17 - 07 - 2024

تباريح مجدى شندى ... قراءة فى ديوانه لغة تشبهنى

تباريح مجدى شندى ... قراءة فى ديوانه لغة تشبهنى

(تقول النبوءاتُ بأنك عما قريب/ ستعبر صحراء موحشةً إلى واحةٍ/ من صفاءٍ صامتٍ/ غضٌ نضير/ للقلبِ .. هذا ربيع أخير)، بهذه التجليات يفتتح مجدى شندى ديوانه (لغةٌ تُشبهنى) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. نتعلق بقشة الأمل، بغد يحمل بين حناياه بسمةً لحزين وطبطبةً لمجروح. معلقون على مشانق الحاضر نتنسم رائحة الغد، شكله، رسمه، سمته. نهرع إلى (العرافة المقدسة) كما لقبها أمل دنقل فى رائعته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، و(عرافة الدلفى) كما أسماها الشاعر العراقى عبد الوهاب البياتى فى (القصيدة الإغريقية)، و(قارئة الفنجان) عند نزار قبانى، وكما جلس سانتياجو باولو كويللو فى فريدته (الخيميائى) بين يديها تفسر له حلماً يعاوده من حين لآخر، وغيرهم أدباء وشعراء كُثر فُتنوا بالغد ونسوا اليوم.

ومثل كثيرين نقع فى فخ غوايات النهايات، ففى نبوءة شندى هناك واحة ينعقد بها حبل الأمل وتهدأ بها النفس لكنها لا تخفى ضرورة اجتياز الصحراء، ويا لها من صحراء تختلف عن تلك التى عرفها العربى القديم، خيل وفروسية ومغامرة وكرم وليل وقمر وحب وشعر يصدح فى الآفاق، فصحراء شندى موحشة يملؤها الخوف وإن لم يُنسه ذلك حلو النهايات.

بعفوية تفيض قصائد الديوان بما تطفح به صدور الكثيرين من بنى البشر، الخوف، الخوف من المجهول، من غد لا ندرى بأي ملامح يكون، من صدق يقابله كذب، من وضوح يواجه خداع، من حقيقة يقابلها زيف، فراح يبحث عن مكان لا تصله يد بشر ولا يراه فيه أحد، يقيم فيه مملكة الخلود، يقول (خبئيني الآن في حقائب السفر/ خبئيني في السمر/ وفي الفجر الملاوع خبئيني/ وفي النوار، ينتظر الشمس كي يشرئب، وفي ساحر العطر خبئيني/ وبين حنايا الورود النابتة/ في جنبات الصخور/ وفى السحاب خبئيني/ فى قطرات المطر/ ...).

صاغ شندى قوانين وتعاليم مدينته الفاضلة من وصايا الأم، يقول فى قصيدته "فقه المسافر فى الضباب"، (اسرج خيولك جيداً/ واشحذ سلاحك قبل نطق الحرف/ لا تعجل/ قدم ورودك أولا فى ساحة الحرب/ وبادئ بالسلام/ ولا تجبنْ لحظة الوغى/ أو تلتفتْ للخلف .. فالرمح يا بُنَيَّ/ يشتهي ظهر الحريصِ على الحياة/ كن واحدًا متفرِّدًا في العشق ...لملمْ شراع القلب إن هبّت الريحُ العتية/ كن صخرةً إن حطّت أطاحت / بمعابد الأوثانِ ..لا تخشَ انكسارًا/ أو شرارًا في عيني صنم/ ولا تقاتلْ فارِسًا كُسِرت قوائمُ خيلِه/ أو صار أعزلَ .. من سِلاح، .....)، تعاليم وآداب توارثتها أجيال من الحالمين بالحق، والعدل، والجمال، والحرية. يسعى بها المثاليون فى ساحة الجبناء، لا يغريهم تخاذل الكماة، ولا تراجع الآخرين فالإنسان هو الغاية دائما أبدا (كن البهى .. فى الحضور وفى الغياب/ كن أنت أنت/ ولا تساوم).  

تعاليم تتسق وخيط الدين الـمُستتر فى خلفية بعض تراكيب القصائد البادى فى مفرادات الأبيات (الكعبة، قرب الوريد، وهز إليك بجذع النخلة، فالق الإصباح، ابلعى ماءك، بسملة، السبع العجاف، شق البحر، موسى، مريمه تبكي، نوح، المسيح، الصلب، الفراديس، ...)، وشيئاً فشيئا يعلو صوت التناص فى قصيدة "أنشودة الغياب"، يستحضر قصة سيدنا يوسف، عليه السلام، الغياب، البعد، آلام سيدنا يعقوب، امرأة العزيز، يراها بعين شاعر كَرِهَ الغياب وعذابات العشاق وانسحاق الروح فى فراغ البعاد.

بحثاً عن صدر أم يُنسيه عذابات الفراق راحت خيالاتها ووصاياها وملامحها تتعقبه، أو يتعقبها هو، ففى كاحل قدميها الأمان (وكانت سمراءَ/ مثل النيل/ فلما استراحت فوق كف الإله/ استحال الطمي شمعًا/ يختال في كفن/ أمى/ ظلت تنتظر فتاها ليكلل جيد العمر بباقة ورد أخيرة/ لكن برد المطارات حرم عينيه السادرتين في الغياب شجن الوداع، ....). أدبياً، يتنوع رمز الأم فى الشعر والقصة، أُماً بيولوجية، أو وطناً، أو مدينة تشع من جنباتها أنوار الحق. الأم وطن الوليد ورَحِمَهُ حين يغمض عينيه عن الحياة ليبصر ما خلف السُتر حيث الحق والخير والجمال.

عبر قصيدة "طريق" يأخذنا شندى إلى التنوع اللغوى فى الشعر والذى بدأه الشاعر الإنجليزى ت. س. إليوت فى قصيدته "الأرض الخرابآ The Lost Land" مازجاً بين أكثر من لغة وثقافة مع إشارات أدبية تتنوع مصادرها من لغات حية، إسبانية وإيطالية وغيرهما، وأخرى شبه مطمورة، السنسكريتية، يقتصر استخدامها على المعابد الهندية. حاكاه الشاعر العراقى عبد الوهاب البياتى فى رائعته "قُداس جنائزى إلى نيويورك" تنوعاً لُغوياً مزج بين اللغتين العربية والإنجليزية فقال ضمن ما قال، "... تذرف دمعاً فسفورياً، عين الوحش الحجري الرابض قرب البحر/ يعد نقود الصرافين ويقرأ طالعه في سفر الرؤيا/ .... In Fifth Avenue ينطفئ النور Tell what was that".

تفصح اللغة عن مكنون الشاعر أكثر مما يرغب فى البوح به، ليصير وحى الكلمات أهم من الكلمات، وبقدر الغوص تستبين الدرر. يمتد الخيط الصوفي عبر أقسام الديوان، الأول، اشتهاء اليمام، ليفيض شندى عبر قصيدته "مفتتح العشق"، (خمسون عامًا وأنا في مفتتح العشق/ فكم عمرًا أنا أحتاج حتى أبلغ منتهاه/ خمسون عامًا/ لا في السهول الجياد استراحت/ ولا ورودي بسرها باحت/ ولا النوارس تبلغ ما تشهت/ من رحيل/ على هذه الأرض ما نشتهي..عليها ما نكتوي بلظاه/ على هذه الأرض ما يشق الروح ضغثا فضغثا/ وحلما فحلما/ فتنداح أرواحنا شظايا/ في فجاج بعيدة / وتبقى القصيدة/ تاريخنا الشفهي والمسلوب من رحم الحياة).

فى حين يستهل القسم الثانى، نشيج بدائي، مترنماً، (بسملي .. واقتفي خُطى الأولياء/ غرِّدي، وانشدي/ للبهاء/ وشدّي وثاق الحروف إلينا/ إن نوازل الأشواق تأسرنا/ وتمضي/ ....... / أنا المفتونُ بالحرف البهي/ وباختزال الياسمين/ أنا آمين فاتحة الكتاب/ وياء النبيين، عين العاشقين/ أنا المفتون باللؤلؤ/ أنا المعجون بالشوق الشهي/ وباكتناز نفخة الروح العصي/ ليصير آدم المغوي - مرة أخرى – سويا، ....)، مصهور مصرى خالص قُدت سبائكه من روح انجيل يوحنا، (فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ)، ومن فيض (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، سورة النساء فى القرآن الآية 171.

ففى داخل الشاعر إلحاح ورغبة فى العيش فى عالم ملائكى يعتمد على مبدأ (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) سورة النحل الآية 50، لا شيطانى تحكمه قاعدة (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)، الآية 61 من سورة الإسراء، لتتقاطع أمنياته بمقطع من قصيدة محمد القلينى "طردونى من العمل"، حين قال (... أنا قوي يا الله/ يمكنني أن أحمل جبلاً عظيما لأثبت به/ قلب امرأة غرق ولدها/ وهو يحاول الوصول إلى أحلامه/ التي تنتظره على الجانب الآخر من البحر/ ثم إنني أجيد التفاوض/ ولدي مهارة عقد الصفقات/ مما يؤهلني لإقناع الشيطان/ بأن يكفر عن ذنبه ويسجد لك../ ربما بهذا يدخل كل البشر الجنة../ ..)، سعى دائم إلى المدينة الفاضلة.

أيضاً، لا يخفى على القارئ انشغال الشاعر بفكرة الحلول ووحدة الوجود، الشيء يعبر عن كل الأشياء، هذا لمن يستطيع قراءة الإشارات والتلميحات، يقول فى قصيدته الخيول (..... وماذا أقول وأنت الكلام/ وكيف أحول عنك عيوني، وأنت البصر/ وأنت المقام الأمين وأنت السفر/ وأنت حنايا الروح ، الشغوفة نحو المعالي/ وطوق النجاة بوقت الخطر/ أسافر منك إليك/ وأهجر ذاتي حنوا عليك/ فمنك البدء ومنك الختام).

فيض من بعد فيض، تضيق به المعانى والمفردات وما فى الصدر صبر على الكتمان فيصرح دون مواربة فى قصيدته "إشارة" (خفيك ظاهر لي/ وظاهرك خفي عني/ أراك بعين تجاوز كل العيون / وأنصت ماشئت / بأذن فوق مدى اﻵذان/ اتنفس - حين تعرض عني- فإذا أنت هوائي/ يرف القلب .. أظنه انشغالا عنك/ فإذ بك أنت الرفيف). معان تتوافق ومفردات الشيخ الأكبر، محى الدين بن عربى، (عنها أكني واسمها أعني/ وكلُّ دار ٍفي الضحى أندبهُ، فدارها أعني/ توحد الواحدَ في الكلِّ/ والظلُّ في الظلِّ/ وولد العالمَ من بعدي ومن قبلي). تباريح هى أم نفثة مصدور أم زفرة مكظوم ... أم عساها الأمل فى (وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة)، ولا أُزيد.

------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد