30 - 06 - 2024

كيف أشعل سيد درويش حماس الشعب المصري في ثورة 1919؟

كيف أشعل سيد درويش حماس الشعب المصري في ثورة 1919؟

ليست ثورة سعد زغلول .. وإنما ثورة الشعب المصري الذي فجرها
- تقرير (هارمسورث) واللورد اللنبى دون الحقيقة وعدد شهداء الثورة لايقل عن ثلاثة آلاف، أستشهدوا فى سبيل أشرف هدف وأنبل غاية.

- بريطانيا دعمت جامعة إسلامية وتبرعت بمبلغ 500 جنيه (بسعرعام 1928) لتكون فى مصر (جماعة الإخوان المسلمين) لوأد أية حركة شعبية.
- "إحنا الجنود زى الأسود.. نموت ولا نبعشى الوطن.. بالروح نجود.. بالسيف نسود..على العـِـدا طول الزمن" .. من "لحن الجنود" للفنان الخالد.

دأب المؤرخون على وصف ما حدث فى شهر برمهات/ مارس 1919 بأنه ثورة قام بها سعد زغلول وزملاؤه، بينما الحقيقة أنّ شعبنا المصرى هو الذى فجـّـر أحداث الثورة.. وبالرجوع إلى بداية الأحداث- كما ذكر المؤرخ عبدالرحمن الرافعى وغيره- تتبيـّـن الحقيقة واضحة ساطعة سطوع شمس بؤونة.. حيث أنّ المُـفجـّـر الحقيقى للثورة بدأ بعد رفض طلبات الوفد الذى سافرإلى لندن، برئاسة سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى وآخرين.. وذلك للمطالبة بالجلاء عن مصر، كما وعد الإنجليز، لو أنّ مصر وقفتْ مع بريطانيا ضد ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى.  

تراجع الإنجليز عن وعدهم.. وتحجـّـجوا بأنّ الوفد (برئاسة سعد) لايـُـمثــّـل الشعب المصرى.. ومن هنا بزغتْ (فكرة التوكيلات) التى رحـّـبتْ بها جميع فئات الشعب (فى المدن والأقاليم- من فلاحين وعمال وموظفين وأعيان ومثقفين) ولكن الإنجليز لم يقتنعوا بتلك التوكيلات.. ولم يكتفوا بذلك.. وإنما نفوا سعد وزملائه إلى جزيرة مالطة فى 8 مارس 1919، فكان هذا النفى هو الذى دفع شعبنا للخروج إلى شوارع وميادين القرى والأحياء والمدن، فى كل محافظات مصر.. ولم يقتصر خروج الجماهير على الهتافات المُـنـدّدة بالاحتلال البريطانى.. والمطالبة بجلاء جيش الاحتلال من مصر.. وإنما شمل دور الجماهير اقتحام معسكرات الإنجليز والاستيلاء على الأسلحة.. وكذلك نزع قضبان السكة الحديد.. وبصفة خاصة فى الخطوط التى يستخدمها الإنجليز فى نقل أسلحتهم ومعداتهم..إلخ، بل إنّ الأمر وصل لدرجة إقامة (جمهورية مستقلة) كما حدث فى إقليم زفته بمحافظة الغربية.. حيث تـمّ إعلان (جمهورية زفته المستقلة) وكان وراء تلك الفكرة الماركسى (يوسف الجندى) المحامى وشقيقه (عوض الجندى) إلى آخرتلك الأحداث المذكورة فى الكتب التى أرّختْ تلك الفترة من تاريخ مصر.  

فى ضوء ما تقـدّم يتبيـّـن أنّ شعبنا المصرى هو مُـفجـّـر ثورة برمهات/ مارس 1919 وليس سعد زغلول.. ولاباقى أعضاء الوفد.. ولعلّ أدق تأكيد على ذلك أنّ الحزب الذى تكوّن وعـُـرف باسم (حزب الوفد) كان بسبب الوفد الذى ذهب إلى لندن ونفى زعمائه.. وما تلى ذلك من خروج الجماهير.. وبدء أحداث الثورة. 

