30 - 06 - 2024

الشاعر السوري جميل داري لـ"المشهد": السجن أو النفي أو الموت جزاء السباحة عكس التيار (حوار)

الشاعر السوري جميل داري لـ

"منذ دهرٍ وثانيتين" والشاعريبكي الأمّهات اللواتي يقفن على شُرفات الألم بسوريا

- الإبداع صنو الحرية، وعالمنا العربي  يعج بمحاكم التفتيش والمبدع لا يقبل القيود

- قصائدي متّشحة بالحزن للمظلومين النوَّمُ في المقابر والأسى على الخيبات السياسية 

- الغيمة إن لم تمطر امرأة مات الرجل من العطش 

- قلّة مُتخمة تأكل الأخضر واليابس، وأكثرية تتضوّر جوعًا، وهم مَن قامت لأجلهم ثورات الربيع الموؤودة

الثورات العربية ركبت أمواجها قوى مشبوهة وظلاميّة، فلم يعد أمام المبدع إلا كظم الغيظ

شاعر يبلل حياته بالموت؛ وتتشح قصائده بالحزن والأسى - كما يقول - ويحتاج للشِّعر ليعرف أنه على قيد الحياة، لكنه كلما كتب قصيدة أعقبها بأبياته: "لا شِعرَ بعدَ اليومِ.. لن أحتاجَهُ.. لن أقتنيهِ.. لا بدَّ أنْ أرتاحَ منهُ.. ومن أبيهِ ومن بنيهِ".  

ومع ذلك يظل يعاقر الشِّعر ليل نهار، ولا يُنبئنا أفضل من دواوينه العديدة وأماسِيّه الشعرية العامرة، يرى أن الغيمة إن لم تمطر امرأة مات الرجل من العطش، ولأن زوجته وأمه رحلتا وغادر موطنه الذي هو أجمل امرأة فظمؤه لا ينتهي، وهناك في منفاه يحاول أن يسافر إلى عَين بلاده؛ حيث الاشتعالات والحرائق؛ والقرى التي لا تنتظر شهداءها، ومن هنا كانت بعض عناوين دواوينه: "هناك"؛ "اشتعالات"؛ "حرائق"؛ "إن القرى لم تنتظر شهداءها"؛ "السفَر إلى عينيكِ بعد المنفى"؛ "منذ دهرٍ وثانيتين"، عدا مئات القصائد التي لم تُنشر بعد.

"جميل داري" شاعر وأديب سوري كردي يقطن "عامودا"، أحد أبرز شعراء الثمانينيات؛ يكتب الشِّعر والنَّقد والمقال، لكنه بعيد عن الإعلام ولا يجيد التواصل مع أدواته، قضى أربعين عامًا شِعرًا وتدريسًا، غادر بلاده مضطرَا بعد الفزع الهائل والهَول الطائل الذي حاق بسوريا، لكن قلْبه بقي معلقًا بالأمكنة والذكريات؛ فيكتب بدمع روحه: منذ دمعٍ ودم.. والطريق إلى بلادي عدمٌ في عدم.. والجنود يموتون.. والأُمهات على شرفات الألم.. ما الذي يتهادَى هناك.. سوى الموت.. في الطرقات.. أيديه مبسوطة.. مِثل عادة.. أهل الكرَم.

"المشهد" تحاور الشاعر؛ تغوص في عمق إنسانيته تُسائله عن همومه وهموم المبدعين العرب وخيبات الوطن وكيفية الخَلاص؛ وكيف يقاوم بالشِّعر كيلا تهطل أمطاره على البحر.

*كيف نحرّر الإبداع من قيوده؟

-القيود كثيرة منذ ولادة النهضة العربية الحديثة وهي التابوهات الثلاثة: الدِّين والسياسة والجنس. وقد حاول بعض المبدعين العرب السباحة عكس التيار، والتطرق إلى تلك القضايا بعمق أو سطحيّة، فكان مصيرهم السجن أو النفي أو الحذر أو الموت، فالدين ما زال مجالًا للتجارة والتزييف، لتحقيق مآرب سياسية أو اجتماعية ومآرب أخرى، أمّا السياسة فاللعب بها كاللعب بالنار، لذلك نرى المبدعين يواجهون لعبتها بكثير من الحذر؛ لا سيّما بعد إفلاس الإيديولوجيات، وقيام الثورات العربية المنكوبة التي ركبت أمواجها قوى مشبوهة وظلاميّة مدعومة داخليّا وخارجيّا، فلم يعد أمام المبدع إلا أن يكتم غيظه، أو يواجهها بما لديه من إبداع، أمّا موضوع الجنس فلم يقترب منه إلا القلّة من المبدعين، وما زال حديث الساعة واللف والدوران في حلقة مفرغة، فالثقافة السائدة عدوّة لكل جديد خاصّة والإنسان عامّة، كيف لا وهي ثقافة ماضويّة ترتكز على فكرة دونيّة المرأة، وضرورة تبعيّتها للرجل منقادة بلا حول ولا قوة.

الإبداع -ياسيدتي- لا يتقبل أيّ قيد، لأنّه صنو الحرية، وعالمنا العربي  يعج بمحاكم التفتيش ومحاسبة المبدع على كلمة، ولا يمكن الخروج منها بالرغبات، فالأمر يحتاج لنضالٍ مرير وصبر أمَرّ، فما زالت عقلية الاستبداد تتضخم أكثر من زمن الكواكبي صاحب كتاب "طبائع الاستبداد"، ويبدو لي أنّا نحتاج إلى مئات السنوات، كي ترى أجيالنا القادمة حياة دون هذا العبء القبيح الذي يُفسد الرؤوس والنفوس.

*ما أهم القضايا الفكريّة التي تشغل بالك؟ 

-يشغلني مواجهة الأفكار الظلامية التي تقتحمنا كالهالوك وتغزونا كالجراد، فمنذ نهايات القرن العشرين إلى يومنا هذا اشتدّت الظلامية والشعوذة الفكرية والسياسية والدينية، وسيطرت على عقول الغالبية، وهنا أذكُر المفكّر المصريّ العملاق "زكي نجيب محمود" قُبيل وفاته؛ وكيفأنّه متألّم وحزين جدًّا على ما آلت إليه الأوضاع، فقد أنفق جلّ عُمره من أجل التنوير مدة خمسين عامًا، فإذا بمشروعه الفكريّ التنويريّ هو ومن معه من كبار المفكرين يتبخّر؛ فأين ذهبت جهوده وجهودهم؟

كذلك تشغلني فكرة العدالة المفقودة في معظم دنيا العرب، حيث قلّة مُتخمة تأكل الأخضر واليابس، وأكثرية تتضوّر جوعًا، وهم مَن قامت لأجلهم ثورات الربيع العربي التي وُئدت في مهدها، وحلّتْ محلها قوى مأجورةتحت ستار دينيّ؛ خدمةً للقوى الرجعيّة في العالم كلّه.

*المصاعب الاقتصاديّة وتدنّي التعليم هل خلقتْ فجوة بين المبدع والمتلقي؟

-سيدتي؛ الفجوة كبيرة بين المبدع والمتلقي، ونمط المعيشة يحدّد اُطر التفكير، فالغنيّ يعيش في برجه العاجي ولا يهمّه من الوطن سوى زيادة الثروة، في فترة الخمسينيات حتى السبعينيات كانت هناك الطبقة المتوسطة التي تهتمّ بالثقافة والفنّ عامّة؛ لكنّها تعرّضت للنكسة بسبب تغوّل البرجوازية الكبيرة التي لا تتوانى عن ابتلاع كلّ شيء، فانقسم المجتمع العربيّ إلى طبقتين غنية جدًّا وفقيرة جدًّا، الطبقة الفقيرة ليس لديها إمكانية الاهتمام بالثقافة التي غدتْ كمالية؛ فلم يتكوّن لديها الوعي الثوريّ، فبات كل أفرادها يبحث عن خَلاصه الفرديّ بطرق شعوذية لا تُقدّم ولا تؤخّر، كما أنه ليس لدينا ثقافة القراءة إلا في مجال ضيق، ولا أدلّ على ذلك من تراكم الكتب في رفوف المكتبات، وقلّة بيعها عدا كتب الطبخ والأبراج!

*ما أهم محطّات السعادة والأسى بحياتك والتي أثّرتْ بحرفِك؟

- مررتُ بقطرات فرح مبعثرة تخص نجاحاتي ونجاحات الآخرين، وكنت أفرح بالمناسبات الوطنية والإنسانية في ضواحي بلدتي "عامودا"، وكذا حين أسمع أغاني كبار الموسيقيين كُردًا وعربًا، وأسعدُ حال أُيمِّم وجهي صوب دمشق للقاء الأصدقاء ومعرض الكِتاب، أمّا الأسى فيمكن أن أُطلق على نفسي شاعر الأسى، معظم قصائدي متّشحة بالحزن والألم؛ ربما على المظلومين والفقراء الذين يقدّمون كلّ الخير للوطن ولا ينالون إلا الفضلات والحاويات والنوم في المقابر والجبّانات، والأسى على الخيبات السياسية؛ وفشل التجربة الاشتراكية في العالَم، وأنا الذي كنتُ أرى العدالة قابَ قَوسين وأدنى، ثمّ الأسى الكبير بسبب المأساة السورية التي لا شبيه لها عبر التاريخ كله، هي وحدها قادرة على أن تدكّ أعتى الجبال دكّا، مأساة بدأت في 2011 وما تزال جاثمة على الصدور جحيمًا لا يحول ولا يزول.

ثمّ الحزن على فقد زوجتي ووالديّ وبعض أصحابي، كلّ ذلك قصّ أجنحة الفرح داخلي، ولم يبقَ إلا الشِّعر الناري أمتشقه وأُشهره في وجه الظلام والصَّقيع، مع علمي أنّي أنفخ في قربة مثقوبة، أو أحفر في رمال مخيّبة للآمال، ولكنها حلاوة روح الشِّعر التي لا تستسلم، ومع ذلك فقد قلتُ الكثير الذي ينبغي أن يُقال، وبقي الكثير حبيس النفْس، فهناك أمور لا نتجرّأ الاقتراب منها، لأنّها أشبه بوكر دبابير، وكقول المَعري: "ولما رأيْتُ الجهلَ في الناسِ فاشيًا ...تجاهلْتُ حتى ظنَّ أنّيَ جاهلُ".

*لمَن تنتصر في إبداعاتِك؟ 

-أنتصر لروحي المعذّبة، ومن خلالها أدافع عن المعذّبين في الأرض، وعندما أكتب عن الوطن فإنما أعبّر عن الإنسانية التي هي وطني، فأنا ملتزم بقضية الإنسان المهمّش الصغير الذي لا حصة له في ضوء الشمس، ومن لا يدري أنّه مسحوق أجعله يعي واقعه بشكل عقلانيّ لا غيبيّ، ورغم ذلك لم أحقّق ما أصبو إليه، فطريق توعية البشر شاقّة جدّا، وقد ساهمتُ في هذا الطريق أربعين عامًا شعرًا وتعليمًا وتربية؛ والأوضاع كما هي، فهل ما كتبتُ زوبعة في فنجان أو صرخة في واد؟

لعدوُّ الحقيقيُّ الذي تخشاه على الوطن؟ 

-أبناء الوطن الذين لا يعرفون مصالحهم والدفاع عنها، وينخدعون بالشعارات الرنّانة الطنّانة، فكما قال الشاعرعمر أبو ريشة: "لا يلامُ الذئبُ في عدوانِهِ.. إن يكُ الرّاعي عدوَّ الغنمِ"، وأبناء الوطن مشرذمون مشتتون منقسمون، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى، ولا أدلّ على ذلك من أبناء سوريا والعراق ولبنان وغيرها من الأوطان السعيدة، ويبقى العدوّ الحقيقيّ من الناحية الخارجية الاستعمار بقيادة أمريكا وإسرائيل اللتان تلعبان دورًا سريّا وعلنيّا في هضم ما تَبقّى من الأمة؛ حتى أصبحت قضية فلسطين هامشيّة، وفقدت البوصلة، وذلك على النقيض من النشيد الذي تغنّينا به: "بلادُ العربِ أوطاني مِن الشام لبغدانِ".. كيف هذا وبلدٌ فيه إنسانُه بغير قيمة، وآخر منفيّ ومطرود يترنّح في المنافي ويغنّي على الأطلال البائدة والمحروقة.

*في وطننا العربي هل يستطيع المبدع إحداث تغيير أو تأثير؟ ومتى يُهزم؟ 

-ربما يستطيع على مستوى خَلق الوعي وترسيخه، لكنه تأثير واهٍ وضعيف، لعوامل عِدّة منها: قَمع الفِكر، فمثلًا عندما اختلف "إدوارد سعيد" مع "عرفات" بعد "أوسلو" 1993 مُنعتْ كتبه من التداول، وفي إحدى رسائله يقول "محمود درويش" لـ "سميح القاسم": إنّ قصائدنا لا تستطيع أن تُسقط طائرة، لكنّها تُكوِّن الوعي القادر على إسقاطها بهذا الشكل أو ذاك.

