18 - 09 - 2024

مظاهرات حرية الصحافة 1909.. يمكرون ويسخر منهم التاريخ

مظاهرات حرية الصحافة 1909.. يمكرون ويسخر منهم التاريخ

هذا الحدث الجلل الحضاري لم يجر بعيدا في بلد يحلق أهله في فضاءات الرفاهة والتقدم ويتنعم بأعلى مستويات المعيشة كالسويد أو سويسرا. ولم يكن أيضا قبل سنوات معدودة، لقد كان هنا بمصر وقبل عشر سنوات من ثورة 1919 التي نحتفل بمرور قرن بالتمام والكمال على اندلاعها. 

كان الحدث جللا ومدهشا بحق، وسيظل  نادر المثال بين الأمم. ولو تشرف غيرنا بحدوثه لجعل منه عيدا قوميا، تتردد أصداؤه بين الأحرار في أنحاء العالم، شارك فيه طلبة مدارس وأزهريون وعمال وحرفيون وموظفون وغيرهم من عامة الشعب، حتى ان صحيفة " الإيجيشان جازيت" الموالية للاحتلال البريطاني حينها كتبت مستغربة وبغرض لا يخلو من الغمز واللمز والتحقير :" البوابون و البرابرة والسفرجية اشتركوا في المظاهرات، ومالهم وحرية الصحافة وهم لايعرفون القراءة". 

فبحلول مثل هذه الأيام قبل 110 أعوام خرج مصريون بالآلاف في مظاهرات حرية   الصحافة بشوارع القاهرة، وهم يجهرون بما استقر في وجدانهم ووعيهم بأن حرية الصحف ليست ترفا تطلبه نسبة ضئيلة كانت تجيد القراءة والكتابة حينها، بل هي تتصل بحياتهم اليومية وبآدميتهم وبحقوقهم الاجتماعية والسياسية وباستقلال وطنهم. 

ويمكنك عزيزي القارئ أن تتخيل حينها بلدا تحت الاحتلال الأجنبي يدور عدد سكانه حول 10 ملايين نسمة، وهذا زمان لم يكن فيه لا إذاعة بعد، وبالطبع لا تلفزيون ولا انترنت. لكن كانت غالبية مواطنيه من الأميين يتحلقون حول من يعرف القراءة ليسمعوا من فمه مباشرة ماذا تقول الصحف. 

وبالطبع كان موقف الصحف الوطنية من مجزرة الاحتلال البريطاني ضد فلاحي قرية  دنشواي صيف 1906 ومهزلة محاكمتهم الجائرة، وما أسفرت عنها من إعدام وجلد الضحايا، واحدة من العلامات المضيئة في بناء علاقة الصحافة في مصر بأهل البلد وناسها وحتى أعماق الريف. 

ولذا فإن مظاهرات حرية الصحافة هذه اندلعت سريعا و في 26 مارس 1909 اليوم التالي مباشرة لقرار مجلس النظار (الوزراء) برئاسة بطرس باشا غالي ـ وهو أيضا رئيس محكمة العار بدنشواي ـ بإعادة العمل بقانون المطبوعات سيء السمعة الصادر عام 1881. وكان هذا القانون قد ظل معلقا ومعطلا منذ 1894 فانتعشت الصحافة والحريات واشتدت دعوات المطالبة بالاستقلال والدستور. وكان إحياء قانون المطبوعات من جديد ثمرة مرة بل ومسمومة لتحول الخديوي "عباس حلمي الثاني" من مناصرة الحركة الوطنية وحزب مصطفى كامل ومحمد فريد ( الحزب الوطني ) الى "سياسة الوفاق" مع المحتل البريطاني وممثله في مصر السير "دون جورست" . وسبق العودة الى قانون ،من بين ملامح قسوته ضد الصحف وجوب الحصول على رخصة مسبقة ودفع مبالغ تحت مسمى  التأمين لإصدارها و اعطاء الادارة ممثلة في ناظر (وزير) الداخلية سلطة تعطيل الصحف واغلاقها بعد انذارها مرتين بدعوى "المحافظة على النظام العمومي أو الدين أو الآداب"، قصف دعائي من أعداء حرية الصحافة مشابه لما يجرى هذه الأيام وبزعم توقى"آثار الفوضى". 

