24 - 04 - 2024

آخر زيارة للسفير إبراهيم يسري

آخر زيارة للسفير إبراهيم يسري

ذهبت الى منزل السفير إبراهيم يسري قبل أن يغادرنا إلى رحاب الله بنحو ثلاثة أسابيع، كان هذا  بعد افطار رمضان يوم 18 مايو 2019 مع الصديق والزميل العزيز الكاتب والصحفي بالأهرام محمود القيعي. واتضح لي لاحقا ـ وعند رحيله في 10 يونيو الجاري ـ أنها الزيارة الأخيرة، وإن تعددت اتصالاتي الهاتفية به بعد هذه الزيارة للاطمئنان ولترتيب موعد زيارة أخرى تأجلت، تحينا لتحسن صحته ولانشغالات زيارات العيد العائلية، ثم لم يمهلنا قضاء الله وأصبحت مستحيلة.

وما يلفت نظري الآن، مع استعادة علاقة العبد لله بهذه القامة الوطنية والخبرة القانونية والسياسية العلامة في تاريخ مصر المعاصر، أنني كنت اتردد خلال التسعينيات على صديق من جيلي في الطابق الأخير من العمارة ذاتها التي يسكنها في حي المعادي الجديدة. ولم التفت كصحفي كثيرا إلى التعريف به فوق باب شقته بالطابق الأول، كل ما كنت أعلمه من جاره صديقي الأستاذ مجدي قاسم أن الرجل سفير سابق يعيش أولاده في الولايات المتحدة ويقضى سنوات التقاعد وحيدا. وتعززت ذكرياتي أو انطباعاتي الشخصية هذه عن الرجل، استنتاجا بأن هذه القامة الوطنية التي فقدناها قبل أيام، ظل إشعاعها محجوبا عن عموم المصريين إلي أن فاض بريقها وانساب عبر الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي حين كسب قضية وقف تصدير غازنا وبثمن بخس إلى تل أبيب بعد منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة. وحينها بالضبط جاءت أولي طرقاتي على باب سعادة السفير إبراهيم يسري لإجراء حوار صحفي لجريدة "الوقت" البحرينية التي كانت تصدر وأراسلها من القاهرة حينها. 

اليوم وبعد رحيله، أعود إلى ذكري هذا الحوار الصحفي، أو لنقل الزيارة الأولى، كي ألتفت مع القاريء إلى أمرين عن المحترمين من رجال الإدارة ببلادنا وعن الرجل نفسه . الأول هو أن بين رجال الإدارة المصرية من يظلون خلال سنوات الخدمة خارج الأضواء وبعيدا عن مناصب الصف الأمامي من رؤساء ووزراء على الرغم من سعة خبراتهم و طيب معدنهم وسمو قامتهم وعظيم إسهاماتهم، وهؤلاء بحق هم من ينتمون إلى شعبهم، ويشعرون بمعاناته ويقدرون بحق قيمة الوطن ومقدراته.

ولذا لا أندهش اليوم أن السفير إبراهيم يسري ـ الذي رحل عنا وهو يقارب التسعين عاما ـ ظل مشدودا الى تراب محافظته الشرقية، ولم تفلح محاولاتي وعديد الأصدقاء في إقناعه - مع تقدم العمر واعتلال الصحة - بأن يسافر ليستريح ويحصل على علاج أنجع عند أبنائه واحفاده في الولايات المتحدة. 

ولطالما كان هذا التمنع يصيغه بأنه يريد أن يضمن الدفن في بلده، و يزيد بروحه المرحة الإشارة إلى فخامة الجبانات الأمريكية وحدائقها وزهورها وتماثيلها وما لها  من أماكن متميزة "وهواء يشرح القلب". 

ويلفت نظري الآن كثافة استدعائه في الزيارات الأخيرة لذكريات طفولته وشبابه الباكر، بين قريته وتعليمه إلى اتمام الثانوي في الزقازيق، وبما في ذلك ولعه الأصيل بالشأن العام كما يتجسد فيما رواه عن مبادرته وهو في المرحلة الثانوية بإصدار صحيفة رأي وتوزيعها بنفسه، ناهيك عن مشاركته في المظاهرات الوطنية المطالبة بجلاء الاحتلال البريطاني،  وأشدد هنا على كون رجال الإدارة المحترمين بعيدا عن الأضواء هؤلاء المعجونين بتراب وحب مصر وناسها حقيقة قائمة. وهكذا كأنهم من النوادر في مجتمع يعاني من اختلال التوازن مع السلطة وفي ظل المعاناة المتزايدة للمواطن وإهدار الحقوق. 

والأمر الثاني  أن إبراهيم يسري مزيج فريد أو لنقل سبيكة نادرة تجمع بين مثالية المبادئ وبين الخبرات العملية والمعرفة العلمية، وهنا تحديدا القانون والقانون الدولي والمعاهدات. وقد ترجمت هذه السبيكة النادرة سحرها وفاعليتها في تلك المعارك التي خاضها بعد أن غادر وزارة الخارجية ـ وكنا بالقلب والعقل معه ـ دفاعا عن تراب مصر في تيران وصنافير، و ثرواتهامن غاز في البر والبحر ومياه النيل، عبر دعاوى قضائية أمام محاكم مجلس الدولة والمحكمة الدستورية، ناهيك عن كتاباته الوطنية المهمة لتنوير الرأي العام بهذه القضايا وغيرها. كما  أتيح لي مع زيارات تعددت لاحقا أن استمع منه، وفي مناسبات متفرقة، عن توظيف هذه السبيكة النادرة خلال سنوات العمل بالخارجية في خدمة مصر الوطن والشعب والدولة سواء في معركة التحكيم الدولي بشأن مصرية طابا، وأثناء عمله سفيرا بالجزائر بين نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات. وبخصوص المهمة الرسمية الأخيرة فقد روى لي ذات مرة ضاحكا كيف اقترح وبادر ورعي مباراة ودية لكرة القدم بين الفريقين القوميين الجزائري والمصري في الجزائر لإزالة آثار التعصب غير الرياضي  بين الشعبين الشقيقين .

وفي معاركه تلك قبل التقاعد دبلوماسيا وسفيرا هنا وهناك و مساعدا لوزير الخارجية للقانون الدولي والمعاهدات يمكنك ببساطة أن تكتشف مع الرجل الذي كان يصف نفسه بأنه " الولد الشقي بالسلك الدبلوماسي" حقيقة أن صاحب المبادرات الخلاقة بخلفيه حماسته الوطنية والخارج  على "الروتين والتعليمات" يمتلك القدرة على تحقيق نتائج ايجابية. وهذا بفضل تحرك هذه الحماسة والاندفاعة المغامرة فوق أقدام راسخة من المعرفة العلمية القانونية والخبرات العملية وفنون التفاوض. ولذا فلا عجب أن يجد في النهاية هكذا "خروج على النصوصالرسمية والتراتبية الوظيفية" تقدير وحماية الرؤساء والقادة فيما يتجاوز رؤسائه المباشرين.

وقبل أن انتقل الى آخر زيارة لهذه القامة الوطنية، أتوقف تحديدا عند حوارين أجريتهما معه. وقد حفظت ارشيفات الصحف والكتب جانبا من كلماته. الأول عن "حسين سالم" رجل الأعمال صاحب أولى شركات تصدير غازنا المصري إلى تل أبيب. وقد تصادف ـ ويا للمفارقة على اختلاف موقعي الرجلين لاحقا ـ أن كان إبراهيم يسري سكرتيرا ثانيا ومديرا لمكتب الراحل أمين هويدي سفير مصر في بغداد بين 63 و 1966 ، أما سالم فقد كان في الوقت نفسه مديرا لفرع الشركة العربية للتجارة الخارجية بالعاصمة العراقية ومقربا من هويدي أيضا. وحقيقة لم يبخل السفير إبراهيم يسري بشهادته عن حسين سالم، فيما عز أن يتحدث كثيرون. وهي موثقة في الحلقة الثانية من التحقيق الاستقصائي " قصة رجل من زمن رأسمالية المحاسيب " بالأهرام عدد 22 يونيو 2011 وفي كتاب" الصندوق الأسود: قصة حسين سالم "الصادر عام 2012. ولكني على هامش هذه الشهادة أود أن استدعي اليوم ما كان يشدد عليه السفير يسري بأن هويدي مع كل ما للشابين حينها من تقدير واقتراب منه، نجح عند توليه ادارة جهاز المخابرات العامة بعد يونيو 1967 في ضم "سالم" إلى الجهاز لكنه فشل مع "يسري". ولقد ظل السفير يسري يرحمه الله حتى الزيارة الأخيرة يؤكد أنه فضل المحافظة على استقلاليته والاكتفاء بالعمل في وزارة الخارجية وحدها ورفض أن يلتحق بجهاز المخابرات، وعلى الرغم مما كان يوفره هذا الالتحاق كمصعد وظيفي وقيادي واجتماعي. 

أما مناسبة الحوار الثاني الذي أجريته مع السفير ابراهيم يسري بين 16 سبتمبر و3 أكتوبر 2013 فجاء بوصفه رئيس جبهة الضمير وفي سياق كتابي "خريف الإخوان": كيف فشل حكم الجماعة في مصر؟". وعندما أعود الى صفحات الكتاب اليوم أجدني ربما ظلمت الرجل في تحليل مفاده الخلط بين الوساطة بين الرئيس المعزول مرسي ومعارضيه من جانب وبين التعاطف، ولا أقول الانحياز لمرسي والإخوان من جانب آخر. وأعتقد أن مثالية الرجل وحرصه على الوطن والديمقراطية كانا كافيين لتفسير أكثر انصافا من جانب مؤلف الكتاب. ولعل من المفيد أن استدعي من بين كلمات السفير يسري في الفصل المعنون بـ:" تجربة جبهة الضمير" قوله :" نحن مجتمع يعاني من سرطان سياسي يتمثل في غلبة المصالح الشخصية والكراهية والحقد وانعدام المروءة وضياع الروح المصرية السمحة".

وعندما أبحث اليوم بين كلماته في الزيارة الأخيرة عما يمكن أن استبقيه وفي هذا المقال أتذكر تشديده، على ما كان يراه كأخطر آفات السياسة والسياسيين في بلادنا، وهو الرجل القامة الذي استهلك جانبا من سنوات ما قبل 2013 في النقاش مع طيف واسع من نخبة البلد . وهما آفتا ممارسة السياسة بالعواطف من كراهية ومحبة.. والافتقاد إلى خيار التفاوض وامتلاك آلياته وأدواته. 

رحم الله السفير إبراهيم يسري الذي ظل إلى زيارته الأخيرة متألما لانقسام المصريين وعجزهم عن إدارة اختلافاتهم بالوسائل السلمية وبدون إقصاء، ما دفع بالبلد إلى "تصحير" الحياة السياسية وإجهاض فرص إقامة مجتمع ديمقراطي عصري. ولعل ناشرا محترما يقدم على اخراج العديد من مسودات كتبه المحاصرة للنور، وبينها كتاب عن رحلته وخبراته كدبلوماسي مصري. وأظن أن هذا الكتاب على نحو خاص يضيف الى أهمية المضمون متعة القراءة لكاتب محترم أصدرت له دار الهلال قبل معاناته الحصار رواية أدبية ضمن سلسلة رواياتها.
--------------
بقلم: كارم يحيى
من المشهد الأسبوعي - اليوم مع الباعة

 

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان