26 - 04 - 2024

قضية أوراق بنما المسكوت عنها .. بعض المتورطين أصبحوا وزراء (الحلقة الأولي)

قضية أوراق بنما المسكوت عنها .. بعض المتورطين أصبحوا وزراء (الحلقة الأولي)

مقدمة تحليل لقوائم أسماء المتورطين في شركات الأوف شور وفصة هذه الشركات المشبوهة
- ماذا فعلت الجهات الرقابية والقضائية في نحو 722 اسما وردت أسماؤهم في القضية؟ لاشيء .. 
- عائلات مبارك وأحمد عز والعادلي وجرانة ووزراء سابقون بينهم رشيد محمد رشيد والمغربي متورطون 

بدءا من  السابع عشر من شهر أكتوبر عام 2011 ، بدأت تتسرب إلى بعض الصحف الألمانية والأوربية، نتائج بعض التحقيقات الصحفية الجريئة، لما أصبح يعرف بأسم "الرابطة الدولية للصحفيين الإستقصائيين "International Consortium of Investigative Journalists ( I.C.I.J) ، متضمنة معلومات ووثائق، عن أسماء أشخاص وشركاتوصناديق استثمار، ومؤسسات أعمال تتحرك خارج إطار القوانين والنظم الضريبية للدول، فيما يشبه شبكات إجرامية، وتحالفات دولية شبه منظمة، وهى الوثائق التى أمكن الوصول إليها من خلال تسريب ملايين الوثائق المخزنة فى قاعدة بيانات إحدى الشركات المسئولة عن إدارة جزء من هذا النشاط على المسرح العالمى والمسماه "موساك فونسيكا "Mossack Fonseca  فى جمهورية بنما بأمريكا الوسطى. 

وفى يونيه من عام 2013، تأسس الموقع الإلكترونى للرابطة الدولية للصحفيين الإستقصائيين ( ICIJ ) ، وبدأ فى نشر بعض تلك المعلومات والوثائق، فنشر حوالى 100 ألف أسم لكيانات وأسماء أشخاص وشركات تأسست بنظام الأوف شو OFF-SHORE  ، تلك الآفة الخطيرة التى بدأت فى الظهور على المسرح الاقتصادى عالميا منذ عام 1977، تبعه نشر أسماء إضافية حتى قارب عددها بحلول عام 2017 حوالى 785 ألف أسم لكيانات وصناديق تمويل واستثمار وأشخاص فى أكثر من 200 بلد حول العالم، والتى عرفت فى الصحافة العالمية بأسم فضيحة أوراق بنما Panama Papers .

لقد أمكن لهؤلاء الصحفيين الرائعين الحصول على أكثر من 11.5 مليون ملف بيانات ووثائق من قاعدة بيانات شركة واحدة هى Mossack Fonseca  فى بنما، تتضمن العمليات المشروعة وغير المشروعة لكبار الشخصيات والكيانات الاقتصادية والمالية، والتى تغطيها بنوك كبرى فى كافة المراكز المالية الدولية، ومن بينها عمليات التهرب الضريبى وغسل الأموال، والأحتيال . 

لقد أظهرت نتائج هذه التحقيقات الاستقصائية - التى لا تقل أهمية وخطورة عن تلك التى قدمها الباحث والصحفى الإسترالى " جوليان أسانج " –  فى تسريباته على موقع ويكيليكس Wiki- Leaks   أو ما فعله موظف الأمن القومى الأمريكى السابق "جورج سنودن " G. SNOWDEN.  عن عمليات نهب منظم واسعة النطاق لثروات وحقوق الشعوب خصوصا فى العالم الثالث، ترعاها دول رأسمالية كبرى، وتوفر لها الملاذ الأمن، والخزائن السرية فى أكثر من 50 ملاذا آمانا، لعل أشهرها جزر العذراء وجزر كايمن البريطانية، وجزر البهاماس والكنارى الأسبانية، ومونت كارلو الفرنسية، وولاية دولاوورد الأمريكية وغيرها. 

وإذا كانت تسريبات موقع ويكيليكس، وتسريبات جورج سنودن، قد حظيتا بإهتمام دوائر البحث والنشر على نطاق واسع جدا، فأن تسريبات موقع ( ICIJ ) تماما كما تسريبات الفنى النووى الإسرائيلى "موردخاى فانونو"  بشأن القدرات النووية والترسانة الذرية لإسرائيل، لم يحظيا بالإهتمام اللازم والضرورى برغم أهمية وخطورة ما يتضمناه من حقائق وأسرار تهم الإنسانية كلها. 

والسبب ببساطة أن القوى الكامنة المعادية للحقائق التى جاء بها موقع الصحفيين الاستقصائيين (ICIJ )  وكذلك القوى الصهيونية المناصرة لإسرائيل كانت حريصة أشد الحرص على التعمية والتغطية على تلك الحقائق الخطيرة والهائلة، وهكذا ترسمت خطوط شبكات المصالح الخفية بين لصوص الأوطان فى مصر وغيرها من دول العالم المنهوب وحلفائهم من الدوائر المؤثرة فى المسرح الدولى المناصر لإسرائيل والصهيونية. 

وبرغم حرص القائمين على الموقع الإلكترونى (ICIJ) على عدم نشر المراسلات الإلكترونية المتبادلة بين أطراف هذه العمليات الاحتيالية والتهرب الضريبى، وأسماء تلك الأطراف، وكذلك عدم نشر الحسابات المصرفية وغيرها من المعلومات الشخصية الحساسة، فإنه قد قدم خدمة جليلة لكل جهات البحث الأكاديمى أو القانونى والقضائي فى كافة الدول المعنية بتلك العمليات المخالفة للقوانين والمغموسة بالفساد لكبار الشخصيات الحاكمة أو من رجال المال والعمال والمقربين من دوائر صنع السياسات فى بلدانها، وذلك بنشر أسماء هذه الشخصيات، وكذلك أسماء الكيانات المرتبطة بتلك الممارسات مثل الشركات وصناديق الاستثمار والتمويل والحسابات الخاصة، وكان من بينها حوالى 722 اسما فى مصر. 

على أية حال فشركات الأوف شور OFF-SHORE   التى بلغ عددها بنهاية عام 2017، حوالى 500 ألف شركة على المستوى الدولى، والتى تتوزع حساباتها الخفية على أكثر من 50 ملاذا ضريبيا آمنا، بدءا من سنغافورة وهونج كونج والفلبين، مرورا بجزر العذراء وجزر الكايمن الخاضعة للتاج البريطانى، إنتهاء بجزر البهاماس ومونت كارلو وقبرص ودبى وعشرات الملاذات الضريبية والمخابىء السرية للأموال المنهوبة من الشعوب المقهورة، تبين أنها بقدر ما كانت مخابىء سرية لأموال الفاسدين والمحتالين والمتهربين من الضرائب فى بلدانهم، فقد كانت ايضا وسيلة سحرية هائلة للأمبراطويات المالية الكبرى فى الدول الإستعمارية للسيطرة على تلك الأموال وقت الضرورة بحجج متنوعة، بعضها قانونى، والكثير منها سياسى، فما أعظم المال للسيطرة والتحكم فى أصحابها وتحويلهم تحت الضغط والإبتزاز إلى مجرد جواسيس أو عملاء فى بلدانهم لصالح هذه المراكز الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وأسبانيا وغيرها 

وقد نال مصر حصتها من فضيحة أوراق بنما ، حيث نشر أسماء حوالى 722 أسما لشخصيات وكيانات وصناديق، علاوة على 48 أسما لكيانات أخرى، والمثير للدهشة أن نشر تلك الأسماء والكيانات الذى جاء بعد عام 2015 وقيام ثورات الربيع العربى، لم يجد ما يستحق من إهتمام الدوائر التنفيذية أو القضائية فى مصر لملاحقة هذه الوقائع وفتح تحقيقات قضائية جادة للتعرف على أبعاد هذا الموضوع، واقتصاص حق الدولة والمجتمع المصرى من أموال هؤلاء المتهربين والمحتالين، بل المدهش أكثر أن بعض من ساهموا فى تلك العمليات القذرة، وكانوا أعوانا لكبار الشخصيات المصرية التى مارست تلك العمليات المشبوهة، قد أصبحوا وزراء ومسئولين كبار فى حكومات ما بعد ثورة 25 يناير عام 2011 ، وخصوصا فى حكومات الجنرال عبد الفتاح السيسى. 

وهكذا قتل الموضوع الخطير فى مهده، وكأن الجميع – اللصوص والحكام – قد حرصا معا على تجنب الخوض فيه حتى لا تفتح ملفات قد تطال برذاذها القائمين على الحكم والإدارة، سواء قبل ثورة 25 يناير عام 2011، أو بعدها وحتى يومنا هذا فى مايو عام 2019. 

عموما لقد تضمنت أوراق بنما المنشورة أسماء حوالى 700 أسما مصريا من كبار رجالات المال والأعمال فى البلاد، وكذا 48 كيانا وشركة ومؤسسة أنشئت بنظام الأوف شور، علاوة على 20 وسيطا مصريا، و314 عنوانا تتحرك وتتواجد بها هذه المعاملات والحسابات المصرفية . 

وكان من أبرز تلك الأسماء بالقطع نجلى الرئيس المخلوع حسنى مبارك وزوجتيهما، وكثير من أسماء الوزراء فى الدائرة المقربة للرئيس الأسبق ونجليه وجاء فيها الأتى: 

1- علاء مبارك ( مع تفاصيل مناسبة لبياناته الشخصية وصورة جواز سفره .. الخ). 

2- جمال مبارك . 

3- هايدى محمود مجدى حسين راسخ (زوجة علاء وكريمة رجال الأعمال الهارب مجدى راسخ)

4- خديجة محمود الجمال ( زوجة جمال مبارك وكريمة رجل الأعمال الضخم محمود الجمال)

5- أحمد عبد العزيز عز (رجل الأعمال الضخم والمقرب من العائلة الرئاسية) 

6- عبلة محمد فوزى على أحمد (زوجة أحمد عز الأولى وأم أولاده ) 

7- خديجة أحمد أحمد كامل ياسين ( زوجة أحمد عز الثانية)

8-  شاهيناز عبد العزيز عبد الوهاب النجار (زوجته الثالثة التى تنازلت عن عضوية مجلس الشعب وجلست فى المنزل ) 

9- أحمد علاء الدين أمين عبد المقصود المغربى ( وزير الإسكان عند إندلاع ثورة يناير عام 2011) 

10- رشيد محمد رشيد ( وزير الصناعة والتجارة لحظة ثورة يناير 2011) 

11- هنية محمود عبد الرحمن فهمى ( زوجة الوزير محمد رشيد) 

12- محمد زهير محمد وحيد جرانه (وزير السياحة لحظة الثورة وأبن خالة الوزير أحمد المغربى ) 

13- جيلان شوكت حسن جلال الدين (زوجة الوزير زهير جرانة ) 

14- لواء حبيب إبراهيم حبيب العادلى (وزبر الداخلية لحظة الثورة ) 

15- إلهام سيد سالم شرشر ( صحفية وزوجة وزير الداخلية لحظة الثورة ) 

هذا بالإضافة إلى شخصيات عربية أخرى مثل الملك محمد السادس ملك المغرب ومدير أعماله (منير مجيدي) 

والآن .. ما هى الأسماء المصرية التى وردت فى أوراق بنما؟ وكيف تعاملنا معها تحليليا؟ 

أولا : المشكلات التى واجهتنا فى التعامل مع الأسماء 

لم يكن التعامل مع الأسماء المنشورة فى أوراق بنما سهلا أو ميسورا لعدة أسباب أهمها : 

1- وجدنا أسماء متكررة أكثر من مرة، فلم نكن على دراية بأسباب هذا التكرار، هل هو مجرد خطأ؟ أو أنه نتيجة وجود أكثر من كيان أو شركة أو حساب بنفس الإسم للشخص، وقد انتهينا إلى تجنب التكرار والإزداوج، وذلك من خلال الإكتفاء بذكر الأسم المكرر مرة واحدة، مع ترك تفاصيل معاملاته وشركاته إلى مكان أخر من التحليل . 

2- اكتشفنا أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه "الشراكة العائلية " فى عمليات التحايل وغسل الأموال والتهرب الضريبى، وقد انتهينا إلى أهمية حصر أسماء أفراد العائلات وأفرادها المسجلين فى أوراق بنما، حتى يتبين للرأى العام والقارىء المصرى، ولجهات التحقيق القضائية – فيما بعد فى حال توافر إرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد والاقتصاص من مرتكبيه – مناط هذا النشاط الإجرامى شبه الجماعى للإحتيال والتهرب الضريبى. 

3- تبين وجود أسماء تكتب أيضا فى صيغة ثنائية (مثل صلاح توفيق)، ثم تكتب فى موضع أخر بالاسم الثلاثى أو الرباعى أو حتى الخماسى، بما يؤكد وجود أكثر من اسم لنفس الشخص الواحد كوسيلة للتغطية على أنشطته المتعددة . 

4- كما تبين – وهذا مثير للدهشة والإستغراب – وجود أسماء لبعض الجهات والشركات والبنوك الحكومية مثل "بنك مصر" ، أو "شركة الصعيد للإنشاءات" وغيرهما كثير . 

5- ونظرا إلى ان كل الأسماء مكتوبة باللغة الإنجليزية فقد يكتب الأسم فى كل مرة بحروف مختلفة لنفس الشخص مثل Aly  أو Ali  وكذلك اسم محمد يكتب بعدة حروف مختلفة وغيرها كثير. 

6- اعتمدنا فى تصنيف العائلات على التقارب الشديد فى الأسماء، ومع ذلك فقد يحدث بعض الخطأ ، وبالتالى فنحن نعمل على التصحيح أولا بأول  

ثانيا : المنهجية التحليلية للتعامل مع الأسماء 

اتبعنا فى عملنا الأسلوب والمنهجية التالية:

1- سجلنا الأسماء كما وردت تماما فى القوائم المنشورة فى موقع الصحفيين الاستقصائيين ICIJ) ) حتى يسهل علينا مراجعتها واحدا بعد الأخر، نظرا لأن هذا الترتيب لم يصاحبه ترقيم لهذه الأسماء. 

2 - ثم قمنا بمقارنة الأسماء المتكررة، والتى قد يكون مجرد تكرار غير ذى دلالة ، وقد يكون التكرار مصحوبا بإستخدام ألفاظ من قبيل Mr.  أو Mrs.  أو Miss ، بما قد يعنى أنه اسم لشخص يمتلك أكثر من حساب أو اكثر من مشروع وكيان أو أكثر من غطاء. 

3- ثم فى مرحلة ثالثة قمنا بجمع الأسماء التى يجمعها أسم عائلى واحد ( دياب – أبو الفضل – الدبيكى – هيكل – ساويرس – أندرواس – المنصورى – فلفلة – القلا – نصير – اسكندر – شلبى – غبور – أبو الذهب – عثمان أحمد عثمان – سليمان ... الخ )، من أجل حصر هذه العائلات التى مارست هذا التهرب والأحتيال الضريبى، ومقارنتها فى مرحلة لاحقة من التحليل بنشاطها فى الاقتصاد المصرى. 

4 - وقد أدرجنا الأسماء المميزة والمعروفة لكبار رجال المال والأعمال والسياسيين المصريين فى قائمة مستقلة حتى يتعرف القارىء أكثر على طبيعة هذه الطبقة السياسية والمالية التى هيمنت على مقدرات البلاد لأكثر من خمسين عاما، فأوصلتها إلى ما وصلت إليه. 

5- وأخيرا فقد يصاحب عملنا بعض الأخطاء فى ترجمة بعض الأسماء المكتوبة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية مثل أسماء سيد أو سعيد أو حسن أو علاء ، أو آلاء، التى قد يكون نطقها مختلفا، وهى وإن كانت قليلة وقابلة للتصحيح فقد أستدعت الأمانة العلمية ذكر هذا فى مقدمة تحليلنا لهذه القوائم . 

ثالثا : كيف تعمل شركات الأوف شور OFF-SHORE  

يتقن العقل الإستعمارى الغربى كل فترة تاريخية، ابتكار الصيغ والأشكال والمسميات الجديدة للعمل الاقتصادى والمالى، تجنبا للإحراج من ناحية، وطمسا للذاكرة الوطنية لدى كثير من الشعوب التى عانت من ممارسات المحتل الغربى خصوصا فى عالمنا العربى، ومن هنا ابتكر تعبيرات جديدة مثل الخصخصة Privatization  ،  أى بيع الأصول المملوكة للدولة إلى ما يسمى المستثمرين المحليين أو الأجانب، ونظام B.O.T ، بكل مشتقاتها اللغوية والقانونية،  التى يقصد منها إعادة إحياء نظام الإمتيازات الأجنبية القديمة بصيغ جديدة، كما جاء إلينا بعد هزيمة مشروعات التنمية الوطنية فى مطلع السبعينات، بتعبيرات من قبيل  "تحرير الاقتصاد" و "ترشيد الدعم" و "برامج التثبيت الاقتصادى "Stabilization ، و "برامج إعادة الهيكلة " Structural Readjustment  ، كما أبتكر ومنذ منتصف السبعينات أيضا آلية جديدة للعمل الاقتصادى المحلى والدولى عرفت بأسم شركات الأوف شورOFF-SHORE  ، والتى قصد منها إنشاء كيانات سواء كانت شركات أو صناديق استثمار، تسجل فى بعض الدول والجزر والولايات والدول، دون تسجيل بيانات كاملة عن المؤسسين والمالكين، فقد يكفى وجود وكيل قانونى (مثل مكتب Mossack Fonseca فى جمهورية بنما بأمريكا الوسطى  وغيره كثير ومنتشر فى بعض الدول والأقاليم ، أو تتولاه أقسام الاستثمار فى بعض البنوك الكبرى أو المتوسطة، وأحيانا البنوك الصغرى مقابل الحصول على عمولة أو رسم تسجيل، وأجبرت بقية دول العالم المنهوبة (مثل حالة مصر)، إلى تغيير تشريعاتها وقوانينها ونظم الاستثمار فيها، بما يسمح بعمل ونشاط تلك الشركات الشاذة، تحت وهم وخديعة وشعار "تشجيع الاستثمار" و"جذب الاستثمار الأجنبى" و "تحطيم الروتين والبيروقراطية الحكومية" وغيرها من الشعارات الزائفة . 

وقد تلاقت هذه الحركة على المسرح العالمى منذ منتصف السبعينات، مع تغيرات داخلية عميقة فى الدول المستهدفة (ومنها مصر طبعا)، عبر خلق طبقة رأسمالية جديدة من النوع الطفيلى والكمبرادورى، تنسجم مصالحها تماما مع الأطراف الدولية الكبرى، والمؤسسات التمويلية الدولية (مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى)، ومع تلك الأفكار والآليات الجديدة، وأبرزها شركات الأوف شور، التى كانت فى كل هذه الحالات مجرد مكتب فخيم فى بناية فاخرة فى أحدى الجزر أو الأقاليم المتمتعة بوضع خاص داخل هذه الدول. 

وتتميز شركات الأوف شور بالنسبة لأصحابها بالمميزات التالية  : 

1- أنها توفر درجة عالية من السرية فى ممارسة نشاط أصحابها، فلا يحتاج الأمر تسجيل أسماء أصحابها فى الكثير من الأحيان. 

2- كما أن رأس مال تلك الشركات، أو الكيانات التى لا تعدو أن تكون مكتبا أو شقة فى بناية فاخرة، قليل جدا قد لا يتعدى عدة مئات من الدولارات أو الجنيهات الإسترلينية. 

3- دائما تؤسس تلك الشركات أو الكيانات فى جزر أو أقاليم أو دول توفر لها ملاذات ضريبية آمنة، حيث لا توجد أستقطاعات ضريبية، أو لو وجدت فهى متدنية للغاية لا تشكل أبدا عبئا على أنشطة هذه الشركات أو الكيانات التى قد تكون حركتها المالية تتعدى مئات ملايين الدولارات.

4- بتأسيس هذه الشركات الشاذة فى هذه الدول الأجنبية، تتحرك إلى المرحلة الثانية وهى الانتقال للعمل فى الدول المنهوبة (وفى طليعتها مصر طبعا)، حيث يجرى معاملتها كشركة أو كيان أجنبى يتمتع بكل مزايا وإعفاءات وحصانات الاستثمار الأجنبى ضريبيا وجمركيا وفى حقوق العاملين التأمينية، والأهم فى حرية دخول وخروج أموالها وأرباحها.

5- ولم يكن غريبا أبدا أن يدير هذه المنصات الاستثمارية الأجنبية أفراد تدربوا فى البنوك الأمريكية والبريطانية التى أبتكرت هذه الصيغ من أمثال جمال مبارك – علاء مبارك – ياسر الملوانى – فاروق العقدة – وعشرات غيرهم، (راجع كتابنا : كيف نهبت مصر 1974-2018)

6- غالبا لا تخضع أنشطة هذه الشركات الأجنبية للرقابة الجادة والحقيقية من الجهات المختصة فى البلدان المنهوبة، سواء بسبب قدرة أصحابها على الولوج إلى دوائر اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، أو بسبب صلات قرابة بأصحاب السلطة التنفيذية والتشريعية (كحالة الدائرة المقربة لكبار المسئولين فى مصر)، أو بسبب قدرتها على إغراء وإغواء المسئولين فى تلك الجهات الرقابية المختصة (البورصة – سوق الأوراق المالية – هيئة الرقابة المالية – البنك المركزى)، سواء بتعيينهم بمكافآت ضخمة، أو تعيين أبنائهم وأقربائهم أو غيرها من الأساليب. 

فما الذى توفره شركات الأوف شور لأصحابها ؟

1- تقوم شركة الأوف شور عبر مكاتبها، أو وكيلها المحلى فى مصر – كما فى غيرها من دول العالم المنهوبة – بتحويل أرباحها ومكاسبها بصورة دورية دون قيود أو رقابة إلى مركزها الأم سواء فى قبرص وجزر كايمن وجزر العذراء كما كان يفعل علاء وجمال مبارك، وعشرات من كبار رجال المال والأعمال المصريين والعرب والأجانب مستفيدين من كونهم مستثمرين أجانب وكيانات أجنبية . 

2- تستطيع شركة الأوف شور القيام بعمليات غسل أموال (أى أخفاء الطبيعة غير القانونية للأموال)، من خلال تحويل أو تمويل أنشطتها داخل مصر أو فى الخارج، ونقلها من حسابات شركة أو كيان سواء فى الداخل أو الخارج وبالعكس. 

3- تستطيع الشركة أو الصندوق أو الكيان بنظام الأوف شور، الدخول والخروج من السوق المصرى أو الأسواق المشابه بسهولة عبر سوق الأوراق المالية و البورصة، وشراء وبيع الأسهم  والسندات واذون الخزانة دون أن يتعرف أحدا أو يرصد أحد الأرباح التى حققتها تلك الكيانات.

4- تستطيع الشركة أو الكيان بنظام الأوف شور، من خلال تعدد حساباته المصرفية فى الداخل او الخارج نقل أمواله بسرعة من حساب إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، دون أن تتحقق السلطات النقدية والمصرفية المحلية من طبيعة هذه العمليات النقدية. 

5- تستطيع هذه الكيانات الشاذة فى أعراف وقواعد العمل الاقتصادى المحترم  والوطنى، أن تحقق أرباحا إضافية من خلال عمليات  التصدير أو الاستيراد لبعض المستلزمات أو الخدمات بأسعار معينة، وتعيد بيعها فى الخارج  أو الداخل بأسعار أعلى، مما يحقق لها أرباحا غير خاضعة للضرائب، ومستفيدة من الدعم والخدمات التى تقدمها الحكومات المحلية (دعم أسعار الكهرباء ودعم أسعار الغاز ومشتقات البترول) بزعم تشجيع المستثمرين الأجانب أو المحليين. 

6 - تستطيع تلك الكيانات الأوف شور، أن تقوم بعمليات الإقتراض من البنوك والمصارف المحلية فى الداخل مستفيدة من كونها إستثمارا أجنبيا، بزعم تمويل مشروعات إستثمارية ثم تقوم بتحويل تلك الأموال إلى فروعها الأم فى الخارج، وهكذا جرت عمليات تهريب الأموال من كبار رجال المال والأعمال المصريين والعرب والأجانب فى منتصف الثمانينات وفى منتصف التسعينات، وفى مطلع الألفية الجديدة فيما أطلق عليه طباخ السم كله رئيس الوزراء المصرى "د. عاطف عبيد" بأزمة المتعثرين.

7- تقوم هذه الكيانات ( شركات – صناديق استثمار وغيرها ) بالمضاربة على العملات الأجنبية والعملات المحلية، مستفيدة من حالة الفوضى والتسهيلات التى تحصل عليها – باعتبارها مستثمرا أجنبيا– بهدف تحقيق الأرباح وتحويل تلك الأرباح إلى مقراتها فى الخارج. 

والآن، بعد هذا العرض السريع والموجز لطبيعة ومخاطر هذه الكيانات الشاذة على فرص التنمية الاقتصادية، علينا الأن عرض أهم الأسماء التى وردت فى قوائم أوراق بنما، علما بأن هذه الأسماء هى التى تسربت فقط من مؤسسة محاماة واحدة فى بنما وهى مؤسسة  Mossack Fonseca ، حيث يوجد عشرات مكاتب المحاماة والاستشارات القانونية  الأخرى ، وأقسام الاستثمار فى كثير من البنوك الكبرى فى الخارج، تقوم بتلك العمليات غير المشروعة.

أما قول بعض من تورط فى هذه الممارسات بأن من حقه أن يسجل شركاته فى أى بلد يشاء، كما صرح فى بداية تفجر فضيحة "أوراق بنما" رجل الأعمال البارز "نجيب ساويرس"، فهو كلمة حق أريد بها باطل، فهذا الحق مضمون فى حال توافر ثلاثة شروط : 

الشرط الأول: أن لا يكون ذلك مربوطا بنشاط بعض أو كل شركاته فى داخل مصر.

الشرط الثانى: أن لا يكون ذلك مدخلا لعمليات تهرب ضريبى، أو تملص ضريبى.

الشرط الثالث: أن لا يكون ذلك قد تم  بهدف تحويل جزء من الفوائض الاقتصادية والأرباح المالية لشركاته فى الداخل إلى تلك الكيانات اللقيطة فى الخارج. حتى لو كانت القوانين السارية تسمح بذلك، فالعبرة هنا بالدور والوظيفة الوطنية لرأس المال الوطنى فى تعميق التنمية الاقتصادية فى الداخل، وليس حرمان البلاد من فوائضها وتحويله إلى خزائن الخارج. 
(غدا الحلقة الثانية)
-------------------------------
بقلم: د. عبد الخالق فاروق






اعلان