31 - 10 - 2024

وسط البلد الباهر!

وسط البلد الباهر!

وسط البلد مش حاجة واحدة.. ولا ينفع اختزاله في وجهة نظر فردية.. ولا مقولة تتقال مرة وخلصنا.. لا يجوز..

دي تاريخ متراكم من زماااان.. من قهوة متاتيا وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول إبان إرهاصات الثورة العرابية.. ومن قبل ثورة ١٩.. وأثناء ثورة ١٩٣٥ بكل تجلياتها وثورة يوليو بكل أحداثها وتغييراتها السياسية والفكرية والاجتماعية..

لكن "وسط البلد" تظل مثل أي شئ في الدنيا.. ممكن كل شخص يشوفها من زاويته.. وحسب مهمته فيه.. فالمخبر المطلوب منه كتابة تقارير في المبدعين والمثقفين عموما لصالح جهات ما.. طبيعي يشوفه مكان لناس خطر على أمن البلد.. وسبوبة كويسة بالتقارير اللي بيكتبها عنهم علشان يحمي الوطن من شرهم..

والمهووس بالنساء مهما كان سنّه أو وعيه هيشوفه مكان للشقط حسب نزواته المتحكمة.. وربما يلتزم سمت الحكيم الحنون الأمين.. وصمته.. لكن ليس في عمق رأسه أبدا غير السرير كهدف محدد.. يسوق إليه ضحاياه حين يتمكن منهن.. وبالشكل ده مش هيشوف كل اللي بيغرر بهن غير عاهرات وهن انسانيا أحسن منه بكثير.. لأنه يستغل جراحهن وضعفهن وشتاتهن.. الناتجة عن قسوة وتشابكات الظروف.. وحين يضعف هو ويذوي إلى ظل النهايات لا يستفيق ولا يقول الحقيقة بأنه كان من المفسدين وأسباب تشويه سمعة وسط البلد.. وعرفت بعضهم بتفاصيل مؤلمة للضمائر.. 

ومؤكد المبدعين في زمن نجيب محفوظ والحرافيش العظام كانوا شايفين كازينو صفية حلمي وريش وكازينو النيل وعلى بابا وغيرها أماكن جيدة ولطيفة للقاء الأصدقاء والنقاش في أهم الإبداعات والمستجدات..

وقد التقيت أهم مبدعي مصر على رأسهم نجيب محفوظ وشريف حتاتة وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان وبهاء طاهر وإبراهيم عبد المجيد وفاروق عبد القادر وعبد البديع عبد الحي وشاكر عبد الحميد ومحمد عفيفى مطر والأبنودي والدكتور محمود حافظ والشيخ أبو العينين شعيشع وعبد المنعم رمضان وحلمي سالم ورفعت سلام وحسن طلب والمخزنجي ومحمد المنسي قنديل ويوسف أبو رية ومكاوي سعيد ورضوى عاشور وفريدة النقاش ونجوى شعبان وميرال الطحاوي وبهيجة حسين وأحمد العايدي وغيرهم مئات من أهم المبدعين من كافة الأجيال في مقاهي وسط البلد.. حاورتهم وارتدت كل مجالس الأدباء والنقاد المفيدة جدا..

وترددت على مئات الندوات الرائعة، وكان بعضها ضعيفا، لكن قلب البلد ظل يشغي دائما بسيرة الكتب والنقاشات.. وعرفت فيها أقلاما نقدية جديدة.. وتعرفت على اتجاهات مختلفة، ووجوها مدهشة وأسماء تخطو بثقة في دنيا الإبداع..

وعرفت عم محمد مدبولي الناشر الشهير ومكتبته العامرة التي يرتادها كل العرب والمهتمين.. وسعدت برحلة محمد هاشم وميريت الفاعلة من بدايتها في دنيا النشر والثقافة والنضال والندوات والأصدقاء الذين يشعرون جميعا بأن لهم بيتا في قصر النيل او صبري ابو علم..

وغيرهما من دور النشر التي لا تكف عن النشاط

والأتلييه والتجمع وكل المراكز الثقافية التي تعني أن قلب البلد ينبض بلا توقف.. وشهدت كتبا جديدة مذهلة تتناقلها الأكف وتوقعها الأقلام

ورأيت أجمل الأفلام في سينماتها في عروضها الخاصة والأولي

ومن جانب ثاني.. هناك محلات الطعام والملابس والأحذية التي لا تعدم فيها أبدا ما تريده وقتما تشاء

والشوارع الحميمة التي تألف كل ما فيها من أماكن وأشياء وبشر.. اكل منها اسم.. ولكل اسم حكاية مبهجة او عجيبة او محزنة.. حتى الأرصفة والمطبات وغطيان الصرف البارز ولافتات الشوارع ترتبط بها وتلاحظ أي تغيرات تطرأ عليها.. 

من هنا مرت قوات الجيش بقيادة الزعيم أحمد عرابي.. آتية من ثكنات قصر النيل إلى قصر عابدين مرورا بباب اللوق حيث بيت الزعيم.. يمكنك أن تغمض وترتعش للحماس الذي يضرب جسدك وانت تتخيل صوت الزعيم الفلاح وهو يحدد مطالب الأمة لخديوي الخيانة.. وترتعد حين تتيقن أن الولس كسر عرابي.. وخبا وهج الثورة المبهر.. 

لتسود روح انكسار حزين.. وأغاني هات الإزازة واقعد لاعبني.. وارخي الستارة اللي فريحنا..

إلى أن احتشدت جموع ثورة ١٩ وهتفت للرئيس الجليل سعد زغلول.. و أطلقوا هتاف الاستقلال التام الذي ما يزال هو بالذات يُرجِّع في وجداننا بإلحاح.. وانطلق صوت الشعب الجديد يغني: يا بلح زغلول.. 

وفي هذه الشوارع هتف طلاب المدارس والجامعة العظام في ثورة ١٩٣٥ واستشهد بعضهم بفداء وطني عادي مدهش..

وهنا كانت جريدة اللواء التي حلّق فيها الكاتب العظيم أحمد حلمي أول صحفي سجين رأي.. وبجوارها الأهرام في شارع مظلوم.. وهناك في قصر العيني أسست روزا اليوسف ومحمد التابعي مجلة روزا العظيمة.. وكتب محمد حسين هيكل مقالاته العظيمة في جريدة السياسة عن الحرية والاستقلال والدستور ضد دكتاتورية إسماعيل صدقي الفادحة.. 

وهنا نشر العقاد الجبار كما أسماه سعد الأمة كل مقالاته السياسية الهائلة في تمجيد الزعيم زغلول وضد الانجليز والملك وضد إسماعيل صدقي وحتي ضد النحاس ومكرم عبيد في مراحل معينة

هنا طار حمام الأحلام مجددا من كوامن الصدور إلى كافة آفاق الوطن ضد العدوان الثلاثي.. وضد النكسة وضد التنحي.. وفي الوداع يا حبيب الملايين

وهنا رجعوا التلامذة للجد تاني في حركة الطلاب ببداية السبعينات حول الكعكة الحجرية التي مجدها أمل دنقل

وهنا طالب كبار الكتاب بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم والخلاص من مرارة النكسة

وهنا انطلقت هتافات ١٨ و ١٩ يناير ١٩٧٧ في ثورة شعبية عميقة سريعا ما قمعوها ووصموها بانتفاضة الحرامية

وهنا لاحقت قوات مبارك والعادلي كل وقفات الاحتجاجات والمطالبة بالعدل وكان عنفهما واستخفافهما بآلام الناس سببا مباشرا في انطلاق ثورة يناير البهية التي تلتقط أنفاسها بعمق..

هل رأيتم ميدان التحرير المكتظ هو وكل الشوارع المحيطة بملايين الحلم الكبير الذي يختمر بتمهل في ضمير هذه الأمة وملاذها الآمن بوسط البلد.. أبهى ثورة في أجمل "داون تاون" في الدنيا.. كان حلمنا الأروع وسيبقى.. 

من هنا مر وجلس وأقام كل المبدعين الكبار.. وتركوا آثارهم العظيمة.. وما زال يأتي إليها مئات من المبدعين من كافة أنحاء مصر.. يحملون أحلامهم المرهقة الطامحة العنيدة.. ويقدمون ابداعاتهم بالرغم من انسداد أغلب الآفاق

وستظل وسط البلد هي القلب الطبيعي الحقيقي لهذا الوطن الموجوع

قلب متخم بالأحداث التاريخية والابداعات العظيمة في سائر الفنون

لا شارع فيها يخلو من شئ مهم او مكان تاريخي او سكن لعظيم

فهل يمكن اختزال هذا كله في مكان للمخبرين او لبعض السفهاء

أم انها خطة مقصودة لتحطيم هذا المكان الباذخ بغناه الفريد لصالح أماكن زائفة تتشبه بإمارات نيوم!!
-----------------
بقلم: أسامة الرحيمي

مقالات اخرى للكاتب

كارثة علاء مبارك وصبيانه!!