30 - 06 - 2024

محمود مُفلح.. أديبٌ يمتطي ظَهر قصيدة الغُربة والوَجع ويلعن "وثيقة السَّفر"

محمود مُفلح.. أديبٌ يمتطي ظَهر قصيدة الغُربة والوَجع ويلعن

- عشرون ديواناً وأربع مجموعاتٍ قصصية ودراسات نقدية برائحة رمال بحيرة "طبريا"وأسوار "االقدس" العتيقة وبرتقال يافا

- أفخر بانتمائي لقافلة شُعراء الظّل المُهمَّشين غير المؤدلجين بعيداً عن الطبّالين والزمّارين وبائعي القضية وحاملي الأوسمة المزيفة

"محمود مُفلح" أديب فلسطيني؛ تجربة إبداعية امتدت أربعين عاماً، مِن شعراء الصّف الأول كما يصنّفه النُّقاد، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، له عشرون ديواناً؛ وأربع مجموعات قصصية، قُرِّرتْ قصائده في المناهج التعليمية بمصر وفلسطين وسوريا والإمارات والسعودية والجزائر، كُتبتْ عنه العديد من الأطروحات الأكاديمية في الجامعات العربية، وتناوله النُّقاد بالدراسة والبحث، وما يزال يعيش في الظل بعيداً عن الأضواء بسبب الأجواء الفاسدة -على حد تعبيره- رغم أنه من عائلة تسري في دمائها "جرثومة" الشّعر؛ فقد كان جَده وأخوه شاعرَين، لكنه واثق في يومٍ آتٍ ينعقد فيه الغَيم وينهمر المطر؛ كي يزيل الغَبشة عن الأدباء الحقيقيين غير المؤدلجين.

المواجع توأمه، فقد غادر في 1948 ضفاف بحيرة "طبريا" الفلسطينية - التي شهدت مَولده - إلى سورية حيث نال إجازته في اللغة العربية، ومنها للمغرب فالسعودية، وأخيراً مصر التي استقر بها مذ نحو سبع سنوات انتظاراً لوجهة جديدة يعد لها عدتها، لكن الرحيل عانق المغادرة ليفعلا فعلتهما فيكملا لوحته المأساوية، ساعة يرحل عنه أخوه الشاعر "أحمد مفلح" الذي ظُلم كثيراً وماتَ بالغربة، ثم ابنته البِكر في حادث أليم، تليهما زوجته، ثم يغادره الأبناء إلى مهاجرٍ جديدة، حتى مكتبته ذات الخمسة ألاف كتاب غادرها أو رحلتْ عنه، ليبقى وحيداً يمتطي ظهر قصيدة الغربة والرحيل والألم.

"المشهد" تحاور الأديب العربي ليبوح بمعاناته، ويكشف أنّ "القدس" همّه الأول بلا منازع، حين يقول:

يا قدسُ لا تسألي عن بقايا العُرب في لغتي.. فإن بقايا خيلهم شاخت على العلفِ.. إنّي لأخجل من قومٍ بلا هدفٍ.. سبعون عاماً لم تصهل خيولهم.. ولم يجودوا بغير اللوم والأسفِ.

*بدايةً أردته أن يتكلم عن نفْسه فقال:

كلَّ يوم تفرق وضياع

وأنين وغربةٌ والتياع

لم يكدْ يلثم الصغارَ يحط

الرحْلَ حتى يقولَ حان الوداع

هاأنا قد طويت نصف حياتي

ملّت الساق خطوَها والذراعُ

*رحل أخوك الشاعر وابنتك وزوجك فماذا قلت عنهم؟

- الذاكرة تضج بالأفكار والآلام والوجوه، فأخي الشاعر اللافت "أحمد مفلح" مات في الغربة بعيداً عن أولاده وأصدقائه، وقد ظُلم كثيراً حياً وميتاً؛ فله من الأعمال المطبوعة ثمانية دواوين شعرية، ولم يُكلّف أحد من النقاد نفسه في تسليط الضوء عليها؛ رغم عضويته في أكثر من اتحادٍ عربي للكُتّاب والصحفيين؟ وفيه أقول:

أرثيكَ أم أنتَ الذي ترثيني

أم فاضَ من عينيكَ دمعُ عيوني

أرثيكَ أحمدٌ والكلام مبعثرٌ

ماذا أقول ودمعتي تكويني؟

يا شاعرَ الليمون لو أبصرته

لبكيت من ألمٍ على الليمون

أما رحيل ابنتي البكر "اُمامة" في حادث مروع فكانت أشد صدمات النَّفس، وأخيراً زوجتي الغالية "أم حسّان" التي كانت نصفي الأجمل والأغلى؛ وأيقونة شِعري؛ وقنديل بيتي وسَكني وجنتي، ولها كتبتُ:

حبيتي أنتِ لا دمعي بمنقطعٍ

ولا خيالُك ينساني فأنساه

كم كنتِ أخشى عليك الموت يا كبدي

حتى أطلَّ الذي قد كنت أخشاه!

وقال قائلهم هوَّن عليك أسى

فقلتُ دعْني وشأني يرعْكَ الله

فلا تلومنَّ نسراً حين تبصره

مُلقىً على السفح مقصوصاً جناحاه!

*أرى الاغترابَ والرحيل قصيدتك التي لم تكتبها بل كتبتكَ.

- لا أعلم شاعراً فلسطينياً اغترب اغترابي وارتحل من فلسطين إلى سوريا ثم المغرب فالسعودية ومصر، وبالتأكيد هناك محطات أخرى تنتظرني؛ إن لم يتدخل القبر ويُنهي رحلة الضياع هذه، وللأمانة والتاريخ أقول إنّي رأيتُ بمصر مالم أره في غيرها، وجدتُ اهتماماً بشِعري وطباعته وترحيباً به في كثير من الندوات الأدبية، كما لمستُ دِفئاً إنسانياً؛ ومناخاً أدبياً شدّني وأعجبني ومنحني كثيراً من الثقة والأمل، فضمّدَ جرحي؛ بعد أن غادرني أبنائي وركبوا البحر إلى مهاجرهم الجديدة؛ في لحظاتٍ كانت هي الأقسى.

كلَّهم غادروني ولم يبقً منهم أحدْ

آهٍ يا بن البلدْ

وطنٌ رائعٌ أم زبدْ؟

كلهم غادروني ولم يبقَ حتى رماد السجائر

حتى فتاتُ الكلامْ

كلهم رفرفوا..أو غلوا في الزحام!

إلى أين تمضون لا تتركوني وحيداً 

على حجر الموت أنزف

لا تتركوني وهذا الأسى والحطام 

كثيرٌ من القراء لا يعلم أنّي توقفتُ عن الكتابة أكثر من 12 عاماً منذ عام 1994 وحتى نهاية عام 2006 اضطراراً وليس اختياراً، سنوات من الجمر والقهر والظلم والغوغائية، لا أريد أن أقف عندها طويلاً كيلا ينزف الجرح من جديد وأضطر إلى التوقف ثانيةً، أدعها للتاريخ ليقول كلمته العادلة.

*ما أكثر ما يؤلمكَ عدا غياب الوطن؟ 

غياب الهوية؛ بمعنى أن الفلسطيني لا يملك "جواز سفر" ككل الناس! بل يحمل "وثيقة سفر" لا تُخوّله السفر إلى أيّ مكان يريد، وللأسف فإن هي مرفوضة من قِبل كثير من البلدان العربية؛ فلا نستطيع زيارتها، وتجربتي في هذا الصدد قاسية.. فكم مرة دُعيت إلى مهرجانات أدبية أو لقاءات تلفازية ولم أستطع التلبية بسبب الوثيقة اللعْنة التي فُرضت علينا، وهذا ما دفعني إلى القول ساخراً وباكياً في آنٍ واحد:

صدقتمْ دينكم ديني

ولكنّي فلسطيني!

وأتلو مثلكم في الفجر والزيتون والتين

ولكنّي فلسطيني!

وما وجدوا سوى ظهري لأمطار السكاكين

لأني من فلسطين

وقالوا: أنت ممنوعٌ سوى من جوف تنّين

لأنك من فلسطين!

يا سيدتي؛ ظُلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على النَّفسِ من وقع الحسام المُهنّدِ، وكما قال الشاعر القديم: ولو كان سهماً واحداً لاتقيّتًه .. ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ!

مهمومٌ أنا بالقضايا الوطنية والإنسانية؛ أعكس مرارة الإنسان وانكساره في كل ما أكتب؛ خاصة فلسطين التي تجري في عروقي وحملتها مذ بداية وعيّي، ومذ حملتُ القلم هَماً؛ ونفياً؛ وأملاً؛ وهوية، وقلّ أن يُقرأ لي نصٌ لا يُشم فيه رائحة برتقال يافا؛ أو عنب الخليل؛ أو أسوار القدس العتيقة؛ أو رمال بحيرة طبريا.

كم يؤلمني الذين تاجروا بقضيتنا، وأسلموا كل المفاتيح لعدوّنا اللدود، وصاروا خُدّاماً له، ينفّذون مخططاته الماكرة، وهم يحملون أوسمة مُزيفة ويتصدرون المجالس والشاشات! هم أسماء كبيرة، لهم طبّالون وزمّارون، وسواد شعبنا الفلسطيني في منافيه القديمة والجديدة يعاني الغربة؛ والشّتات؛ والعوز؛ وضياع الهوية، فإذا أردتَ أن تفسد ثورة أغدِق عليها بالمال، ورغم ذلك واثقون أن قضيتنا لن تموت، لأنها قضية حق وعدل، وشعبها قادر على اجتراح المعجزات واستنبات ورود النصر، وقلب الموازين وتصحيح المسار.

أمّا على المستوى الشخصي؛ ففي يوم ما سينعقد الغيم وينهمر المطر؛ لأنّي أعلم حجم الظلم الذي وقع عليَّ وعلى أمثالي من أدباء الظل غير المؤدلجين ولا المنتمين إلى أحزابٍ وهيئاتٍ وشِلل؛ لأن طبيعتهم تأبَى الانقياد إلا إلى صوت الضمير؛ ونداء الموهبة؛ وصرخة الإبداع الحق، وبكل فخر واعتزاز أنا أحد هؤلاء المُهمّشين؛ الذين ينزفون بصمت؛ دون أية وسيلة اعلامية تتحدث عنهم، أو مؤسسة رسمية تتبنى أعمالهم وأسماءهم كما تفعل مع أنصارها رغم قلة موهبتهم وضَعف إنتاجهم.

عشرون عملاً مطبوعاً لم تًلق ناقداً منصفاً يلتفت إليها؛ أو قناة واحدة تحاور صاحبها؛ أو صحيفة تفرد لكل هذه الأعمال صفحة واحدة! ومن هنا أجد أن من واجبي أن أشكر صحيفة "المشهد" على مبادرتها هذه؛ وهي في رحلتها للبحث عن الأصوات الأدبية المهمشة على امتداد الوطن الكبير، والذي يعزّيني دائماً أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأن الزبد يذهب جًفا، وللقارئ العربي المنصف عيْنٌ لا تُخطئ، وهذا ما جعل كتاباتي تنتشر إلى حدٍ ما في أنحاء الوطن العربي، وجعل طلاباً يقبلون على نتاجي الشعري؛ وينجزون فيه أطروحات الدكتواره والماجستير، ودخلت قصائدي في بعض المناهج الدراسية في جامعاتنا ومدارسنا.

*حدِّثنا عن مكتبتك؛ قد علمتُ أنك قارئ نَهم.

- لو كان كل ما اشتريته وأهديته من الكتب لديّ الآن لكان بحوزتي على الأقل خمسة آلاف كتاب مذ بدأت تكوين مكتبتي الخاصة، وقد لا تُصدقينّي إن قلتُ أنّي لا أملك الآن غير عشرين كتاباً! أما البقية فقد ضاعت في الرحيل المفاجئ والقسريّ أحياناً؛ والذي لا يحتمل أن أحمل فيه كتباً أو أدفع أجرتها من بلد إلى آخر في المطارات، ففي دمشق تركت مكتبتي للأصدقاء،وكذا في المغرب، أما السعودية فتركت ما يزيد عن ثلاثمائة كتاب عدا المجلات والدوريات الأدبية، وهنا في مصر أتخلى عن كتبي مضطراً كلما غَيرتُ عنواني ولم تسمح ظروفي أن أنقلها معي.

*لك مجموعات قصصية وكتابات نقدية فهل أخذَتكَ من الشِّعر؟

- قدري ان أكون شاعراً، بَيْد أنّي أحببتُ القصة القصيرة كثيراً، وأُعجبتُ بشكل خاص بالقاصّين الرائعين "يوسف أدريس" و"زكريا تامر"، وقد أنجزتُ أربع مجموعات، طُبعت منها ثلاث وبقيت واحدة مخطوطة، ولا أدري لمَ توقفتُ عن كتابتها، فمنذ العام 1985 لم أكتب قصة واحدة رغم إغرائها لي بين الحين والآخر، وكأن الشِّعر أكثر اغراءً وانسجاماً مع طبيعتي القلقة والحساسة والسريعة الانفعال؛ فسرقني منها وضمني إلى كتيبته! كما غادرت النقد الأدبي الانطباعي الذي أنجزت فيه كتاباً كبيراً بعنوان (نظرات في الأدب السعودي المعاصر) ومازال مخطوطاً بحكم إقامتي الطويلة في السعودية – خمسة عشر- عاماً، واطلاعي الواسع على النتاج الأدبي هناك، وكنتُ أنشر ما أكتب في جريدة "الجزيرة" تحت عنوان (ورقة نقدية).

*لك موقف خاص تجاه الحداثة في الشِّعر العربي؟

لا أسمح بلوثة التغريب أن تغزو جسدي الشِّعري، وآخذُ على كثير من الشعراء ذوبانهم الأعمي في الشِّعر الأوروبي بحجة الحداثة والمعاصرة والعالمية والماء الذي لا يتجدد لابد وأن يُستنقع! وأنفرُ كثيراً من مصطلحات شاعت مؤخراً في النقد مثل: تفجير اللغة ونبذ الماضي، لذا أقول:

وإذا شممت من القصيدة عجمةً

مزقّتها من قبل أن أتمزّقا

شيخوخةً الشعراء تبدأ عندما

لا يكتب الشعراء شيئاً مُعلقا

وأرى قصيدة النَّثر (النُثيرة) ابن شرعي للشِّعر العربي وأكثر انتماءً إلى تراثنا، كتبها "الماغوط" بجدارة وفشل الكثيرون، وما يدرينا قد ينجب هذا النوع من الشِّعر نوعاً آخر أكثر حداثة ما دامت الحياة لا تتوقف.






اعلان