17 - 07 - 2024

أبو صالح أنيس لقمان: أن يسبَّني أحد بالفُصحى أَحبُّ إليّ مِن أن يمدحني بالعامية (حوار)

أبو صالح أنيس لقمان: أن يسبَّني أحد بالفُصحى أَحبُّ إليّ مِن أن يمدحني بالعامية (حوار)

هندي الجنسية عربي القلب واللسان؛ يلزم نفْسه وأهل بيته بألا يتحدثوا بغير الفُصحى رغم إجادته خمس لغات!
- لن يتبوأ العرب مكانتهم اللائقة عالميًا؛ ويستعيدوا أمجادهم؛ ما لم تحتل لغتُهم عقولَهم وقلوبَهم وألسنتَهم
- العقل العربي لا يعتز بعروبته، ولا يحمل هَم لغته،وليست لديه إرادة لتعزيزها
- العربية تحتاج لـ "توفل" أو "أيلتس" كاللغات الأجنبية الأخرى

كان والده عامل نسيج بسيط يقطن مدينة هندية فقيرة؛ ورغم قسوة الحياة ومعاناته إلا أنه استطاع أن يحِيك لابنه قصة حياة على مِنوال الرضا بالقدر، فلم تتذمر الأسرة من شَظف العَيش رغم بؤسه، ورأت أن دراسة لغة القرآن يعقبه لا مراء الخير الكثير، فكان قرار الأب الواعي والمفاجئ بإلحاق ابنه بالمعهد الديني الليلي، ليتفاجأ بأنه الطفل الوحيد بين دارسين أكبر عُمرًا من أبيه! ولم تتوان الأم بنصحيته بحُب الكِتاب - رغم جهلها باللغة العربية - وهي تُنشد دومًا على مسامع طفلها بيتًا شعريًا بلغة "الأوردو" بنفس معنى بيت المُتنبي: وخير جليس في الزمان كِتاب.

عشِق الصبي العربية حد الوَله وجُنَّ بها؛ فدرسها، ونهل من  علوم القرآن والحديث والفقه حتى نال شهادته العالمية في كلية ”دارالعلوم ندوة العلماء"، وعلى هذا صار اسمه "أبو صالح الندوي" تمامًا مثلما يُلقّب خريج الأزهر بـ "الأزهري"، واتخذ قرارًا مذ مارس 1985 بألا يتكلم في بيته أو خارجه بغير الفصحى؛ وألزم أهل بيته بذلك! ليظل يردد: "أن يسبَّني أحدهم بالفصحى أحبُّ إليّ مِن أنْ يمدحني بالعامية"! فغيرته على اللغة أكثر من غيرته على زوجته -على حد تعبيره - ويتحمل أن يخدش أحدهم وجهها ولا يخدش العربية! 

ولأن العربية مُقدّسة بالهند وبنجلاديش وباكستان لكونها لغة القرآن؛ حيث يدرسُها مئات الآلاف من الأشخاص؛ فكان الأطفال يتعلمونها وينطقون أبجديتها وإن لم يفهموها! مستعينين في ذلك بالقاعدة البغدادية والنورانية، ويتم ترجمتها لهم بالأوردو، ليظهر نبوغ العاشق فيتقن العربية الفصحى ويقوم بترجمة "التذكير القويم في تفسير القرآن الكريم" من اللغة الأوردية إلى العربية في ثلاثة مجلدات، وشارك في إعداد الموسوعة القرآنية باللغة الإنجليزية، وترجمة وتنقيح وتدقيق معاني القرآن بالإنجليزية، عدا مئات المقالات والكتب التي شارك في إعدادها.

مع عربيته أتقن خمس لغات أخرى وألَّف بها: الإنجليزية والهندية والفارسية والأوردو والمرهتية، وكان البريطانيون يستعينون به ليدقِّق لهم لغتهم الإنجليزية! أما الأوردو ونتيجة لتشابه كثير مِن ألفاظها مع العربية؛ فكان ينطق المتشابه بالعربي، فمثلا: كلمة المستقبَل باللغة العربية يقابلها المستقبِل (بكسر الباء) في الأوردية؛ فيصر على نطق اللفظ الأوردو كما هو بالعربية، وكذا كلمة مُبتدأ بالعربية يقابلها كلمة مُبتِدَى بالأوردو؛ وكأنه يحاول تعريب الأوردو!

المشهد تحاور مَن شغفته اللغة حبًا؛ ولأنه علِم قَدْرها فقد أتاه هواها قبل أن يعرف الهوى؛ فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا، فصار أول هندي يعلِّم العرب لغتهم في بلادهم وتحديدًا بدول الخليج! ويطور مناهجها وطرق تدريسها ليصبح خبيرًا في النهوض بمناهجها، ويوجه اللوم لأهلها لإهمالهم إياها، ويضع المقترحات والابتكارات منها شهادة "توفل" العربية للأجنبي، وغرامة لمن لا يتقنها من أبنائها.. علّنا نفيق من غفلتنا.

*عن الروافد الأولى التي أمدّته بمدادٍ عربيٍّ مبِين يقول:

-بدايةً؛ كانت لغتنا لغة العصر، ولمن يجيدها خطابةً ونثرًا وشِعرًا مكانة مرموقة ويخطب ودَّه عِلية القوم! ويكفي العربية شرفًا وعظمة أن نزلت بها أعظم معجزة بيانية وفكرية في التاريخ البشري ألا وهي القرآن الكريم، وكفى العرب هوانًا وخسرانًا وضياعًا ألا يقدِّرونها تقديرًا؛ فيكون مَثَلهم كقول الشاعر: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ .. والماء فوق ظهورها محمول.

بدأت علاقتي باللغة الشريفة في الكُتّاب مذ كنت طفلا؛ وقت تتلمذتُ على يد العالِم والمفكر الإسلامي الهندي أبو الحسن الندوي، واستمعت منه لأول مرة لقصص الأنبياء، وفيما بعد قرأت لابن  قتيبة الدينوري "أدب الكاتب"؛ وكل كُتب الجاحظ، وما كتبه عبد الله بن المقفع في الأدب الصغير والكبير، لدرجة أنّي لا أذكر عدد المرات التي قرأت فيها "كليلة ودمنة"، وكذا قرأتُ للعقاد؛ والرافعي؛ وطه حسين؛ ومحمد كُرد علي، فصرتُ كما يقول الشاعر الهندي الكبير محمد إقبال: "أنا أعجمي الدَّن لكن خمرتي.. صُنع الحجاز وكرمها الفينان.. إن كان لي نغم الهنود ولحنهم.. لكن هذا الصوت مِن عدنان" ويقصد أنه عربي اللسان.

*بعين الغيور رصدتَ عوامل عدم اكتراثنا وإهمالنا لها؛ فكيف وجدتَ؟

هالني مزاحمة العامية للفصحى، وأن يعتلي الإعلام من لا يجيدها، ولغة الأفلام والأغاني العامية ساعدت كثيرًا على تدهورها، بينما اللغة الأوردية والهندية الفصيحتان قد حافظ عليهما أن أفلامنا وأغانينا وإعلامنا كلها بالفصحى مهما تحدثنا في بيوتنا بالعامية! أذكر مقالا للعلامة علي الطنطاوي كتبه 1920 عنوانه: "اللغة التي خنقها أهلوها"، قال فيه: (أن اللغة ليست في خطر في مواجهة اللغة الإنجليزية؛ بل في مواجهة اللغة العامية)، وهي التي سمّاها الخبير اللغوي الأمريكي المعروف "تشارلز فيرجيسون" بظاهرة "ازدواجية اللغة"؛ بعد دراسته لأربع لغاتٍ عالمية منها العربية.

