19 - 10 - 2024

متى تغفرون؟

متى تغفرون؟

أَىُّ خصومةٍ تلك التى نزعت الرحمةَ من القلوب والرُشدَ من العقول .. فلم تعد تَرَى الظُلمَ يطحن الخصم .. ولَم تبصر أن ظالمه هو ظالمها وهو المستفيد من استمرار الخصومة .. ما أقسى ظلم المظلومين للمظلومين .. أَىُّ جرحٍ ذلك الذى لم تكْفِه خمس سنواتٍ ليندمل؟! .. وأىُّ شيطانٍ ذلك الذى ظَلَّ يؤجج النيران طوال هذه الفترة (ولا يزال)؟!

قبل أيامٍ، سُمِح لمحمد البلتاجى (فَرَّج الله كربه) بالخروج من القفص الزجاجى فى قاعة المحكمة والجلوس تحت قَدَمَى أُمَّه المُقعدة، فغضبَ البعضُ واعتبروا ذلك دليلاً على صفقةٍ بين النظام والإخوان!!!! .. لاسيما وقد انتهت الجلسة بتبرئة البلتاجى وقيادات الإخوان، بالتزامن مع الحكم على أحمد دومة بخمسة عشر عاماً وغرامةٍ مليونيةٍ (متغافلين عن أن هذه براءةٌ واحدةٌ ضمن عشرات الإعدامات والمؤبدات .. وأن هؤلاء المُبَّرَئين محبوسون بالفعل منذ خمس سنواتٍ حبساً انفرادياً وأموالهم مصادرة وعائلاتهم مشردة .. والأهم هو أن ظُلمَ دومة لا يُبرر ظُلْم بديع وإخوانه).

فى المقابل، فإن الحكم على دومة (فَرَّج الله كربه) حَرَّكَ لدى البعض روحاً من الشماتة فى هذا الشاعر الشاب الذى فقد زوجته حبيبته وأجمل سنوات شبابه محبوساً فى زنزانةٍ انفراديةٍ بسبب لفظٍ منفعلٍ فى برنامج تليفزيونى .. وهى شماتةٌ تتكرر كلما أصاب واحداً من التيار المدنى مكروهٌ (متغافلين عن أن أحداً من هؤلاء لم يَدْعُ إلى انقلابٍ .. وإنما أقصى مطالبهم كانت انتخاباتٍ رئاسيةٍ مبكرة .. وهو مطلبٌ ديمقراطى لا جريمة فيه .. شاركهم فيه بعض قيادات الإخوان .. حتى من أَيَّدَ منهم فُض رابعة سلمياً لم يَدعُ إلى مجزرة ولَم يطلق رصاصة، فضلاً عن أنه لم يكن صاحب قرار .. لكن الأهم أيضاً هو أن ظلم بديع وإخوانه لا يبرر ظلم دومة أو معصوم أو القزاز أو شادى أو غيرهم).

مشاكل مصر كثيرة .. بعضها مُستجد وبعضها متوارث .. والورم متمددٌ من القمة إلى القاع .. فى مثل حالتنا لا يوجد حلٌ واحد .. وإنما هناك نقطة بدءٍ وفقاً لما تقول به أبجديات علم الإدارة .. نقطة البدء فى رأيى هى احترام القانون .. وحيث إن الدستور هو القانون الأعلى، فإن نقطة البدء هى احترامه .. واحترامه يعنى تنفيذ مواده ومن بينها العدالة الانتقالية التى لم تُنَّفَذ ويراد إلغاؤها .. والتى تعنى كشفاً وحساباً عادلاً لكل وقائع الدم والخلاف، مبنياً على تحقيقاتٍ قضائيةٍ مستقلة .. لا على مزاعم محامى مبارك .. تنفيذ الدستور يعنى بناء وطنٍ لا تمييز فيه بين المواطنين فى الحقوق، لا على أساس الدين ولا اللون ولا الطبقة ولا الفئة ولا الجنس .. نفس الحقوق فى التعليم والصحة وممارسة شعائر العبادة وتولى المناصب العامة ... والجيش فيه حارسٌ لا تاجر .. والقضاء مستقلٌ لا تابِع .. والرئيس مؤقَتٌ لا مؤبد .. أجيرٌ لا مُشير .. إلخ.

لذلك فإن التصدى للعبث بالدستور ينبغى أن يكون معركة كل المواطنين بلا تفرقة .. وأعتب على الأصدقاء من الجانبين الذين لا يزالون يَجْتَّرُون المعارك القديمة والمرارات القديمة والإشاعات القديمة إلى الآن رغم ما أصاب الجميعَ من بطش الديكتاتور بلا تفرقة .. متى تغفرون؟ .. أىُّ جُرمٍ ذلك الذى لا تكفى هذه السنوات الخمس العبثية لغفرانه؟!.

إن اجترار معارك الماضى القديم والقريب لن يقنع أحداً بتغيير أيديولوجيته .. لا الإخواني سيُصبِح ناصرياً ولا الناصرى سيُصبِح إخوانياً .. وهكذا بالنسبة لكل التيارات والفصائل .. أتكلم عن الأفراد لا التنظيمات، والسياسة لا الدين، والأفكار لا الخناجر .. هؤلاء ظلوا موجودين على مدى عقود .. ولم يستطع أَىٌّ منهم أن يقضى على الآخرين .. لكن هناك نفراً من المتعصبين فى كل فريقٍ يتوهمون القُدرةَ على محو خصومهم .. وهو خيالٌ مريضٌ يُعادى المنطق .. فضلاً عن أن هذا ليس وقته بالمرة، فالوطن يضيع .. التعليم الجيد فقط هو الكفيل بتنقية التاريخ من أكاذيبه والأفكار من شوائبها .. وذلك يستغرق وقتاً.

أهدتنا السلطة بعبثها الدستورى فرصةً ذهبيةً للاصطفاف فى معركةٍ لا عذر لمن يتخلف عنها .. قد يكون هناك منطقٌ فى رفض اصطفاف تنظيماتٍ أو أحزاب .. أما الأفرادُ فلا يملك مصرىٌ أن يصادر حق مصرىٍ فى مقاومة الاعتداء على الدستور .. طالما لم يرفع سلاحاً أو ينهب مالأ .. فلا تضَّيِقوا جبهاتكم .. أُفسِحوا يَفسَح اللهُ لكم .. ثم اختلفوا بعد ذلك ما شئتم فى وطنٍ  لا مكان فيه إلا للقانون الطبيعي .. لا قانون الأحكام العرفية ولا الجلسات العرفية .. الدستور معركةٌ تتسع لكل مصرىٍ أيَّاً كان انتماؤه أو مكانه .. فى المهجر .. أو المَنفَى .. أو السجن الصغير .. أو مُحَاصَراً فى السجن الكبير .. جمهورية مصر العُرفية.
--------------------------------
بقلم - يحيى حسين عبد الهادى

مقالات اخرى للكاتب

بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان