24 - 07 - 2024

جورنالجى وأشياء أخرى

جورنالجى وأشياء أخرى

لا أدرى على وجه التحديد، متى تعلمت القراءة؟ ولكنى لا أكاد أتذكر حياتى ما قبل القراءة، حتى يخيل إلى أننى ولدت وأنا أجيدها.

هناك فى ذلك الزمن البعيد، كانت جدتى لأبى تفترش سجادة الصلاة وتجلس فى شرفة بيتنا مستندة إلى الحائط، كانت تنادى علىَّ، وكنت أتلهف لسماع ذلك النداء، حتى وإن أبديت بعضا من التململ على سبيل الدلال .

كان يوم السبت هو يومها، حيث تصدر جريدة "أخبار اليوم" متضمنة صفحة الحوادث: تعالى إقريلى حوادث النهاردة .فأبدى زهوا وأشعر بذاتى وابدأ فى القراءة بصوت جهورى .لم أكن أنتظر أى مقابل من جدتى، فيكفينى أن أشعر بأهميتى فى هذا العمر المبكر .

لم تكن الحوادث وقتها بتلك البشاعة التى نقرأ عنها الآن يوميا بكثير من اللامبالاة، فيبدو أن أحاسيسنا قد تبلدت من واقع أصبح أكثر مسخا من الحوادث ذاتها.

كنت بعد أن أنتهى من القراءة، أركض إلى حجرتى بكثير من الشوق لأتابع حكايا "ميكى وبطوط" .

لم تطل تلك المرحلة كثيرا، فسرعان ما عرفت الطريق إلى "الألغاز" و"روايات الجيب"، كان من العادى أن أنتهى من روايتين أو أكثر فى يوم واحد، ثم أذهب إلى أمى فى المطبخ لأشكو لها من الفراغ.

فيما بعد، ظللت أقرأ لجدتى، ولكنى بدأت أتوسع فى القراءة حتى عرفت الطريق إلى عمود "مواقف" للكاتب الكبير أنيس منصور، ولا أستطيع أن أصف هول تلك المقالات على طفلة حديثة السن مثلى حينذاك، فقد كنت أكاد أن أتجمد رعبا من حواديته المرعبة، حتى أننى كنت كثيرا ما أرفع قدمىَّ الصغيرتين فوق الكرسى حتى لا يجذبهما شبح ما.

عندما التحقت بالمدرسة الإعدادية، كنت أنا الأخرى أترقب بكثير من الشوق عدد صحيفة أخبار اليوم، حيث كانت تنشر سلسلة من روايات الكاتب الكبير مصطفى أمين، تابعت رواية (لا) ورواية (صاحبة الجلالة) ولكن حظى كان سيئا، فقد أصدرت أمى فرمانا يقضى بمنعى من متابعة هذه الروايات التى لا تناسب عمرى البالغ حينها- الثالثة عشر تقريبا- ، فما كان منى إلا أن استجبت على مضض وبدأت أَدّخِر من مصروفى لأشترى الجريدة دون أن تعلم.

وعندما وصلت للمرحلة الثانوية كنت اقرأ يوميا، يوميات الأخبار وكل ما يكتبه أحمد بهاء الدين ومصطفى امين وأحمد رجب وأحمد بهجت..الخ 

وكنت قد قرأت معظم الروايات المترجمة مثل "قصة مدينتين" و"أحدب نوتردام" والبؤساء ....إلخ.

فى تلك المرحلة عرفت الطريق إلى روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ، وأتذكر أن إحدى صديقاتى سخرت منى ذات يوم، لأنها رأت فيلما لنجيب محفوظ ولم يعجبها، فأجبتها أننى أيضا لا تستهوينى كثير من أفلامه، و لكن الغوص داخل أوراق رواياته له مذاق مختلف.

وللمرة الثانية تتدخل أمى لتمنعنى من قراءة أى عمل للكاتب الكبير، لأنه لا يناسب سنى أيضا.

يومها غضبت وثرت وشعرت بإهانة، ذلك أننى لم يجذبنى إليه حوارات رأت أمى أنه لا يصح لمراهقة مثلى أن تقرأها، فقد جرحنى هذا الرأى للغاية .

ورغم كل ذلك العشق لم تكن لدى أية رغبة أن أكون أديبة أو صحفية، فأين أنا من تلك القامات!

كنت أريد أن أصبح مهندسة ديكور، فإلى جانب تلك الهواية ، كنت - ولا زلت - ألتقط مجلات الديكور وأتصفحها بكثير من الدهشة والإعجاب.

الحقيقة أننى لم أكن أرى تعارضا بين الديكور والأدب فكلاهما يعبر عن الجمال، فلا عجب أن ترى فنانا قد خط بريشته غلاف إحدى الروايات، ليلخص بإبداع مشوق ما جاء فى الرواية، وربما يصلح ذلك الغلاف نفسه ليكون لوحة زيتية مبهرة.

ولكن أبى أشفق علىَّ من تلك المهنة: مش حتقدرى عالعمال ومواعيدهم، ولا حتقدرى تدخلى فى ردم  أو بناء أو تطلعى - عالسقالة - لمعاينة شقة تحت التشطيب.

و للأمانة هو لم يمنعنى، ولكنى لم أكن أحب أن أخالفه، فاخترت كلية الإعلام.

من المؤكد أن زملائى لم ينسوا حتى الآن ما قيل لنا فى المحاضرة الأولى للسيد عميد الكلية: إنتو كِرِيمة دفعة الثانوية العامة.