***

الملحوظة الثانية أنّ ثورة برمهات كانت (ثورة وطنية علمانية) وقد يندهش البعض من هذا التعبير.. ولكن تأمل مجمل أحداث الثورة وتطورها، يؤكد ما أذهب إليه وأعتقد بصحته.. ومن بين أدلة ذلك:

 1- المظاهرات شملتْ شعبنا (كله) بغض النظر عن ديانة المتظاهرين.. حيث تظاهرالمسيحيون بجانب المسلمين.

 2- إنّ خروج شعبنا- بهذا الشكل العفوى والحضارى- معناه أنّ مبعثه الانتماء الأول والأصيل يكون على أرضية (الولاء للوطن) وأنّ (الولاء للدين) يأتى فى المرتبة الثانية 

3- وقد عبـّـر بديع خيرى عن ذلك المعنى فى الأغنية التى غناها سيد درويش.. والشعب يـُـردّد وراءه: اللى تجمعهم أوطانهم.. عمرالأديان ما تفرّقهم.

ولعلّ ما حدث فى 1919 يعود بجذوره إلى تسع سنوات حيث أنه فى عام 1910 حدث اغتيال بطرس باشا غالى (رئيس النظار) وكان القاتل شاب متطرف دينيـًـا (إبراهيم الوردانى) فتظاهر أمثاله من المتطرفين وردّدوا شعارًا دينيـًـا ((تسلم يمين الوردانى اللى قتل بطرس النصرانى)) ولكن شعبنا (بالرغم من أنّ الحركة الثقافية لم تكن بالنضج الكافى لتــُـرسّـخ فيه معنى التعددية) خرج في مظاهرة عفوية قال فيها أصحابها ((تسلم إيد الوردانى اللى قتل بطرس البريطانى)) أى أنّ الاغتيال كان لأسباب (وطنية) وليست (دينية) كما زعم الإسلاميون. 

كان هذا الدرس فى وجدان وعقل الحركة الوطنية لثوار برمهات/ مارس 1919، ولذلك لم ينزلقوا إلى أية شعارات أو نزعات (دينية)، فعندما تقرّر اغتيال يوسف باشا وهبى، الذى وافق على التعاون مع الإنجليز (بأنْ يتولى منصب رئيس الوزاء، بعد أنْ رفض معظم الساسة المصريين التعاون مع الإنجليز بعد ثورة 1919)  لذلك تولى مهمة محاولة الاغتيال الشاب (عريان يوسف سعد) الطالب بكلية الطب.. وبذلك يكون الفاعل (مسيحيا) والمُـستهدف (مسيحى مثله) وبالتالى يكون قد تـمّ سد الباب أمام الإنجليز، فلا يستغلون الحادث على أنه (نزاع دينى بين المسلمين والمسيحيين)

ووفق صياغة لويس عوض الثاقبة، فإنّ يوسف باشا وهبه الذى عيـّـنه الإنجليز عام 1883 ليكون سكرتير لجنة التحقيق مع العرابيين، اختاروه عام 1919 ليقضى على ثوار تلك الثورة الشعبية العظيمة (أوراق العمر- مكتبة مدبولى- عام1989- ص122، 123) وذكر أنّ والده قال له إنّ الإنجليز حاولوا تطبيق (سياستهم الشهيرة: فرّق تسد التى طبـّـقوها مع أصحاب النزعات الدينية الإسلامية فى الهند.. ونجحوا فى تقسيم الهند بولادة دولة مُـشوّهة أطلقوا عليها: باكستان) ولكنهم فشلوا فى مصر.    

وعن ثورة برمهات العظيمة ذكر عبدالرحمن الرافعى دور الفلاحين الذى كان أحد أسباب نجاح الثورة.. ووفق نص كلامه كتب ((لم يكن أحد يتوقــّـع أنْ يهب الفلاح المصرى (الموصوف بالسذاجة والبعيد بفطرته الطبيعة عن غمارالسياسة وعواصفها) أنْ يهب..ويكون فى الصفوف الأولى..وتصل وطنيته لدرجة خلع قضبان السكة الحديد..وقطع المواصلات..وبذل روح الفداء من أجل الوطن)) وذكر أنه من بين مظاهر الثورة، اشتراك المرأة المصرية - سواء بالكتابة فى الصحف أوببذل الروح والدماء والمال)) (عبدالرحمن الرافعى- فى كتابه: مصرالمجاهدة فى العصرالحديث- دارالهلال- ط3- عام1990- ص132، 133) 

ولعلّ ما حدث فى برمهات/ مارس1919هو الذى فجـّـر طاقات الموهبة الإبداعية الكامنة، داخل وجدان وعقل المُـبدع الموهوب (سيد درويش) فأبدع الأغانى التى لازال شعبنا يـُـردّدها بالرغم من مرور100سنة على تأليفها وتلحينها.. وقد حالفه الحظ بصحبة الشعراء الوطنيين.. وأصحاب الموهبة، أمثال (بديع خيرى) الذى كتب له معظم أغانيه الوطنية (بلادى بلادى لك حبى وفؤادى- نموذجـًـا) والشعبية/ التراثية (الحلوه دى قامت تعجن فى الفجريه- نموذجـًـا) والعاطفية (زورونى كل سنه مره- نموذجـًـا)  

فى ضوء ما تقـدّم تتأكد حقيقة دور شعبنا فى ثورة برمهات/ مارس 1919، وليس دورالزعماء.. ولعلّ ذلك ما يـُـفسّـر دور بريطانيا فى تكوين ودعم جامعة إسلامية والتبرع بمبلغ 500 جنيه (بسعر عام 1928) لتكون فى مصر (جماعة الإخوان المسلمين) لوأد أية حركة شعبية.. وضد أية (ثورة جماهيرية) وبناءً على ذلك قرّر الإنجليز أنه لايجوز تكرار ما حدث فى برمهات/مارس1919..وذلك بمراعاة ما ردّده شعبنا وراء سيد درويش (وآمن به): ((اللى تجمعهم أوطانهم.. عمرالأديان ما تفرّقهم)) 

وإذا كان من المرجــّـح (أومن المؤكد) أنّ درويش والشعراء الذين كتبوا أغانيه، لم يقرأوا ما كتبه الرافعى وغيره عن خصائص شعبنا.. وخاصة تفاعل الفلاحين مع مجموع الشعب، فإنّ ما كتبوه وما غناه ولحنه درويش، كان الترجمة الطبيعية لما حدث عن بدايات الثورة، خاصة بعد نفى سعد زغلول.. ولعلّ الأغنية التى فافتْ شهرتها معظم أغانى درويش (بلادى بلادى) أنْ تــُـقـدّم الدليل على عمق تأثر دريش ومن كتبوا له بأحداث الثورة.. والأهم- من وجهة نظرى- تأثير درويش وأصدقائه من الشعراء فى الجماهير أثناء المظاهرات.. والدليل على ذلك ما ذكره أكثرمن مؤرخ فنى عن أنّ الجماهير كانت تــُـغنى أغانى درويش، وهي فى الشوارع والميادين.

أشهر تلك الأغانى (بلادى بلادى) ومن يـُـراجع كلمات الأغنية.. ويتأمل معانيها يتأكــّـد أنّ الشاعر الذى كتب ومبدع اللحن الذى غنى، كانا على درجة كبيرة من الوعى بأهمية الكلمة وأهمية اللحن وأهمية الأداء، للتعبير عن أشواق الجماهير نحو الانعتاق والتحرر من قيود الاحتلال الأجنبى.. وهوما انعكس فى كلمات الأغنية، ومخاطبة الوطن بأنّ الفداء من أجل مصر سيكون بتقديم القلب حيث قال الشاعر(لك حبى وفؤادى) وأكد ذلك فى البيت التالى (أنت غايتى والمراد) ولكى يــُـشحن جماهير المتظاهرين.. ويـُـحرّك فيهم مشاعرالانتماء.. كان لابد للشاعر أنْ يـُـذكرهم: من هى مصر التى خرجوا للدفاع عنها.. وطرد المحتل منها فقال: (مصرأنت أغلى دره.. فوق جبين الدهر غره) وبماذا يتمنى فى البيت التالى؟ قال (يا بلادى عيشى حره.. واسعدى رغم الأعادى) وقد ذكر المؤرخ الموسيقى د.محمود أحمد الحفنى أنّ كلمات الأغنية من تأليف سيد درويش وذلك فى كتابه (سيد درويش: حياته وآثار عبقريته) الصادرعن سلسلة أعلام العرب- العدد رقم7- عام 1962 وأعادتْ هيئة الكتاب المصرية طباعته عام1974- ص61) بينما يرى آخرون أنّ سيد درويش نقل ما يدور فى ذهنه عن المعانى التى تجيش فى صدره ومطلع الأغنية إلى بديع خيرى، الذى صاغ الكلمات بالكامل.. وبغض النظر عن اسم مؤلف الأغنية (درويش أوبديع خيرى) فإنها أصبحتْ علامة بارزة فى تاريخ الفن المصرى.. وارتباطها بثورة شعبنا فى برمهات/ مارس 1919.. ويكفى أنّ اللحن الذى ألــّـفه درويش صار هو النشيد الوطنى طوال عشرات السنين.. ومع ملاحظة التوزيع الموسيقى الجديد الذى أجراه محمد عبدالوهاب.. وهويختلف عن اللحن الأصلى، الذى كان يـُـثير الحماسة الوطنية.. وتتغلغل تلك الحماسة داخل وجدان المستمع، بينما اختفتْ تلك الحماسة من توزيع عبدالوهاب.  

تفاعل درويش، الذى أطلق عليه من أرّخوا لحياته لقب (فنان الشعب) مع أحداث الثورة.. فلحـّـن وغنى من كلمات بديع خيرى ((قوم يا مصرى.. مصردايمًـا بتناديك.. خد بنصرى..نصرى دين عليك.. يوم ما سعدى راح هدر قدام عينيك.. شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار.. من جمودك كل عضمه بتستجار..إلخ)) وهذه الأغنية عندما سمعها الشعب أخذ البيت الأول.. وكانت جماهيرالشعب (وهم فى الشوارع اثناء المظاهرات) يـُـردّدون البيت الأول (فقط) نظرًا لطول كلمات الأغنية.. خاصة وقد استحوذ على قلب الشعب، تلك البداية القوية، فى قول الشاعر (قوم يامصرى.. مصر دايما بتناديك) 

لم يكتف درويش بالأغانى ذات الطابع الحماسى..والتى كانت تصلح لترديدها فى المظاهرات.. وإنما لعمق إدراكه بالفرق بين امكانات قوات الاحتلال، وما فى أيديهم من سلاح.. وقتلوا به الكثيرين منذ بدء أحداث الثورة، بينما الشعب لايملك إلاّ صوته ويده والحجارة.. نظرًا لهذا الفروق، تذكــّـر (درويش) المثل الشعبى المصرى الشهير(الكتره تغلب الشجاعه) فأوحى له هذا المثل بمطلع أغنية.. وبسرعة جرى ليقابل بديع خيرى.. ونقل إليه ما يدور فى ذهنه.. وإذا ببديع خيرى يتفاعل مع فكرة صديقه فكتب ضمن (مجموعة أغانى العمال) الأغنية التى كان مطلعها ((ما قلتْ لكش إنْ الكتره لابد تغلب الشجاعة؟ وأديك شفتْ كلام الأمرا.. طلع تمام ولافيهشى لواعه.. غيرشى اللى كان هالك أبداننا.. ومـِطلــّـع النجيل على عينينا.. إنْ فهمى يكره حنا.. وإيش دخل دول يا ناس ف ديننا؟!)) بمعنى ما دخل الدين فى العلاقات الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد؟ 

فى هذه الأغنية جمع بديع خيرى بين شيئيْن غاية فى الأهمية: الأول مقاومة الإنجليز بالرغم من أنّ امكانات الشعب وامكانات المحتل، غير متكافئة استنادًا إلى حكمة الأميين من شعبنا (الكتره تغلب الشجاعة) الشىء الثانى هو مزج الكفاح ضد المحتل، بتجسيد الحقيقة الناصعة.. ولها وضوح شمس بؤونه وحرارتها.. وهى أنّ شعبنا من نسيج ثقافة قومية واحدة، لم تــُـفرّق بين أبناء شعبنا، لا على أساس العرق..ولا على أساس الدين.. وذلك فى قوله ((غيرشى اللى هالك بدننا....إنْ فهمى يكره حنا.. وإيش دخل دول ياناس ف ديننا؟ّ!)) وهكذا يتأكــّـد صدق تحليل المؤرخ الرافعى..عن أنّ ثورة برمهات/مارس 1919 ((لم يشبها التعصب الدينى.. ولا اتخذتْ طابعـًـا دينيـًـا.. بل كان رائدها الوحدة القومية بين المسلمين والمسيحيين)) كما أود لفت النظر إلى بلاغة بديع خيرى، عندما وصف جموع الشعب بتعبير (شفت كلام الأمرا) وسبب توقفى عند هذا التعبير إننى خشيتُ أنْ يعتقد القارىء، أنّ المقصود بكلمة (الأمرا) أمراء القصور من العائلة المالكة، بينما سياق كلمات الأغنية تؤكد على أنه يقصد جماهير الشعب..وهوما يتأكد عندما نتذكر أنّ شعبنا يصف أى إنسان خدوم ((وبيعرف يعمل المعروف)) فيقول له ((والله إنت أمير الأمرا)) 

وكان تفاعل درويش والشعراء الذين كتبوا أغانيه الوطنية، بسبب كثرة عدد الشهداء الذين قتلهم جنود الاحتلال، منذ اليوم الأول للثورة.. والتى بدأتْ فى يوم 9 مارس واستمرّتْ طوال هذا الشهر وشهر إبريل.. ثم تجـدّدتْ فى شهور أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر من نفس العام 1919 .. وذكر المؤرخ الكبير الرافعى أنه ليس ((من المُـستطاع إحصاء عدد من قــُـتلوا من المصريين فى أحداث الثورة..ولكن جاء فى خطبة المستر (هارمسورث) وكيل وزارة الخارجية البريطانية، فى مجلس العموم يوم 15 مايو سنة 1919، أنّ عدد من قــُـتل من المصريين بلغ حتى هذا التاريخ ألفــًـا (1000) وهذا الاحصاء لا يتناول من استشهدوا بعد ذلك.. وأضاف تعليقــًـا على هذا العدد: إنّ هذا شىء فظيع.. وذكر أنه قــُـتل من الجنود البريطانيين سبعة وعشرون))  وذكر الرافعى أنه ((ورد فى تقرير الجنرال اللنبى فى مجلس العموم البريطانى يوم 24 يوليو 1919، أنّ عدد ضحايا الثورة المصرية بلغ حتى تاريخ كتابة التقرير 800 قتيل و1600 جريح من المصريين و31 قتيلا و25 جريحًا من الأوروبيين و29 قتيلا و114جريحًا من الجنود البريطانيين.. وأنّ عدد الذين حــُكم عليهم من الوطنيين المصريين على إثر الاضطرابات 3700 (ثلاثة آلاف وسبعمائة) وأنّ الأحكام كانت (خفيفة) على أكثرهم.. ولكن صدرتْ أحكام على 49 بالإعدام وعلى 27 بالأشغال الشاقة المؤبدة.. وكان تعقيب الرافعى أنّ تقرير (هارمسورث) وتقرير اللورد اللنبى ((دون الحقيقة بكثير لأنّ المصادر البريطانية.. كانت ترمى إلى التقليل من عددهم، تهوينــًـا من شأن الثورة.. وأنّ الاحصاء الذى وصلنا إليه.. وتحققناه أنّ عددهم طوال مدة الثورة لايقل عن ثلاثة آلاف قتيل، أستشهدوا فى سبيل أشرف هدف وأنبل غاية)) (الرافعى- مصدرسابق- ص143) 

وأعتقد أنّ هذا العدد الكبير من شهداء ثورة 1919 كان أحد أهم الدوافع التى حرّكتْ وجدان الفنان درويش.. وجعلته فى (وسط الأحداث) ليس بالمعنى المباشر، ولكن بمعناه المجازى.. وكان سلاحه الكلمة واللحن والأداء.. ويؤكد ذلك أنه (وبعد أنْ هدأتْ الأحداث) وبدأ فى تأليف ألحان المسرحيات والأوبريتات للفرق المسرحية العديدة، التى كان أصحابها يـُـصرون على أنْ يكون هو ملحن كلمات الأغانى.. ومن أمثلة ذلك اللحن الذى وضعه لمسرحية (الهلال) لفرقة على الكسار.. وهذا اللحن أخذ عنوان (لحن الجنود) وكان مطلع الأغنية ((إحنا الجنود زى الأسود.. نموت ولا نبعشى الوطن.. بالروح نجود.. بالسيف نسود..على العـِـدا طول الزمن..نحفظ كرامة شعبنا.. بعزنا.. بدمّـنا..إلخ)) وكان تعقيب المؤرخ الموسيقى د.الحفنى ((هذا اللحن وكثيرمن ألحان الاستعراضات، انتهتْ بالختام الوطنى لثورة1919 ..ولكن  هذه الألحان الوطنية استمرّتْ بعد الثورة، مما ينهض دليلا على مدى تفاعل الفنان درويش مع أحداث الثورة.. سواء فى بدايتها أوفى غمارها أوحتى فى نهايتها)) (د. الحفنى- مصدرسابق- ص188، 189) 

وكما وعى درويش أهمية الكلمة واللحن والأداء من أجل تأجيج نار الحماسة داخل صدورشعبنا.. وهم يهتفون ضد قوات الاحتلال.. كذلك وعى أهمية تكثيف وإلقاء الضوء على أنّ ثورة شعبنا فى 1919 لم تــُـفرّق بين المسلم والمسيحى.. وهوما جعله يساهم بأفكاره مع صديقه الأثير (بديع خيرى) وهويكتب كلمات أغنية (قوم يا مصرى) فهذه الأغنية تضمّـنتْ محورين: محورمقاومة الإنجليز.. والمحورالثانى الوحدة الوطنية بغض النظر عن الانتماء الدينى.. ولذلك جاء فى المقاطع الأخيرة ما يؤكد هذا المحور حيث كتب بديع وغنى درويش ((شـُـفتْ أى بلاد يا مصرى فى الجمال.. تيجى زى بلادك اللى ترابها مال.. نيلها ييجى السعد منه حلال زُلال.. كل حى يفوز برزقه عيشته عال.. يوم مبارك تم ليك فيه السعود.. حـِـب  جارك قبل ما تحب الوجود.. إيه نصارى ومسلمين.. دى العباره نسل واحد م الجدود)) 

وإذا كان أحمد لطفى السيد ركــّـز فى مجمل كتاباته (عن الخصوصية المُـميزة لكل شعب، وأنّ لشعبنا خصوصيته التى لخــّـصها فى تعبير القومية المصرية) فإنّ المؤرخ عبد الرحمن الرافعى (صاحب الميول العربية والإسلامية) اعترف بأنّ أحداث ثورة 1919 وتطورها، حققتْ لمصر عدة مكاسب، من بينها ما جاء فى اتفاقية مونترو سنة1937، التى ((تــُـعد فوزًا كبيرًا لمصر إذْ أزالتْ بها الامتيازات الأجنبية، وانقرض بها نظام المحاكم المختلطة.. وحققتْ مصر رسميًـا سيادتها على الأجانب فى التشريع والإدارة والقضاء..وهذا ولاشك كسب عظيم وفوز كبير للقومية المصرية)) (الرافعى فى كتابه: مصربين ثورة 1919ويوليو 1952- مركز النيل للإعلام- مطابع الشروق- عام1977- ص38)  

ولتأكيد أنّ شعبنا ابن ثقافة قومية واحدة (بالرغم من تعدد المعتقدات الدينية) كتب بديع خيرى وغنى درويش ((مصر أم الدنيا وتتقدم ولاتقول نصرانى ولامسلم.. ولايهودى يا شيخ اتعلم.. اللى أوطانهم تجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم))
--------------------
بقلم: طلعت رضوان
من المشهد الأسبوعي .. اليوم مع الباعة

 






اعلان