المبدع العربيّ في عصر النهضة بذل الكثير من الجهد في سبيل تبديد الظلام، ولو بإشعال شمعة، ولكن للأسف الظلام السَّادر يمتدّ، والشمعة تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكن هذا لن يوقفنا عن الإبداع، فلا بدّ منه سلاحًا مهمّا كان هشًّا واهيًا، وقد يتحطّم كما تحطّم العجوز في رواية "هيمنجواي"، لكنه لم ينهزم، الإبداع لا ينهزم:

سلِ الطواغيتَ هل ما غالبٍ أشرٍ ... إلا وهذا الدمُ المغلوبُ غالبُهُ

لا أدري أين قرأت: "الحديد لا يستطيع أن يحطّم المبدع المناضل، لكن الأحضان الدافئة تجعله يستسلم، ويسيل لُعابه للسَّقط من المال والمنصب"، لذا فالمبدع الحقّ يموت قهرًا أو سجنًا أو نفيًا، وقد يتعب البعض من المسير الطويل فيستسلم؛ ويصبح عبدًا مأمورًا ورخيصًا لمصالحه التي تبعده عن الناس.

*لماذا فشل العرب في تقديم مشروع سياسي حضاري ثقافي؟ 

-لأنهم يأخذون بالقشور دون اللباب؛ قشور الحضارة الغربية أو الماضي التعيس، فبقِي الفكر كفيفًا كسيحًا عاجزًا عن إضافة شيء للحضارة المعاصرة، كذلك انعدام روح النقد والنقد الذاتي بسبب تضخم الأنا والغرور الأجوف لدى الغالبية العظمى، وقلة الاهتمام بالثقافة النيرة ومناقشة الأفكاربديمقراطية، وهنا قِيلة لـزكي نجيب محمود: "إنّ أقتل ما يقتل الفكر مواجهته بالصمت، لأنّ المعارضة والموافقة كلتيهما زاد للنماء".. فالعرب مشغولون اليوم بحروب أهلية لا تُبقي ولا تذر، والحضارة لا تولد وتنمو إلا في جو السلام، فاليابان مثلا نهَضتْ من الحرب واتخذتْ سبيلًا جديدًا وهو العِلم بديلًا عن السلاح والتوسع والحروب، ونحن ما زلنا ماضويين متخلّفين، وحتى الفكر القليل النيّر في الماضي نحاربه؛ ونراه رجسًا من عمل الشيطان بدءًا من "ابن رشد" إلى "طه حُسين".

*ماذا عن أوطان لم تعد تمنحنا غير الأوهام والأحلام؟ 

-هذه هي الحقيقة المرّة، كنا نحلم قديمًا، واليوم تحوّل إلى وهم وكابوس، فقَدْنا الثقة بالخطابات الأيديولوجية القديمة التي تحاول العودة للواقع بشكل قبيح دون أدنى خجل، العرب يحتاجون إلى "بريسترويكا"، ولكن ليست على طريقة "غورباتشوف"، فالدرب طويل كما قال السِّياب: "صعبٌ هو المرقى إلى الجلجلةْ..   والصخرُ يا سيزيفُ ما أثقله"، فإذا كان الأمر كذلك في زمن السِّياب فهو في زمننا أصعب، لأن الصخرة كبُرت، و"سيزيف" يكاد يفقد ما تَبقّي من عزمه وإرادته.

*كيف يستطيع المبدع الهرب من الدمار والحروب والدماء التي بات يعاقرها صباح مساء؛ وينسل من الهموم ليغوص بهدوء في عمق الإنسانية كي لا نبقى على هامش العالَم؟

-لن يستطيع الغوص في عمق الإنسانية إلا إذا ساهم في إطفاء الحروب وواجه هموم الحياة، لا بدّ للمبدع أن يُشهر قلمه في معركة الحياة، وإلا فإن الإنسانية المنشودة لن تقوم لها قائمة، وأرى أنّا ملقون خارج العصر وعلى هامش العالَم، والسؤال: كيف نخرج من هذه الزجاجة المغلقة؟ وأي صياد تعيس سيقوده حظه العاثر إلى فتحها؟ نحن كلّ لحظة نبتعد عن الحياة، وندنو من فوّهة الحريق والموت، ولا بدّ من معجزة في زمن لا مكان فيه للمعجزات.
----------------------
أجرت الحوار: حورية عبيدة
منشور في العدد الأسبوعي - اليوم لدى الباعة






اعلان