ومن المفارقات اللطيفة حقا، أن تُقَرر علينا فى السنة الأولى فى الجامعة، رواية "بداية ونهاية" للأديب نجيب محفوظ التى كنت قد قرأتها أكثر من مرة قبل أن تمنعنى أمى، فأحسست بكثير من جبر الخاطر .

تخرجت وعملت، وكانت الصدمة، أين ذهب زملائى وزميلاتى (كِرِيمة الثانوية العامة ) كما أخبرونا؟

 لقد كنت أعمل مع مجموعة من المرتزقة، الذين لا يعلمون ألف باء الإعلام، ويريدون بكل الوسائل أن يتقربوا من المسئولين ليحصلوا على امتيازات شخصية مهما كلفهم ذلك الأمر .

كنت الوحيدة بينهم التى تحمل بكالوريوس إعلام، ورغم ذلك كان معظمهم يحمل كارنيه نقابة الصحفيين، وأنا هنا لا أدينهم فكل القامات التى ذكرتها آنفا، ليسوا من خريجى إعلام، ولكنهم مارسوا العمل الصحفى كما يجب أن يكون، بل وعلموه لنا، وكثير منهم دفع ثمن ذلك باهظا .

كان التحدى أن أبقى وسط هؤلاء أمرا صعبا للغاية بل وغير مجدٍ أيضا، فإعتزلت الصحافة دون أن اتقاضى منها جنيها واحدا وأنا أقول فى نفسى: فزت ورب الكعبة.

بعد تلك الفترة كنت بحاجة إلى تخليص مهمة حكومية، فعرض علىَّ زوجى أن يعرفنى على شخص يستطيع المساعدة .

فى ذلك اليوم رأيت شخصا، غريب الأطوار، سوقى الألفاظ، يبدو على هيئته بؤس لا يشعر هو به، فقد كان واثقا من نفسه واستطاع أن ينهى لى المهمة فى وقت قياسى، وفى المقابل كان يريد من زوجى مصلحة ما .

كنت أعتقد حينها أنه عسكرى أو أمين شرطة ، ولكنى بُهِتت حين علمت أنه صحفى، وإلى الآن لا أتخيل كيف إستطاع رجل كهذا أن يصير صحفيا! فلم يكن أكثر من سمسار أو "مِشَهِلاتى" يقصده البعض من حين إلى آخر ليقضى لهم خدمة، مقابل خدمة أو حتى مقابل مال .

 عرض على وقتها أن أحصل على "كارنيه النقابة" مقابل عشرة آلاف جنيه، ورغم أن المبلغ كان كبيرا وقتها إلا أن العرض كان مغريا للغاية، ولكنى إستشعرت أن فى الأمر شبهة حرام فشكرته واعتذرت .

مع الوقت بزغ نجم كثير من زملاء الكلية الذين أشهد لهم بالخلق والاحترام، وصاروا ملء السمع والبصر، والحق أننى كنت جد فخورة بهم.

ولكن فى أحد الأيام جمعنى لقاء بأحد الوزراء فى عهد مبارك، و لم تكن ثورة يناير قد قامت بعد، و فجأة تحدث أمامى عن أحد زملائى الصحفيين، وكان شخصا محترمًا، واسع الإطلاع والثقافة، مشهود له بالأمانة ولكنه كان معارضا لعهد مبارك، فوجدت الوزير قد ثار وهاج وماج وتحدث عنه بإستهجان شديد.

حسنا، كان من الطبيعى أن أتوقع أن يتحدث وزير عن صحفى يعارض سياسته بمثل هذا النفور.

 فقلت ملطفة: فلان أيضا زميل عزيز، وكان ذلك الـ - فلان - مؤيدا و مقربا من أصحاب صنع القرار، ويشغل مكانا مرموقا فى ذلك الوقت، إلا أنه تحدث عنه ربما بإستياء أشد: دا بيطلع عينى على مايفهم مطلوب منه إيه؟، ما تزعليش منى كلهم أغبياء !

ابتسمت للوزير بلطف قائلة: كان الله فى العون، وحولت دفة الحوار إلى موضوع آخر.

أعترف أن كثيرا من أبناء المهنة قد أساءوا إليها، ولأنهم هانت عليهم أنفسهم وصاروا مجرد أتباع، فمن الطبيعى ان يتبرأ الذين إتُبِعوا من الذين إتٌبَعوا.

 ولكن المزعج حقا أن تلك المهنة التى ساهمت فى تشكيل ثقافة معظمنا أكثر مما فعلت المدارس، صارت مهنة من لا مهنة له، وكذلك الحال بالنسبة للإذاعة والتلفزيون، حتى أننى سمعت أحد زملائى من الصحفيين يقول: والله بقيت أتكسف أقول إنى صحفى !! 

والأكثر إزعاجا أن كثيرا من المتميزين حقا، لم يحظوا بمكانة تناسب قدراتهم، فلا عجب أن يمتليء المجال بأمثال "محفوظ عجب" بطل رواية الكاتب مصطفى أمين .

فى البلاد المتقدمة، يسعى زعماء العالم لمقابلة صحفى بعينه، ليس فقط لأنهم يعرفون قدره، ولكن لأن الصحفى أيضا يعرف قدر نفسه.

هل تعرف عزيزى القارئ ماهى مهمة الصحافة؟ إنها "رسالة" لنقل الواقع بأمانة والعمل على نشر الوعى وتثقيف أجيال قادرة على حمل هم الوطن فيما بعد.. الصحافة هى فضح الزيف والبحث عن العدل..  بإختصار الصحافة هى الخطوة الأولى فى الطريق نحو الديمواقراطية وبناء الأوطان .
------------------
بقلم: أماني قاسم

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف