17 - 07 - 2024

كاتب يحلم بسؤال الله إن كان قد وعد شعبًا بأي شيء فكان الرد: لقد أعطيتكم البارود، فتصرفوا

كاتب يحلم بسؤال الله إن كان قد وعد شعبًا بأي شيء فكان الرد: لقد أعطيتكم البارود، فتصرفوا

يموت ببطء من لم يسافر

طاف العصفوري 20 مدينة في 40 سنة فماذا فعل؟ 
- كاتب يحلم بسؤال الله إن كان قد وعد شعبًا بأي شيء فكان الرد: لقد أعطيتكم البارود، فتصرفوا على هذا الأساس.
- يرى القاهرة غوغائية لا نظام فيها ولا نظافة، عدالتها بصيرة لا عمياء، لكنها خرساء لا تصرخ من فرط الفشل والفساد

في كتابه 20 مدينة 40 سنة طاف بنا شريف العصفوري مدنا جميلة قديمة، قدم التاريخ ذاته، باستثناءات قليلة حين كتب عن المدن الأمريكية. 

يوحي هذا العنوان بأن الكاتب قد زار عشرين مدينة في أربعين سنة أو أنه سيكتب لنا عن حركة زياراته التي تعكس معرفته بهذه المدن خلال أربعين سنة والفرق كبير بين الحالتين فماذا فعل؟

على الغلاف رسم لمقدمة مركب يبدو مركبًا شراعيًا قديمًا، تعلوه شبكات من الخيوط معلق عليها مفاتيح هذه المدن: غلاف ذكي موحي بعمق. وقد خصص العنوان الفرعي لأدب الرحلات.

يقول بابلو نيرودا الشاعر العظيم: يموت ببطء من لا يسافر من لا يقرأ من لا يسمع الموسيقى.

لأدب الرحلات مفهوم واسع، وقد نشأ هذا الأدب في الخيال قبل الواقع: في الحكايات الشعبية عن رحلات الأبطال العظام عرفنا من خلالها رحلات إيزيس لجمع أشلاء جسد أوزوريس وعرفنا رحلات انكيدو إلى العالم السفلي في ملحمة جلجامش بحثًا عن الخلود، ورحلة أوديسيوس عند الاغريق، وأوليسس عند الرومان، ورحلات أبو زيد الهلالي، هذا خلاف رحلات القديسين.

وقد بدأ أدب الرحلات الحقيقي مع بعثات المستكشفين الأوائل، وتسجيلهم لكل التفاصيل بتكليف من الملوك المنفقين على الرحلات حتى لو كان من باب الخرافة وهناك رحلات خيالية مثل رحلات السندباد، ورسالة الغفران وحي ابن يقظان لأبي العلاء المعري وعجائب المخلوقات للقظويني ورحلات ابن بطوطة والبيروني وابن خلدون وفي العصر الحديث تلخيص الإبريز لرفاعة الطهطاوي.

تتسع الرؤيا أيضًا لكتابة رواية هي رحلة في موضوعها مثل الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال، والخيميائي لباولو كوهيلو وزهرة العمر لتوفيق الحكيم ورواية شريف العصفوري سيثالونيكي القائمة على الرحلة أيضًا وروايتي مطر على بغداد وغيرها من الروايات.

لكن هناك فرق كبير بين أدب الرحلة ورواية الرحلة، فرواية الرحلة هي رواية تجمع كل عناصر العمل الروائي حتى لو كان موضوعها يدور في رحلة، على عكس أدب الرحلات الذي يعتمد على مشاهدات الكاتب ومشاعره، والذي يكتب بأسلوب أدبي جزل لكن لا يوجد فيه صراع ولا دراما، ولا مركز تدور حوله الأحداث، ولا يستلزم بالضرورة لغة شعرية أو بنية روائية.

وقد توقفت أمام مدرسة الكتابة لاثنين من عمالقة كتاب أدب الرحلة د. حسن فوزي والكاتب أنيس منصور، فوجدت أن حسين فوزي قد ركز على الفنون خاصة الموسيقى والأوبرا والبحار بصفته عالما في البحار، ويخلص فوزي إلى أن الحضارة كل لا تتجزأ ويشدد على تعميق ثقافتنا بخصائص حضارتنا المصرية القديمة. 

أما أنيس منصور فركز بقلم رشيق جدًا وجذاب، على وصف البشر وعادات الناس والأماكن وحكى حكاياته في غلالة فلسفية تظهر وتختفي أحيانًا وهو ما يعود بنا إلى ما قدمه شريف العصفوري في كتابه، فماذا فعل؟ 

طاف بنا العصفوري في عشرين مدينة، واعتبر أن كل مدينة هي عالم بذاته. مستقل حتى عن الدولة التي تنتمي المدينة إليها. واهتم بفكرة استقلال المدينة على المستوى السياسي، كما في حديثه عن البندقية، التي أبقت على التقاليد الجمهورية الرومانية من اختيار الأعيان لرئيس المدينة إلى مشاركة مجلس من الشيوخ الرئيس التنفيذي في مراجعة وتنفيذ القرارات. وأفرد فقرات لشرح مقاومة الملوك والباباوات ومعاداتهم لهذا الاستقلال بتكرار غزو المدينة الذي استمر لألف عام، لكن المدينة انتصرت لاستقلالها خاصة في العصور الوسطى. 

مدينة أخرى اهتم باستقلالها هي لوس انجلوس التي استقلت بعض احيائها وأقامت شرطتها، ومدارسها، وتولت نظافتها وشئون الحي الإدارية بكفاءة أكثر من المركز، سبعون مدينة صغيرة يبلغ مجموع تعداد سكانها 460 ألف نسمة استقلت عن ولاية لوس انجلوس.

هكذا تحدث شريف العصفوري عن مدن أمريكية دون أن يتحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية، إلا فيما ندر، فكتب عن سان فرانسيسكو باعتبارها مدينة تقدمية، ومهدا للحركة السوداء للمقاومة ضد العنصرية في الستينات، استطاعت إيجاد صيغ للتعايش السلمي، والاهتمام بحقوق الأنسان، وقد شبهها بمدينة تتجاوز المحن مثل العنقاء تقوم من الرماد.

كتب أيضًا عن نيو نيفادا، أرض الرب والبنادق، لأنها موطن حبيبته مولي، ثم كتب عن نيويورك واعتبرها النموذج الأصلي للمدينة الكبيرة التي قهرت لندن كأكبر مدينة في العالم 1928. ووزع الكتابة عن هذه المدن الأمريكية بعرض الكتاب دون تجاور فالأصل هو المدينة بتركيبها الخاص، وليس بانتمائها لهذه الدولة فكما فهمنا من الكتاب أن المدن تتبادل المواقع تحت سياط السياسة، واندحار الدول الكبرى لتحل محلها ربما امبراطوريات أخرى، فتتبعثر المدن بين الامبراطوريات الجديدة، وتنتمي لعالم آخر، كما حدث مع سيثالونيكي.

امتدت هذه الرؤيا لتشمل مدينتين انجليزيتين هما لندن ونيو كاسل على التايين، وقد شعرت بحبه للندن وتقديره لثقافتها ومعرفته العميقة بخصائص الشخصية الإنجليزية التي توقف عندها، واشتبك معها ومع انسانها، على عكس مدن كثيرة لم نتعرف على ملامح مواطنيها، على الأقل عاطفيًا، بقدر ما قدم لنا أحداثًا تاريخية ووصفا جغرافيا وتحولات جذرية خارجة عن إرادة هؤلاء البشر.

انتقل هذا التعامل إلى إيطاليا حين قدم فينسيا، ثم نابولي، وكذلك ألمانيا في رحلاته إلى ميونيخ وبرلين، وقد كنت أظن في بداية قراءتي للكتاب أن الرحلات كتبت بتوالي التواريخ، ولكني لم أجد هذا التسلسل فعرفت أنه قد تعمد هذا. خاصة أنه حين كتب عن القاهرة التي يعيش فيها الآن فقد تحدث عنها وحدها دون مصر ووصفها بالغوغائية لا نظام فيها، ولا نظافة، عدالتها بصيرة لا عمياء، خرساء لا تصرخ من فرط جموع الفشل والفساد، وأن عزاءه الوحيد على سكناه بها أنه سيدفن في بورسعيد على شاطئ البحر.

على عكس القاهرة حين تحدث عن الجزائر التي عاش بها لسبع سنوات كاملة كتب قليلا عن الجزائر العاصمة ثم قدم صراع الدولة وبحثها عن الحرية وعلاقتها الشائكة بفرنسا أثناء الاحتلال وبعد الاستقلال، وربما تكون الجزائر من البلاد القليلة في هذا الكتاب التي حظيت بنظرة شاملة سواء على مستوى العمق التاريخي أو العمق الجغرافي أو بعض مظاهر الاجتماعي مثل ذكر الأعراس، والطعام.

 حين انتهيت من الكتاب سألت نفسي أين العصفوري الانسان في هذه الرحلات الممتعة بحق، الممتلئة بشذرات من الأفكار، والمبادئ السياسية؟ 

غابت الحكايات التي تخصه وغابت مشاعره وانفعالاته، باستثناءات قليلة مثل حبيبته التي ماتت بمرض السرطان، وقلقه من الذهاب إلى حيفا، والثمن الذي دفعه في مدينة نيو كاسل على التايين، التي كان يدرس في جامعتها، وغير مجرى حياته بسبب تنظيمه ليوم للتضامن مع فلسطين، ومنعه، بحجة لصق دعوة في لوحة الإعلانات بدون إذن، من التعيين في أي مؤسسة انجليزيه بسبب الدواعي الأمنية. 

يتمتع أسلوب الكاتب بدرجة خفيفة من السخرية، والتهكم كان يمكن أن تتطور كمفارقة حقيقية تؤدي الغرض من التضاد مثل الكنيسة التي تحولت إلى ملهى ليلي، أو شارع سانتا مونيكا (القديسة مونيكا) لتقديم خدمات جنسية للذكور، أو غلق باب البرلمان أمام طرقات الملكة في لندن كرمز لإعدام البرلمان للمك الإنجليزي، أو الحلم بسؤال الله سبحانه إن كان قد وعد شعبًا دون البشرية بأي شيء ورد الله قائلاً: لقد أعطيتكم البارود، وتصرفوا على هذا الأساس.

من أظرف المشاهد في هذا الكتاب اكتشاف الكاتب أن كل شيء في حياة حبيبته التي ذهب إلى منزل عائلتها ليتعرف على أسرتها مسروق بما في ذلك كلبها، وأنها هي ذاتها متزوجة من آخر.

اختفت موائد الطعام، والشراب وأنواعه من المدن التي زارها، فلم نعرف شيئًا عن الطعام الفرنسي أو الطعام التركي أو الإيطالي أو الصيني وقد ذكرتهم بالاسم لأن قائمة طعامهم متميزة ومختلفة عن بعضها للغاية ويصعب الخلط بينها في المذاق، والنكهة، والشكل، والكمية أيضًا، وكذلك مشروباتهم.

اختفت الملابس والأزياء وكأن الإنسان في هذه الدول لا يرتدي شيئًا، ولا يعتني بهذا التنوع الهائل من الأقمشة وتشكيلها عبر التاريخ والصناعة، والذوق بين أقطاب الكرة الأرضية. اختفت الألعاب كلها بل وغضب الطبيعة وفرحها اختفى الرقص والفن، لأن المؤلف حسب ظني شحيح الوصف مهتم أكثر بالتاريخ والجغرافيا، ولا بأس، فللمعلومات متعة نجح في إيصالها لنا، لكن الحياة أغنى وأرحب ويستحق أدب الرحلات أن يصحبنا كاتبه ليقدم لنا رحلة مع الإنسانية. 
--------------
بقلم: هالة البدري