بل إن المعتمد البريطاني اللورد "كرومر"السابق  لخلفه"جورست" حرض على حرية الصحافة في مصر والهند حين قال بأنها "تتسبب في رأي عام ناقم استنادا الى أكاذيب" وذلك وفق ما ورد في كتاب "حرية الصحافة في مصر 1789 ـ 1924" لأساتذتنا في الإعلام  والتاريخ د.خليل صابات و د. سامي عزيز ود.يونان لبيب رزق ، رحمهم الله جميعا. 

وقبل نحو عشر سنوات من الآن وبحلول مئوية "مظاهرات حرية الصحافة 1909" شارك كاتب هذا المقال في اعداد كتاب تذكاري توثيقي يحمل هذا الاسم مع الأستاذة المحامية "هدى نصر الله" التي بذلت جهدا متميزا في جمع مادة ثرية من أرشيفات الصحف، وكذا شاركنا في التجهيز للكتاب الزميل الراحل الصحفي الأستاذ خالد السرجاني رحمه الله. ورعت الكتاب واصدرته"الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان" وجرت مناقشته بنقابة الصحفيين حينها، وخلص الكتاب الى تدقيق الحدث شبه المنسي في تاريخنا الوطني والديمقراطي وإلقاء مزيد من الأضواء حوله. فمظاهرات حرية الصحافة بالقاهرة جرت بين 26 مارس وأوائل ابريل 1909. وتفاوتت التقديرات بشأن أعداد المشاركين في كل مظاهرة منها بين 3 و 10 آلاف مصري. واضطر حكمدار العاصمة المستر "هارفي" الانجليزي للاستعانة بفرسان الجيش لقمعها بميدان الأوبرا القديمة (على مقربة من العتبة ). والحقيقة أن الكتاب يوثق لمقالات وكلمات وأشعار لأعلام الثقافة والسياسة في مصر حينها  دفاعا عن حرية الصحافة وتقديرا لأهميتها. 

لكنني سأتوقف عند نماذج لما نقله الكتاب ووثقه من برقيات نشرتها جرائد  ذلك الزمان لمواطنين بسطاء من غير المشاهير الأعلام. ومما يفيد بعمق الثقة قبل 110 أعوام في بلدنا بصحف تنحاز الى الناس وهمومهم وأمانيهم. وهو ما يسترعي الانتباه لخطورة إفقاد المواطن الثقة بالصحافة والصحفيين حين تتحول الجرائد ومختلف وسائل الإعلام الى أبواق نفاق للسلطة وتصبح خرساء بكماء أو شاهد زور للتغطية على الفساد والاستبداد و العدوان على حقوق الناس وكرامتهم وعلى الأوطان.  

ومع الأيام الأخيرة من شهر مارس 1909 نشرت صحيفة " اللواء" برقية تلغراف من "يس رأفت حمادي" بسوهاج تقول :" الموت خير لنا من الحياة بلا صحافة حرة تدافع عن حقوقنا المهدورة ". وأخرى لعبد الغني من شربين تقول :" احفظوا كرامتكم ايها المصريين وداوموا الاحتجاج حتى يلغي قانون المطبوعات وإلا فالرحيل خير لنا من الاقامة في بلاد تهضم فيها حقوقنا ". وأيضا برقية باسم "الدرديري" عن أهالي بولاق تعلن " استياءهم الشديد واحتجاجهم العظيم على الحكومة الاحتلالية لإعادتها قانون المطبوعات الذي يقيد الصحافة، بل الذي يعتقل لسان الأمة ".

وحتى "الأهرام " المحافظة في السياسة قالت بلسانها في 24 مارس 1909 :"تمر بالمقاهي والأندية وتزور الناس في منازلهم فلا تسمع إلا حديث الصحافة وقوانينها". و عادت بعد ثلاثة أيام لتنشر :"جاءنا من مكاتبي الصحف وفريق من أهالي قنا مايلى : ساءنا جدا تقييد حرية الصحافة وتلقيناه باندهاش عظيم لأن تقييد حرية الصحافة مضر بمصالح الأمة" .

وثمة في جرائد مصر في هذا الزمان ما يفيد بأن هبة اجدادنا دفاعا عن حرية الصحافة شملت تلاميذ المدارس وعمال الفابريكات ( المصانع ) وموظفي الحكومة والأعيان وعامة الأهالي في الأقاليم والأرياف والأحياء الشعبية بالعاصمة والمدن. كما يلفت النظر هذا الطموح الى المزيد من حرية الصحافة مع الوعي بارتباطها الوثيق بحرية المواطن وحقوقه وباستقلال الوطن، وتقول برقية مشتركة لمواطنين من القاهرة:" أيتها الحكومة علام تقيدين حرية الشعب وهي بفضل استبدادك قد أصبحت أقل القليل وأضعف من الضعف.. اليوم خير لنا أن نكون ببطن الأرض قبل أن نشهد إعلان الضربة القاضية على البقية الباقية من حريتنا ". 

لذا فقد حفظت صحافة القاهرة والاسكندرية ربيع 1909 وكشهادة للتاريخ شعارات ترجمت هذا الوعي ترددت في مظاهرات حرية الصحافة من قبيل :"فليسقطالاستبداد وحكم الفرد .. يسقط قانون المطبوعات .. يحيا العدل". 

 حقا لم تدفع هذه الاحتجاجات في الشوارع والصحف الحكومة إلى اعلان التراجع عن إعادة العمل بقانون المطبوعات البغيض. وصودرت وتعطلت صحف وطنية، وصدرت أحكام بالسجن على رجال أعلام في صحافتنا جراء ما كتبوا ونشروا أو خطبوا في المتظاهرين دفاعا عن حرية الصحافة.لكن بعد نحو عام واحد فقط وفي 1910خاضت صحف الشعب بشراسة معركة التصدي للمشروع الاستعماري لتمديد امتياز قناة السويس. وكأنها العنقاء تبعث من جديد لتتحدى وتجيب على دهشة شاعر النيل "حافظ ابراهيم" عندما تخوف من عواقب عودة قانون المطبوعات فقال:"من البلية أن تباع وتشترى مصر وما فيها وأن لا تنطقا".وهكذا كأن صحف الشعب تؤكد نبوءة "محمد فريد وجدي" صاحب جريدة "الدستور" 26 مارس 1909 اليوم التالي  لعودة العمل بالقانون البغيض:"أيها الوزراء اسمعوا وعوا.. لئن ماتت حرية الحرية اليوم فستبعث غدا". 

ولعل حكمة التاريخ وسخريته من أعداء الحرية كانت تخبيء أمورا ربما لم تكن تخطر على بال المتظاهرين في شوارع القاهرة والمحتجين بالأقلام في صحفها حينها.  ففي 20 فبراير 1910 اغتيل رئيس مجلس النظار ( الوزراء) بطرس باشا غالي بست رصاصات اطلقهاالشاب "محمود الورداني" عليه أمام وزارة الحقانية ( العدل ) بالقاهرة. صحيح ان ما يوصف بأول وأخطر حادث اغتيال سياسي نفذه مواطن مصري في تاريخ بلادنا المعاصر يجرى التأريخ لأسبابه بمشروع مد امتياز القناة. لكن كتاب الأساتذة المؤرخين صابات و عزيز ورزق السابق الاشارة اليه يوثق لكون "الورداني" اعترف بأن أحد اسباب اغتياله لبطرس غالي هي اعادة العمل بقانون المطبوعات. أما نقيب النقباء الراحل الاستاذ "كامل زهيري" فقد نقل في مقال نشره عن مظاهرات حرية الصحافة في جريدة "الخليج" بالشارقة 11 فبراير 2006 تحت عنوان "الى متى وكيف يبدأ الإصلاح؟ " عن تقرير للمستشار الإنجليزي للداخلية في 30 يونيو 1911 أن عدد الجمعيات السرية في مصر ارتفع بعد تقييد الصحافة الى 37 جمعية، واعترافه بأن اعادة العمل بقانون المطبوعات وكسر الأقلام وتكميم الأفواه واغلاق الصحف لم يوقف سخط الشعب على الاحتلال .  

.. ويمكر أعداء الحرية و يسخر منهم التاريخ.
---------------------
بقلم: كارم يحيى 

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال