28 - 06 - 2024

"شيئ من الخوف".. وأشياء أخرى

من يصنع الطاغية؟ ومن يسحقه؟ إنها الشعوب التي تفعل الأمرين، لايهم على أي أرض عاشت ومن أي أسلاف انحدرت، فالشعوب تستعبد عندما تنزع إرادتها، وتنبض فيها الحرية متى استردت إرادتها، وتلك خلاصة أحداث رواية ثروت أباظة "شيئ من الخوف" في الستينيات والتي حولها المخرج حسين كمال إلى واحد من أهم عشرين فيلما في تاريخ السينما المصرية.

الفيلم يلخص قصة الطغيان في أي زمان ومكان، مما يجعله قطعة من الفن الخالد الذي يملأ عقلك وعياً وضميرك حياة.. يبدأ الفيلم بعثور الدهاشنة على جثة في الترعة، يخرجونها وهم يعلمون الفاعل لكن لا يقدرون على التصريح باسمه، إنه عتريس الجد الذي يتزعم عصابة تعيث في القرية ظلماً وإذلالاً، وترهق الأهالي بإتاوات يدفعونها وهم صاغرون... يذهب عتريس للعزاء ويطلب من شقيق القتيل أن يدفع الإتاوة. يبحث شقيق القتيل عمن يسانده في شادر العزاء فينكس المعزون رؤسهم، فيصفهم بأنهم "كفر أرانب" فيعترض عتريس قائلاً: "كفر عاقل وحكيم... شيئ من الخوف ما يضرش".. لكنه كان شيئاً من الخوف وأشياء أخرى.. كان شيئاً من الجهل والتفاهة وغياب الوعي والضمير، وأخيراً انعدام الإرادة.

وبينما "عتريس" الجد وعصابته مشغولين بغرس رؤوس الناس في الطين حتى يدفعوا الإتاوة، يلتقط أحد الدهاشنة بندقيته ليقتل عتريس الحفيد ويقطع دابر الأسرة .. يضع الجد جسده أمام الرصاصة ليفدي حفيده ثم يموت وهو يحض حفيده الذي لم يكن قد تلوث بعد على الأخذ بثأره والانتقام من كل الدهاشنة.. مات الطاغية وهو يحض على الطغيان، كأن الطاغية لا توبة له. 

نعم مات عتريس الجد، لكن الطغيان لم يمت، والمعنى أن الاغتيالات لا تجدي، بل إنها تزيد الظالم تمكيناً والشعوب خوفاً وإحساساً بالعجز. فقط انزاح الطاغية المتمرس وخلفه طاغية غشيم. 

تمعن عصابة عتريس الحفيد في الفساد، والدهاشنة منقسمون متعاركون راضون باللقمة المحشوة ذلاً والعيشة المسكونة رعباً وجبناً.. كانوا يتواصون بدفع الإتاوة طلباً للسلامة، ثم يلقون النكات ويضحكون بهمسٍ وانكسار.

لكنها وحدها لم تكن منكسرة، بل كانت فؤادة منذ طفولتها مرفوعة الرأس لم يصبها أي شيئ من الخوف.. كانت قلباً صافياً لا يداهن أو يزخرف القول، كانت ضميراً لا يقبل الظلم مهما كان الظالم، لم تكن تحسب الحسابات وتفكر في العواقب، لم تكن عقلا يفكر في المصلحة بل قلباً يخفق بالحق ورفض الجبن، ولذا كان اسمها جزءًا من حقيقتها.

يغضب عتريس على الدهاشنة لأن احدهم اغتال فرداً من عصابته، فيقرر عقوبة جماعية بإغلاق الهويس وتعطيش أرضهم حتى البوار... يجلس الدهاشنة فوق الأرض العطشى ممتلئين حزنا وعجزاً.. ثم تأتي فؤادة بذات الهامة المرفوعة وتتخطى كل "الرجال" لتفتح الهويس.. يأتي عتريس وعصابته ويصوب بندقيته نحو فؤادة، فتواجهه بعينين ثابتتين ورأس مرفوعة... تركها الدهاشنة تواجه مصيرها ووقفوا كأنها لا تعنيهم ولم تفعل ما فعلت من أجلهم.. الدهاشنة يريدون الحياة ولو على حساب من أراد لهم الحياة! رقصوا عندما جرت المياه في ارضهم وعند البأس صاروا أخشاباً.

لم يقدر عتريس على قتل فؤادة حبه القديم، فيقرر أن يتزوجها عنوة... لم يستطع أبوها أن يقول لا، ولا شيخ القرية أو أصدقاء العمر، ليشهدوا زوراً بأنها وافقت.. فاز الطاغية بالحبيبة عن طريق التزوير، وأعانه كل الخائفين.. لكن عندما يدرك الطاغية أنه فاقد للشرعية يصير مجنونا عازماً على قتل كل من يذكره بذلك.. وعندما يقرر الشيخ إبراهيم الذي كان أشبه بفؤادة في قول الحق أن يصدع ببطلان تلك الزيجة يغرق عتريس أرضه ثم يقتل ولده يوم عرسه.

يتحد الدهاشنة وراء الشيخ إبراهيم، ويحرقون بيت عتريس وتهرب عصابته. كيف انتصر الدهاشنة على الطاغية؟ كانوا يحتاجون للإرادة..  رأوا إرادة فؤادة التي واجهت الموت وإرادة الشيخ إبراهيم التي لم يكسرها فقد مال أو ولد، فأدركوا أن الإرادة ممكنة، وأن يوماً في إرادة خيرٌ من عمرٍ في مذلة، ولذا أنا لا أميل إلى تفسير دور فؤادة بأنه رمز لمصر كما رأى بعض النقاد، بل كانت فؤادة رمزاً للإرادة، ولذا كانت تمشي بثبات وتنظر بثبات وتتحدث بثبات، كما حرص ثروت أباظة على وصفها في الرواية بأنها كانت تحب الكتب، فكانت إرادتها وعياً لا حماقة.

حاول عتريس أن يداعب عواطفها بالحديث الناعم والهدايا التي تثير الذكريات، لكن إرادتها لم تنخدع بكلام حلو من لسان مرٍ وقلبٍ من صخر، لم تلن رغم حبها القديم له، لأن حبها للحق والرحمة أشد.. في الحقيقة أن أحداً لم يحب عتريس الطاغية، حتى عصابته كانت طوع يده من أجل المصلحة وحسب، لم يحب عتريس أخدٌ سوى أنعام الساقطة التي كانت تبيع الزبد وجسدها، كأن حب أي عتريس قاصر على الأنعام  ذوي العقول التي تعيش بالجسد لا الضمير. أما فؤادة فقد ظلت حرة وهي رهينة محبس عتريس وعصابته. 

بالرغم من أن الدهاشنة رضوا بالذل من أجل الحياة، إلا أن حياتهم كانت فقراً مدقعاً... وذاك شأن كل راض بالطغيان، وتلك من حقائق الدنيا، فلا يمكن أن تجد مكاناً تورق فيه العدالة والحرية ثم تضربه المجاعة.. شجرة الحرية دوماً مثمرة أما الطغيان فصحراء مدقعة لا يستظل فيها إلا المستبد وأعوانه.

السؤال الذي يحيرني هو مصير عصابة عتريس، فقد قضى الدهاشنة على عتريس لكنهم لم ينتبهوا إلى أن عتريس لا قيمة له بدون عصابته، فهل عادت العصابة بعد ذلك إلى قمع الدهاشنة؟ لم يكتب ثروت أباظة الجزء الثاني، لكن التاريخ كتبه من قبل ومن بعد.. ليس مهماً سقوط الظالم، بل الأهم سقوط دولته، وذاك كان دوماً خطأ الدهاشنة.
-------------------
بقلم: د. هشام مصباح

من المشهد الأسبوعي

مقالات اخرى للكاتب






اعلان