17 - 07 - 2024

مجدي شندي المسافر في الضباب

مجدي شندي المسافر في الضباب

كانت الأمُّ – وما تزالُ - رمزًا للعطاء والأمان والمَنْح ِ ، وهي لا تكتفي بالعطاء ِ الماديّ وحده ، بل تتجاوزه إلى عطائها المعنوي ، إذْ تحرصُ الأم - دومًا – علي أمان ِ وليدها وسلامته ، فنراها حريصة ً علي تقديم النُّصح لبنيها ، ونتذكرُ تلك المرأة َ العربية َ التي راحتْ توصي ابنتها ليلة َعُرسها بمجموعة من النَّصائح ِ أثمن ِ من الدُّرر ِ

وإذا كانت عنونة النص هي العتبة الأولى التي يرتقي عليها المتلقي للولوج إلى عالم النص والدخول إلي العالم الخفي للشاعر محاولا استنطاقه للبوح بمكنوناته ، فقد وفق الشاعر – هنا - توفيقًا كبيرًا حيث شحن عنوان القصيدة بالكثير من الطاقات الدلالية والرمزية .

فالكلمة الأولى التي تقع عليها عين المتلقي في العنوان والنص بأكمله هي كلمة ( فقه ) وهذه المفردة ترمز لعالم المعرفة وتنتمي إليها دلاليًا ، كيف لا وثقافتنا العربية والإسلامية طالما تحرضنا علي طلب المعرفة ألم تكن الكلمة الأولى تراثنا الإسلامي ( اقرأ ) فعل الأمر الذي يوجب علينا القراءة والبحث ، ثم قوله تعالي : ( ن والقلم وما يسطرون ) ومن يفتش عن هذه المعاني يجدها متواترة في تراثنا العربي والإسلامي الزاخر . 

وبعد ذلك تأتي مفردة السفر التي ترتبط ارتباطا وثيقًا بالمعاناة والاغتراب سواء عي المستوى الجغرافي أو علي مستوى الاغتراب الروحي والسفر هنا يحتمل عدة دلالات قابلة للتأويل فيمكننا قبول أن هذا السفر سفر جغرافي علي اعتبار أن الشاعر ينتمي إلي صعيد مصر وبالتحديد مدينة مغاغة في محافظة المنيا وما يترتب علي هذا السفر من معاناة البعد عن الأسرة ودفء العيش ومواجهة العاصمة ( مدينة القاهرة التي يعيش بها الشاعر ويعمل ) بكل ما تحمله المدينة من قسوة وتجهم ، خاصة لهؤلاء النازحين من الأقاليم والذين يصطدمون بالمدينة في قسوتها ، كما أفاض في هذا الأمر الدكتور مختار أبو غالي في دراسته : المدينة في الشعر العربي المعاصر .

ويأتي التأويل الآخر للسفر والذي يمكن تأويله بالاغتراب الروحي الذي يعانيه المثقف في واقعه حينما يعجز عن تحقيق تلك الصورة الذهنية التي رسمها للوطن والمجتمع وكلا التأويلين قابلان للتأويل لدي شاعرنا . 

ويزيد من حدة الدلالة لمفردة السَّفر ارتباطها بالضباب ، فالسفر حينما يكون محدد الوجهة قطعة من العذاب كما قيل ، ويزداد الأمر قسوة حينما يكون هذا السفر غير محدد الوجهة ، إنه تعبير عن معاناة حقيقة تعايشها الذات الشاعرة التي تنطلق نحو المجهول فهي لا تعرف أين ستضع رحالها ، وهذا يعمِّق مفهوم الاغتراب التي تعانيه الذّات في واقعها فمستقبلها غير محدد ، وغير واضح الأبعاد ، إنه التشويش والارتباك اللذان يحيطان بالرؤية والذي تعبر عنه مفردة الضباب . 

وإذا ولجنا إلي متن النص الشعري ، نجد الشاعر يفتتح نصه بقوله : (تقولُ لي أمي ) والتي تكرر أربع مرات علي مدار القصيدة ، إذ جاء البناء الشعري للقصيدة عبارة عن أربع فقرات يبدأ كل فقرة بقوله : ( تقول لي أمي ) ، والأم – هنا – بؤرة دلالية ومحورية في النص ، فهي تعبر عن المعرفة والحكمة والدراية والخبرة والحنان .

فتقدم الأم لابنها المهاجر زادًا من الوصايا التي تحميه في غربته :

تقول لي أمي انتبه، واسرِجْ خيولك جيدًا

واشحذْ سلاحك قبل نطق ِ الحرف ِ

لا تعجلْ 

قدِّم ورودَك أولاً في ساحة الحرب، وبادئ بالسلام

ولا تجبنْ لحظة الوغى 

أو تلتفتْ للخلف .. فالرمح يا بُنَيَّ 

يشتهي ظهر الحريصِ على الحياة 

كن واحدًا متفرِّدًا في العشق ِ

أما وقت اشتداد الوغى ذَكِّر خصومك بأنك .. 

ألف فارس .. إذا انتهى وقت الكلام

يتناص الشاعر – هنا – مع تراثنا العربي بقوة ، فقد جعل الأم تقدم نصائحها بصورة لا تشوبها خشونة النصائح وثقلها علي النفس ، فهي لم تقل له : احرص علي الموت توهب لك الحياة ، كما جاء في تراثنا ، بل صاغ المعنى نفسه في صورة شهية وطازجة بقولها : 

ولا تجبنْ لحظة الوغى 

أو تلتفتْ للخلف .. فالرمح يا بُنَيَّ 

يشتهي ظهر الحريصِ على الحياة 

كما أنها تذكره بخطورة الكلمة وقوتها ، ولأن الشاعر من أرباب الكلمة بحكم عمله في الحقل الصحفي والإبداعي فهي تقول له : 

تقول لي أمي انتبه، واسرِجْ خيولك جيدًا

واشحذْ سلاحك قبل نطق ِ الحرف ِ

لا تعجلْ

أنها تذكره وتحذره من خطورة الكلمة وفتكها بصاحبها إنها سلاح ماض ٍ ، ولكن تحمل خطرًا أيضا علي صاحبها لذا وجب التروي قبل البدء بنطق الحرف حتي يتأكد أنه في موضعه وأنه علي استعداد لتحمل نتائج النطق به .

وإذا كانت الأم حريصة علي قيمة السلام في الحياة بقولها : 

قدِّم ورودَكَ أولاً في ساحة ِ الحرب ِ، وبادئ بالسَّلام

ولا تجبنْ لحظةَ الوغى 

فهي تطلب منه أن ببادئ الناس بالسلام ويقدم لهم الورود تعبيرا عن المحبة ، ولكن ليس معنى ذلك أن يكون جبانا لحظة المواجهة ، وهذه من شيم الفروسية العربية التي تغرسها الأم في ابنها .

وتواصل الأم نصحها في الفقرة الثانية من النص : 

تقول لي أمي انتبه .. واحذرْ مصالحة الذئابْ 

ولا تراهنْ – ما حييت - على أرضٍ يبابْ

لملمْ شراعَ القلب ِ إن هبّت الريحُ العتية

كُنْ صخرةً إنْ حطّت أطاحتْ 

بمعابدَ الأوثانِ ِ ..

لا تخشَ انكسارًا 

أو شرارًا في عيني صنم

ولا تقاتلْ فارِسًا كُسِرت قوائمُ خيلِه 

أو صار َأعزلَ .. من سِلاحْ 

ولا تُغِرْ في ظُلمة الليل ِ

بلْ انتظر الصباحْ

إنها ما زالت تغرس فيه قيم الفروسية العربية الأصيلة ، بعدم الخوف من أصحاب مراكز القوة مادام علي الحق ، وتوصه بأن يكون قويًا وجلد، وتوصه كذلك بقيمة مهمة من قيم الفروسية وهي عدم مقاتلة العزل أو الضعفاء ، وأن يجابه خصومه في وضح النهار ، ولا يستتر بظلام الليل ، وهذا دأب الشجعان .

وتكمل الأم تزويد ابنها بمزيد من النصائح :

تقول لي أمي انتبه، فإن الحرفَ سيف 

فلا تَخُضْ حربًا بسيفٍ زائفٍ 

واحذرْ مُقارعة َ الغريب

ولا تدعْ حدودَ قلبك لغزال يرعى أو حديقة الروح مشرعة 

فإن الرمح يمكن صده، أما العشق لا 

فاطوِ الجوانح بعد أول مرة ٍ

واعرج بكبدك حيث ..

لايطالكما أحد.

وإذا بكيتَ أو اغتربتَ أو اضطربتَ، أو انكسرتَ أو انتصرتَ ..

فكن وحيدًا

وإن زهدتَ 

أو اشتهيتَ 

أو اكتويتَ بنار عشقك .. 

كن وحيدًا

وتكرر الأم هنا خطورة الكلمة بصورة أوضح مما سبق حينما تشبهها بسيف ، وتحذره من مقارعة الغريب الذي يجهل قوته أو يجهل من هو لأن ذلك ينطوى علي مخاطرة ، ثم تقف الأمُ طويلاً عند العشق وتحذره مرارًا منه ، لأن العشق يضعف الفارس وربما يكون سببا في هلاكه ، لذا فهي توصه بالوحدة مهما اشتد به العشق ، فالوحدة خير من العشق الذي يودي بصاحبه .

ويختتم الشاعر نصه بقول الأم في المقطع الرابع والأخير بقوله :

تقول لي أمي انتبه .. إياكَ تنسى في الضباب ..

حدود قلبك وانتبه 

لحدود روحك حين يفتنها السراب

إن الممالك يا شهي الروح تفنى 

ويبقى ما زرعتَ

وما رسمتَ من أيقونة للعشق خالدة 

وما نثرتَ من نسائمَ في الهجير

فكن العبير 

تتابع الأم حكمتها بنصح ابنها ألا ينسى روحه في زحمة المدينة ، ولا ينسى أحبابه ، ولا تفتنه المدينة بزخرفها ، لأن الممالك تفني ويزول أصحابها ، ويبقي الإبداع ، وتبقي الكلمة خالدة علي مر الأزمان ، ولذا فهي توصه الوصية الأخيرة ، بقولها : فكن العبير ، بكل ما تحمله هذه المفردة من جمال وثراء دلالي . 

وفي النهاية لا أدعي لنفسي أني جعلت النص يبوح بكل أسراره ، فهذا محال ، فعالم الأدب ليس به كلمة وحيدة ولا كلمة أخير ، سيظل النص عصيًا علي الناقد مهما امتلك من أدوات ، ويظل يراوغ ويراوغ لأنه أكبر من ناقده ، ولكني حاولت في هذه الدراسة العجلي أن ألملم بعض اللالي من هذا البحر العميق والزاخر بالعديد من الجواهر ، وقد عبر الشاعر عن رؤيته ، من خلال تكنيك السرد ، والذي يكسب النص بعد دراميا ، ويخلص نصه من السردية الممجوجة ، كما أن اللغة الشعرية جاءت متزنة ليست باللغة المتقعرة التي يتعالي فيها المبدع علي المتلقي ، ولا باللغة الشعبية التي تفقد شعريتها وقدستيتها ، ولكن جاءت في منطقة وسطى بين اللغة القاموسية وبين لغة الشارع .

كما أن الصور الشعرية جاءت موفقة وغير مفتعلة ، فقامت بتجسيد رؤية الشاعر وعبرت عنها ، ببساطة وأصالة .

أما موسيقى النص فجاءت هادئة ، إذ اختار الشاعر بحر الرجز ( مستفعلن ) والذي يتناسب مع طبيعة السرد في القصيدة ، كما أن القوافي جاءت طبيعية وفي موضعها دون افتعال أو تكلف ، كل هذا جعل النص سهلا ممتنعا ، وجعل منه قيمة جمالية ، إذْ نجح الشاعر في توظيف أدواته لخدم رؤيته الشعرية ، وأود أن أنجح في دراسة أعمال الشاعر دراسة متعمقة لرصد أبعاد تجربته الشعرية .
--------------------------
بقلم: علاء البربري*
* شاعر وناقد

***

فقه المسافر في الضباب

(1)

تقول لي أمي انتبه، واسرِجْ خيولك جيدًا

واشحذْ سلاحك قبل نطق الحرف 

لا تعجلْ 

قدِّم ورودَك أولاً في ساحة الحرب، وبادئ بالسلام

ولا تجبنْ لحظة الوغى 

أو تلتفتْ للخلف .. فالرمح يا بُنَيَّ 

يشتهي ظهر الحريصِ على الحياة 

كن واحدًا متفرِّدًا في العشق 

أما وقت اشتداد الوغى ذَكِّر خصومك بأنك .. 

ألف فارس .. إذا انتهى وقت الكلام

(2)

تقول لي أمي انتبه .. واحذرْ مصالحة الذئاب 

ولا تراهنْ – ما حييت - على أرضٍ يباب

لملمْ شراع القلب إن هبّت الريحُ العتية

كن صخرةً إن حطّت أطاحت 

بمعابد الأوثانِ ..

لا تخشَ انكسارًا 

أو شرارًا في عيني صنم

ولا تقاتلْ فارِسًا كُسِرت قوائمُ خيلِه 

أو صار أعزلَ .. من سِلاح 

ولا تُغِرْ في ظُلمة الليل 

بلْ انتظر الصباح

(3)

تقول لي أمي انتبه، فإن الحرف سيف 

فلا تَخُضْ حربًا بسيفٍ زائفٍ 

واحذرْ مُقارعة الغريب

ولا تدعْ حدودَ قلبك لغزال يرعى و لا بوابة الروح مشرعة 

فإن الرمح يمكن صده، أما العشق لا 

فاطوِ الجوانح بعد أول مرة 

واعرج بكبدك حيث ..

لايطالكما أحد.

وإذا بكيتَ أو اغتربتَ أو اضطربتَ، أو انكسرتَ أو انتصرتَ ..

فكن وحيدًا

وإن زهدتَ 

أو اشتهيتَ 

أو اكتويتَ بنار عشقك .. 

كن وحيدًا

(4)

تقول لي أمي انتبه .. إياكَ تنسى في الضباب ..

حدود قلبك وانتبه 

لحدود روحك حين يفتنها السراب

إن الممالك يا شهي الروح تفنى 

ويبقى ما زرعتَ

وما رسمتَ من أيقونة للعشق خالدة 

وما نثرتَ من نسائمَ في الهجير

فكن العبير 

يضوع ويستقر ولا يغادر من غويت 

كن البهيّ .. 

في الحضور وفي الغياب

كن أنت أنت

ولا تساوم