26 - 04 - 2024

بصحبة سعد أردش في منزله

بصحبة سعد أردش في منزله

في تمام السادسة من مساء 19 يوليو 1997 استقبلني الفنان القدير سعد أردش في شقته بشارع شجرة الدر بالزمالك أمام مسرح الزمالك الذي كان فؤاد المهندس يقدم عروضه على خشبته. ذهبت إليه وفق الموعد المحدد بيننا سابقا من أجل إجراء حوار طويل تحت عنوان عام (حكايتي مع الكتاب) الذي كنت أحرره في القاهرة بشكل شبه منتظم لينشر على صفحة كاملة في ملحق (بيان الكتب) الذي يصدر كل يوم اثنين مع جريدة البيان الإماراتية

كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها سعد أردش وجهًا لوجه، رغم أنني حظيت بلقاء العديد من كبار الفنانين والمخرجين المصريين والتعامل معهم قبل ذلك. بوجه جاد وأدب جم حيّاني الرجل وقادني إلى غرفة الصالون. فوجئت بأنه يرتدي قميصًا بنصف كم كحلي اللون مزدانا بورود وزهور بيض فوق بنطال أسود، وكأنه شاب في العشرين أو الثلاثين (مولود في عام 1924، أي أنه كان قد تجاوز السبعين ساعتها). الغرفة واسعة مكيفة تزيّنها إصص الزرع والورد. لكن المفاجأة تمثلت في كمية الكتب التي تحتل أركان البيت... في المكتبة... على مائدة السفرة... على الطاولة الصغيرة... على الأريكة الكبيرة... على سجادة الغرفة.... أينما وليت وجهك فثمة كتب بأحجام ولغات متعددة... عربية وإنجليزية وإيطالية. وقد أخبرني أنه أتقن الإيطالية بعد أن أوفدته الحكومة المصرية في بعثة إلى روما لدراسة المسرح في الخمسينيات.

على الفور أخرجت جهاز التسجيل من حقيبتي القماش (الخاصة بالرسامين)، التي كنت أحمل فيها الأوراق والأقلام والألوان المائية، وشرعت في إجراء الحوار بعد أن طلب الأستاذ سعد من الخادمة إعداد عصير ليمون بارد. كنت مدججًا بأسئلة محددة حول علاقته بالكتاب... وكيف تطورت؟ وما أهم الكتب التي تأثر بها؟ وكيف يقتني كتبه؟ وهل هناك كتاب محدد يستعيد قراءته بين الحين والآخر؟ وماذا ينوي أن يفعل بمكتبته بعد عمر طويل؟ هل سيهديها لإحدى الجامعات أو المعاهد؟ هل سيتركها لأبنائه؟ (بالمناسبة... الفنان التشكيلي الكبير بيكار قال لي ساخرًا إنه سيعطي مكتبته لبائع الروبابيكيا، لأنها تزعج بشدة سيدة المنزل).

في بداية اللقاء كان سعد أردش متحفظا في الحديث. يجيب عن أسئلتي بعبارات قليلة مقتصدة، ربما كان متشككا في قدرتي على إدارة حوار جيد، لكن يبدو أنه مع مرور الوقت اطمأن إلى من يتحدث إليه، فمضى يحكي ويقص عليّ باستفاضة ذكرياته أيام الطفولة والصبا والشباب، وكيف افتتن بجورج أبيض ويوسف وهبي وزكي طليمات وشوقي وعبد الوهاب وأم كلثوم، ثم كيف بهرته سيرة طه حسين التي دونها في كتابه موفور الصيت (الأيام). وكيف انفعل أيما انفعال بمسرح شكسبير، حيث وصفه بعبارة بليغة (مسرح شكسبير يلخص الحياة بصراعاتها وتناقضاتها)، كما أخبرني كم تأثر بكتاب (إعداد الممثل) للمسرحي الروسي الفذ ستانسلافيسكي. كذلك أعجب كثيرًا بالكاتب المسرحي الإيطالي (كارلو جولدوني 1707/ 1793) ومسرحيته المهمة (صخب في كيوتجا).

ثم قال لي بشجن وفخار إنه شارك في تأسيس فرقة المسرح الحر في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات مع صلاح منصور وعبد الحفيظ التطاوي وعبد المنعم مدبولي ونعمان عاشور، وأنهم قرروا أن يقدموا أولى عروض فرقتهم على مسرح (دار الأوبرا الملكية) عام 1950، وذهبوا إلى طه حسين قبل الافتتاح بيومين ليدعوه لحضور العرض، وكان وزيرًا للمعارف آنذاك، فقال لهم الأستاذ العميد عبارة مازال يتذكرها بالنص حتى الآن، وفجأة تقمص الأستاذ سعد أردش شخصية طه حسين وألقى عليّ منطوق العبارة بأداء مذهل، إذ قال بصوته الأجش (الحمد لله الذي جعلني أرى شبابًا يقولون عملنا، ولا يقولون سنعمل). وقد أكد لي الفنان الكبير أن جملة طه حسين هذه كانت سراجًا يضيء له الطريق طوال حياته فيما بعد.

نحو ثلاث ساعات قضيتها في بيت سعد أردش، أسأل وألح ويجيب ويستفيض، وقد تخفف من سطوة السنين وصرامة الأيام، وعندما أنهيت الحوار، صافحني بحرارة وقال لي بنبرة أبوية، وأعتذر عن ذكر ذلك، قال: (يا ناصر... لقد فاجأتني... أنت محاور جيد جدًا).

واليوم 13 يونيو تمر 11 سنة على رحيل هذا الممثل القدير والمخرج المتفرد، فأتذكر حواري معه، وأتذكر أيضا انزعاجه الشديد من مخرجي المسرح والدراما في تلك الأيام، وأتسائل: ماذا سيقول لو شاهد مسلسلات وعروض هذا الزمان؟
------------------
بقلم: ناصر عراق*
* روائي مصري حاصل على جائزة كتارا

مقالات اخرى للكاتب

بصحبة سعد أردش في منزله





اعلان