16 - 08 - 2024

تراب نفيسة عبد الفتاح الأحمر

تراب نفيسة عبد الفتاح الأحمر

ما الذى يمكن أن تفعله أسرة حلمت بعمل عائلها في الخارج، وعندما واتته الفرصة حزمت حقائبها وسافرت معه مشحونة بشغف الترحال، والطبيعة البكر، ورحلات السفارى في أدغال إفريقيا، لتواجه مواقف غير متوقعة حزمت معها حقائبها للعودة إلى أرض الوطن، لكنها مدفوعة بالتحدى تقرر البقاء والمواجهة حتى اللحظة الأخيرة. فى الأزمات تتكشف لك ملكاتك الخاصة وقدراتك التى لم تختبرها بعد، أهمها القدرة على التأقلم وميلاد روح قادرة على المواجهة.

تلقت الصدمة الأولى حين عاينت المنزل المعد للإقامة، أثاث متواضع وأجهزة كهربائية معطلة، بدأت بعدها حرب مدير الفرع (المصرى أيضا) للتخلص من الوافد الجديد، مكائد ورشي لحرمانه من تصريح الإقامة، ووضعه تحت ضغوط نفسية شديدة مع منع الراتب.

ذهبت دهشة رؤية الفراشات الملونة والحيوانات البرية والطبيعة البكر في مجاهل لوساكا، عاصمة زامبيا، وفقد قوس قزح المعلق بين السماء والأرض أعلى شلالات فيكتوريا جماله، وربما تحولت بعض هذه المشاهد إلى كوابيس. في لحظات الضعف نَحِنُ للوطن، نتمنى لو طيبنا جباهنا بشذى ترابه، وكحلنا العيون بطميه، وروينا العظام بماء نيله. 

عبر هذه الفانتازيا، ترسم نفيسة عبد الفتاح لوحات روايتها (تراب أحمر)، الصادرة عن دار الوئام فى نحو مائة وعشرين صفحة من القطع المتوسط، عبر لغة مباشرة تميزت بسردها العفوي في المواقف المختلفة، العلاقة بين الزوجين قبل وبعد السفر، اختفاء المشاحنات الاعتيادية ليتبادلا دور الحبيب، والوطن، والصديق، والأهل بما يعينهم على مجابهة مناوئة المدير. يضمن الإقصاء غياب الرقابة والمحاسبة، مع شراسة الواجهة توشك الأسرة أن تُهزم وتحزم أمتعتها وترحل، ولكن (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، يتدخل أولو الحل والعقد في اللحظات الأخيرة وتنكشف الحقائق كمسبحة انفرطت حباتها، ليصدر قرار بعودة المدير وإرسال بديل له.

تتنوع صور الرواية فى عرض بلد منقوع فى الفقر والجهل والفساد وتحاصره الأمراض. يحاول اللصوص السرقة فإن فشلوا جلسوا على الرصيف ينظرون دون مبالاة للضحية، الغارقة فى ذهول الخوف كأنهم لم يحاولوا سرقتها بالإكراه منذ لحظات مطمئنين إلى غياب الملاحقة الأمنية، ودائمًا الأجانب هم الهدف الثمين للصوص. تفتح الرشوة مغاليق كل الأبواب، بداية من غض الطرف عن المخالفات المرورية إلى تصاريح الإقامة.

فى الغُربة، تختلف سلوكيات الجاليات طبقا لعاداتها المتوارثة، يهاجرون فيحفظون ملابسهم فى حقائب السفر وتقاليدهم فى صدورهم. التكتل والتقارب تحديات المصريين فى الغربة، يحتاج الكثيرون منهم إلى تناول مضادات الفُرقة والاختلاف. السفارة شبه مقطوعة الصلة ببنيها والشيخ الموفد من الأزهر لا تسعفه لغته الإنجليزية للتواصل مع أهل بلد يخلطون الدين بالأساطير.

يتميز تراب إفريقيا بلونه الأحمر، ربما تخضب بدم دفعته الشعوب ثمنًا لحريتها ذات يوم، لكنه من الناحية الكيميائية يختزن معادن عديدة لم تلوثها يد الحضارة الحديثة بعد، يستفز المطر خيراتها، خضر وفواكه بأحجام وطعوم لم نعرفها من قبل، تُشعرك أنها تُقطف للمرة الأولى من على ظهر هذا الكوكب، لتكتشف معه أن ما نأكله من حقولنا وصوباتنا البلاستيكية مجرد مسخ، حجمًا وطعمًا.

الرواية خليط من واقع ممسوس بالخيال، "هل تودين تكرار التجربة؟"، سألت نفيسة عبد الفتاح، فأجابتني بتلقائية "نعم، رغم قسوتها"، ليس هذا فحسب ففى رحم الخيال جزء ثان يتشكل، تتأرجح ملامحه بين رواية قصيرة وقصص قصيرة، لكنها لم تحسم أمرها بعد. بادرتها "كيف تكتبين؟"، فأجابت "فى البدء، لم اقصد كتابة رواية، كتبت فصولًا متفرقة، ثم جمعتها وصغتها وألفت فيما بينها فجاءت رواية "تراب أحمر".
--------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]


مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد