28 - 06 - 2024

الديمقراطية يا ناس!!

الديمقراطية يا ناس!!

كان انتصار المرشح الجمهوري دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأمريكية كاشفاً لما تنطوي عليه صدورٌ كثيرة في أمريكا وخارجها، فقد تبنى في حملته خطاباً عنصريا تجاه الأقليات، وبنى برنامجه على تشييد سور على الحدود مع المكسيك، وخفض الضرائب على الشركات الكبرى، ونقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، كما وصم الإسلام بأنه "يكره أمريكا،" وقلد بشكل ساخر معاقاً في أحد خطاباته الانتخابية، وبالرغم من تسريب تسجيل صوتي قديم له ينصح فيه أحدهم بأنه إذا كان مشهوراً فإنه يستطع أن يمسك النساء من موضع عفتهن دون عواقب، إلا أنه لم يخسر تقدمه في الانتخابات وحاز على أصوات الكثير من النساء، وفاز في النهاية تاركاً الكثير من الأفواه الفاغرة والأسئلة الحائرة، ناهيك عن صدمة الناس في الديمقراطية واتهامهم لها بأنها السبب.. فما الذي حدث؟

كشف نجاح ترمب عن العنصرية الكامنة في النفوس، فجاءت النتيجة مخالفة لمعظم استطلاعات الرأي، وصادمة لكثير من المفكرين والصحفيين في أمريكا، وأظهرت القلق الكامن في صدور البيض الذين بدأوا يشعرون بزحف الأقليات عليهم، حيث تشير التقديرات إلى أنه بحلول العام ٢٠٥٠ سيفقد الأمريكان البيض الأغلبية في المجتمع وينتقلون إلى خانة الأقلية، مما يهددهم بفقدان تميزهم التاريخي في بلادهم، وكان لخطاب ترمب العنصري وقع الموسيقى على آذانهم.. كان نجاح ترمب تطميناً لاشعورياً لهم بأنهم سيظلون الأعلى والأوفر حظاً في الحضارة التي بنوها وجاء غيرهم ليستمتع بها أولاً ويستأثر بها آخراً.

في مجتمع يعشق القوة والثروة كان حتما أن ينجح ترمب، فهو نزقٌ لا يأبه لأحد، فارع الطول مثل كثير من الرؤساء السابقين، وافر الثراء في شعب يرى الثراء دليلاً على النبوغ والنجاح، كما أنه وجهٌ جديد من خارج المطبخ السياسي لواشنطن، وهو قادم بعد رئيس أسود ويتنافس على المنصب مع سيدة، في وقت لم يكن كثيرون مستعدين أن ينتقل الحكم من يد أقلية إلى يد أقلية أخرى.. ليفوز ترمب في النهاية، ويثبت أن العنصرية أقوى من الإعلام وشعارات التعدد والمساواة.

كان نجاح ترمب حجة قوية لدى الساخرين من الديمقراطية والمشككين في جدواها، فلولا تلك الديمقراطية لما وصل شخصٌ مثل ترمب لحكم أمريكا، بل إن الديمقراطية قد تكون سبباً في دمار العالم لأن غرور ترمب وقلة خبرته قد يشعلان حرباً عالمية مهلكة، فماذا جرت علينا الديمقراطية؟ وإذا كان الشعب الأمريكي الواعي قد اختار مرشحا غير ذي أهلية، فما الحال بالنسبة لشعب مازال يعتمد بعضه على الرمز الانتخابي لأنهم لا يعرفون كيف يقرأون اسم المرشح الذي يريدونه؟ ومن ثم فنحن لسنا جاهزين للديمقراطية الفارغة التي أتت بترمب وغيره من المرشحين المتطرفين في أوروبا.

لكن أولئك ما فهموا أن الديمقراطية هي التي تجرد مثل هؤلاء الحكام من أنياب غلوهم، لأنها تحرمهم بعض السلطات، وتجعلهم تحت رقابة المؤسسات، وتحمى حرية التعبير وحق الوصول إلى المعلومات.. نعم جاء ترمب مزهوا بنصرٍ عريض، فنقل السفارة، وخفض الضرائب، وحظر دخول مواطني بعض الدول الاسلامية، لكن في المقابل استمر الإعلام في السخرية منه، والتشكيك في قدراته، بل اثيرت شكوكٌ حول علاقات مشبوهة بينه وبين الروس الذين ربما ساعدوه في الفوز بالانتخابات، فتشكلت لجنة تحقيق، وأدت التحقيقات إلى إصدار أوامر بالقبض على بعض معاونيه وسجن محاميه، وترمب لا يقدر إلا على الاحتجاج من خلال تويتر، بل كشفت إحدى نجمات أفلام الجنس عن علاقة سابقة لها بالرئيس، ورفعت عليه القضايا، دون أن يقدر على اعتقالها أو تشريد أهلها أو تلفيق قضية لها.

قرر ترمب أن ينفذ وعده ببناء سور على الحدود مع المكسيك، وأراد تخصيص ٥٫٦ بليون دولار للمشروع، لكن الكونجرس بزعامة نانسي بيلوسي رفض، ليقرر ترمب أن تتوقف الحكومة عن العمل جزئياً، فلم يأبه الكونجرس وقالوا له: براحتك.. استمر ترمب في الضغط فلم تلن بيلوسي، وعندما أراد أن يذهب إلى الكونجرس لإلقاء خطاب الاتحاد السنوي رفضت وقالت لا خطابات مادامت الحكومة مغلقة.. وفي النهاية خضع ترمب ووقع مرغما قراراً بعودة الحكومة، وتحدث الإعلام الأمريكي عن تلك المرأة التي هزمت ترمب على ملعبه، وأجبرته على احترامها فلم يستطع أن يطلق عليها أياً من ألقاب السخرية التي أطلقها على كل غرمائه السياسيين.

إن السبب الرئيس في استبداد المستبدين هو أنهم يقدرون، فهم كل السلطات وليس هناك من يقدر أن يقول لهم لا. في غياب الديمقراطية يصبح الاستبداد سهلاً، والفساد محصناً، والمواطن مسحوقاً، والوطن ضيعة، والحكم أبدياً، والإعلام مدلساً، والنقد خيانة .. لا أحد يستفيد من غياب الديمقراطية سوي الطغاة، ولذا فإن المشكلة ليست في أن الشعوب ليست جاهزة للديمقراطية، بل الحقيقة أن الحكام هم من ليسوا جاهزين ... ليسوا مستعدين لأن يوجد من يقول لهم لا، وليسوا قادرين على مفارقة السلطة... في غياب الديمقراطية يتحولالحكم إلى مباراة يحرص اللاعبون فيها على الاحتفاظ بالكرة وليس تسجيل الأهداف، لذا يأتي المستبدون ويذهبون والنتيجة صفر.

يقول رئيس رواندا "بول كاجامي": هل يأكل الناس الديمقراطية؟ ماذا يفرق معهم طالما كانوا سعداء؟ ما الذي سيحدث في الدنيا إذا توليت الرئاسة لفترة رابعة؟ ... وذاك منطق كل كاجامي: ماذا يريد الناس من الديمقراطية إذا كانوا يأكلون ويشربون ويتزوجون؟ الرد ببساطة: يريدون أن يستمر ذلك سواء أراد الحاكم أم لم يرد .. يريدون أن يكون العدل فرضاً على الحاكم وليس سنة أو تفضلاً .. يريدون أن يكون الحاكم واحداً منهم وليس إلهاً أبدياً عليهم .. يريدون أن يقولوا لا متى أرادوا، لأن من يقول لا وهو مطمئن أكثر حباً لوطنه ممن يقول نعم وهو منبطح... إنها الديمقراطية يا ناس!!
----------------------
بقلم: د. هشام مصباح


 


مقالات اخرى للكاتب






اعلان