28 - 06 - 2024

شبورة المشاريع

شبورة المشاريع

كلما ارتفع صوت متسائلا عن موعد انفراج الأزمة وانكشاف الغمة أسكتوه بالمشاريع، وما إن يتشكك أحدٌ في جدوى ما نحن فيه سائرون عللوه بالمشاريع، وبمجرد أن يطالب أحدهم بمعرفة ما أنجز وما يمكن أن ينجز أمطروه بالمشاريع، فالأمل معقود على المشاريع، والمستقبل أكثر إشراقاً بالمشاريع، وكل ما عليك أن تفعله هو أن تراقب المشاريع على مدار الساعة أو ربما الدقيقة، لكن لا تحاول أن تحصيها، لأنها أكثر من أن تحصى، وأخفى من أن تظهر، وأرق من أن تحس، فقط اصبر وتفاءل وتحمل وابتسم.

لا غبار على المشاريع، وما أحوجنا إليها، فهي التي تنشر فرص العمل وتنعش الأسواق وتحرك الاقتصاد، لكن الخشية أن تتحول المشاريع إلى شبورة تحجب الرؤية ولا تأتي بالمطر، ومن ثم فلابد من نظرة نقدية تساعد على الفهم وتقود إلى نقاش مجتمعي أكثر وعيا لا يهتم بالأسماء أو الأحزاب، لكن يسعي إلى تصوبب الخطى وتصحيح الخطأ إن وجد.

كانت كل المشاريع الوطنية في مصر الحديثة على الماء، بدءاً من قناطر محمد علي، إلى بناء ثم افتتاح قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل، مروراً بالسد العالي لعبد الناصر،  ثم بإعادة الملاحة لقناة السويس وقت السادات والمنطقة الحرة التي أقيمت حولها، وصولا إلى مشروع توشكى لمبارك، وانتهاءً بتفريعة قناة السويس التي كانت تسوق على أنها قناة السويس الجديدة. كانت كلها مشاريع تنمية واقتصاد بعيداً عن الإصلاح السياسي، لكن ظلت السياسة كما هي؛ حاكم مطلق وإصلاحات سياسية على سبيل المكياج، وبالتالي فإن المسار الذي اتخذته النهضة المصرية التي بدأها محمد علي منذ بداية القرن التاسع عشر كان مساراً انحدارياً انتهى بالاحتلال الكامل سنة ١٨٨٢ والاحتلال الجزئي سنة ١٩٦٧، وتهاوت العملة وتزايد الدين العام تدريجياً على مدى كل عقود القرن العشرين وما تلاه، وأصبحت  أهم صادارت مصر هي العقول المهاجرة وأحياناً الهاربة، مما يعنى بوضوح أن لدينا مشكلة، ومما يؤكد أننا مصرون على طريقة واحدة لحلها: طريقة المشاريع.

المشاريع أدوات تحتاج إلى إستراتيجية.. تحتاج إلى رؤية لا يقدر الحاكم بمفرده على تكوينها، فالدور الحقيقي للحاكم هو إدراك أهمية أن تكون هناك رؤية، وأن يفتح المجال أمام كل طاقات الفكر والإبداع لأن تصوغها، لكن إذا انفرد هو بعزف اللحن في نظام مركزي عتيق فلن يرحب إلا بآهات الإعجاب وقصائد المديح، حتى وإن صار الوطن في مهب الريح.

يتحدث جيمس آلان رئيس مؤسسة "بن للممارسة الإستراتيجية الدولية" في كتابه "الأركان الخمسة للنمو" عما أجمعت عليه نتائج دراسات كثيرة في مجال النمو الاقتصادي، ويخلص إلى خمسة أركان جوهرية لا نمو بغيرها، وهي تحقيق الاستقرار في الحقل الاقتصادي الأشمل، وتوفير بيئة مواتية للعمل والمشاريع، وإقامة أنظمة حكم رشيدة ومؤسسات قوية، وتقديم إصلاحات اجتماعية تحقق تكافؤ الفرص، وإدارة البيئة بما يحفظها ويحسنها. وبالتالي فإن الدولة أهم من النظام، والشعب أهم من الحكام، والإنتاج هو الإنجاز، والمساواة بناء والتمييز هدم، وبيئة المشاريع أهم من المشاريع نفسها... بعبارة أوضح فإن الاتجاه الأهم هو معالجة عجز الموازنة، وخفض الدين، وخلق فرص العمل والمنافسة، وإقامة مؤسسات قوية مستقلة تنهى احتكار السلطة وتسقط الحصانة عن الجميع من أجل الجميع، وجعل الصحة والتعليم في مقدمة الهموم والخطط، فليس بالتابلت وحده ينصلح أي تعليم، ولا صحة بغير تعليم. بصراحة أكثر فإن أول من يدفع ثمن الإصلاح الحقيقي هو الحاكم، لأنه مجبور ساعتها على أن يتنازل عن جزء من سلطاته، وهو ثمن ليس باليسير.

الإنجاز الحقيقي يبدأ ببناء الإنسان وإطلاق طاقات الفكر والنقد والإبداع، أما أن تتعلق آمالنا على إنشاء الطريق الأطول وبناء المسجد الأكبر والمبنى الأعلى والحديقة الأوسع فلا يعني سوي أننا تنلهى بأفعل التفضيل أو بالأحرى التضليل، والمشكلة أننا خبرنا كل ذلك الإلهاء جيلاً وراء جيل، فلا فقراً عبرنا، ولا منزلةً ارتقينا .. الإلهاء لا يحل المشكلة لكنه يعمقها ويغيببنا عنها في عن آن واحد. أكاد أقول: إن الفيلم واحد والنهاية واحدة والمتغير اثنان: الممثلون والمشاهدون.
-------------------
بقلم: د. هشام مصباح

مقالات اخرى للكاتب






اعلان