في المقابل؛ في مصر إبان الاستعمار البريطاني نجد "وليام كوليكس" المهندس البريطاني يلقي خطابًا في حديقة الأزبكية بالقاهرة عام 1893، ينادي بإلغاء الفصحى لأنها السبب في عدم قدرة المصريين على الالتحاق بمضمار الاختراعات والابتكارات! ثم يأتي العِلم ليثبت أن التفكير العلمي والمنطقي والفلسفي المجرد لا يتأتى بالعامية أبدًا، وأن اللهجات العامية تشكل فجوة كبيرة بين أبناء اللغة العربية وتراثهم العريق ومجاراتهم لأنماط التفكير المتطورة في عالمهم المعاصر، وفي تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة جاء فيه: أن التنمية البشرية تعتمد على اللغة الأم.

ويتضح الأمر أكثر حين نَعلم أن اللغات الأخرى كالإنجليزية مثلا لها عشرات اللهجات حتى في لندن وحدها، لكن في التعليم والإعلام والدوائر الحكومية لابد من الفصحى، وخطأ واحد في حروف اللغة نطقًا أو كتابة في وسائل الإعلام كفيل بإنهاء خدمة الإعلامي من عمله، فكيف الحال في دولكم العربية التي تنص دساتيرها على أن العربية هي لغتها الرسمية؟!

*باعتبارك خبيرًا وأكاديميًا ومُطوّرًا لأساليب تدريس اللغة؛ ما أهم المقترحات التي تراودك دومًا؟

حسب نظريات علماء النفس يستطيع الطفل أن يتقن ثلاث لغات حتى المرحلة الثانوية، وهذا مطبق في الهند والصين ودول أخرى، فلِمَ لا يتم تعليم الفصحى لأبنائنا بجوار اللغات الأخرى؟ لمَ لا يُلزَم المعلمون بالتحدث بها؟ لابد من توقيع غرامات على الذي يتخلى عنها بِدلا مِن رصد الجوائز لمن يتقنها؟ لابد من إنشاء معاهد ومراكز ثقافية في كل دول العالَم لتدريسها كما يفعل أهل الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللغات الأخرى؟ أين شهادة "التوفل" أو "الأيلتس" في العربية لمن يريد العمل أو الدراسة أو الإقامة في دولكم - خاصة دول الخليج -  كما تفعل بقية اللغات؟ انظروا لأسبانيا وألمانيا وفرنسا التي تلزم قطاعات معينة بالتعامل بالفصحى دون تهاون، وتلزم الوافدين بإتقان لغاتها، كيف لا تلتزم الأسْرة بالحديث بالفصحي في البيت ولو ساعة واحدة كل يوم؟

*أعلم أن مفارقات كثيرة صادفتك لإتقانك العربية؛ حدثنا قليلا عنها

كنت أحدِّث نفسي بالعربية في طرقات الهند وفي البيت؛ والبعض ينظر إليّ مندهشًا، فأقوم بترجمة ما أقوله بالأوردية ثم أرد عليه بالعربية، طبعًا صادفتُ سخرية، فقررتُ إنشاء مدرسة ليلية؛ اصطحبتُ فيها طلابي إلى المحال والشوارع والأسواق ليتعلموا كيف يمكن للغة أن تصبح حياة وممارسة، لإيماني بأنّه لا يمكن إتقانها إن لم تخرج من الكِتاب إلى السلوك والممارسة اليومية، فابتكرتُ طُرقًا تضاهي الكثير من مبادرات كبار اللغويين أمثال "برليتز"صاحب المعاهد المنتشرة عالميًا لتعليم اللغات، وكان أسلوبي كأسلوبه دون أن أطّلع عليه.

الغريب أنّي كلما تحدثتُ الفصحى في بلادكم أجد الاندهاش والاستغراب ليبادرني المستمعون مِن فَورهم: إذن أنت لستَ عربيًا!! كما لا أجد حرجًا مِن تصحيح اي خطا لغوي يصادفني سواء من جهة أو مسؤول مهما علا شأوه ومكانته، وقمتُ بمراسلة بعض الدول أكثر من مرة لأصحح لهم خطاباتهم الرسمية الموجهة لجهات عليا، البعض يتقبل والبعض يسخر دون شك.. لكني لا أهتم فأنا أغار بحرقة على معشوقتي، وأود حمايتها من "التلوث اللغوي" الذي كاد يذهب ببريقها؛ وينخر في جذورها الأصيلة.