر لمراقبة الانتخابات" الشهير، أن الانتخابات السودانية لا توافق المعايير الدولية، لكن الاعتراف بها ضروري لحل مشكلة الجنوب (بالانفصال)، وقد زاد الطينة بله مقدم ترامب وسيطرة الجمهوريين على الدفة، ويتضح ذلك أكثر في تفاوض الإدارة الأميركية معه سرا وعلانية إلى حد رفع العقوبات (ولو بشكل غير كامل) وزيارة نائب وزير الخارجية الأميركي للخرطوم، كما أن إسرائيل تدير مفاوضات سرية على وشك أن تؤتي بثمار بشأن التطبيع مع نظام البشير، هذا علاوة على أن "مولد الربيع العربي" قد سحبت أميركيا وأوربيا سجادته، ومن ثم فإن الانتفاضة جاءت في غير موعدها. بعبارة أخرى فإن الولايات المتحدة والغرب يفضلان "ديكتاتورا" "مطلوبا للجنائية الدولية" "مرفوضا من شعبه" على  ممثل ديمقراطي منتخب لشعب ثائر، لكن تطورات الانتفاضة قد تفرض موازين أخرى مختلفة.
  2. أن الانتفاضة جوبهت بارتباك عربي واضح معها، فبالرغم من الحكم الموجود في السلطة (إخواني) لكنه في النهاية (ديكتاتوري ) و(قمعي) ، كما ان الانتفاضات غير مرحب بها. ومن ثم يمكن فهم هذا الارتباك، وأن دولتين في وضع متضاد مثل (البحرين) و(قطر) أيدتا السلطة السودانية في مواجهة شعبها المنتفض، وغالبا ستتشكل الخريطة العربية مع الأيام تجاه الانتفاضة بالتداعي.
  3. أن المظاهرات هي جنين انتفاضة لا نهاية لها إلا بمشروع تغيير، فالأزمة الاقتصادية مستفحلة حيث تجاوز الدولار إلى60جنيه ولايزال يتصاعد، والتضخم في تزايد وارتفاع الاسعار متواصل، ودخول الناس الفعلية وصلت الى الحضيض، وفي نفس الوقت لم تعد السلطة تملك أي أفق لأي حل في ظل انسداد سياسي محكم، وقمع يولد سخطا على مدار الساعة، وفي ظل تخبط سياسي خارجي تدفع برئاسة عمر البشير إلى تبني "تكتيكات بلا استراتيجية " في العلاقات الخارجية، وصلت به إلى فعل الشيء ونقيضه، وفتح العلاقة ونقيضها، والتخطيط لاستعادة العلاقة مرة مع سورية ومرة مع اسرائيل.

في نهاية المطاف .. قد يكون المخرج استيلاء الجيش على السلطة، والإتيان بمجلس رئاسي انتقالي، أو بجنرال جديد يحمل رتوشا سياسية مختلفة. وقد يتطور الأمر أكثر لاتفاق أو حل وسط مع  قوى تقليدية سودانية في ظل عودة الزعيم التاريخي ومهندس السياسة السودانية الصادق المهدي. وقد تقمع الانتفاضة أو تهدأ وتيرتها وقتيا، لكن ليكون هذا أكثر من "شهادة تاجيل مؤقتة" تعود بعدها بشكل أكثر زخما بعد شهور. 

حديث السيناريوهات يطول لاشك، لكن أوضح ما في الصورة، أن الشعب السوداني خرج من قمقم حبس فيه 30 عاما ، خرج ولن يعد 

ختام

مساجد تؤذن حي علي الحرية حي علي الثورة 

وضعت الانتفاضة السودانية بصمتها الخاصة على حركة شبابها ، فقد توزع أبناء أم روابة على مساجدها ليلا، وقبل صلاة الفجر كان كل واحد منهم يؤذن في مسجد، (حي على الثورة –حي على الحرية ، حرية سلام عدالة –الثورة خيار الشعب)، وعندما أشرقت الشمس فوجئت السلطات بكل الناس تتظاهر في الشوارع

-------------

طرفة سودانية

لدى اعتقال المناضلة دكتورة احسان فقيري، أصيبت بالجوع الشديد، فطلبت من أحد الجنود أن يشتري لها ساندويتش فسمح له الضابط. لكنه عاد بعد ساعتين كاملتين ، قائلا (اتاخرت عليكي مافي عيش)، فردت فقيري (حقك يعتقلوك معي، أنا ذاتي ما قلت مافي عيش).
-----------------
تقرير- خالد محمود