24 - 07 - 2024

.. والآن أتألم

.. والآن أتألم

ربما سيندهش كثير من المقربين إلىْ لدى قراءتهم لمقالى هذا، فلا أحد يعلم بمعظم ما جاء فيه.
...................

ثمة أشياء نراها أو نلمسها.. نتذوقها أو نشم رائحتها، تعيدنا سنوات إلى الوراء، لنعلم أننا ربما لم نَشِب بفعل مرور السنوات ولكن بسبب مرارتها.

لقد كانت اللقطة التى رأيت فيها سيدة الشاشة العربية وهى تقف أمام زوجها فى فيلم (الليلة الأخيرة) وقد مسها شئ من الجنون لتثبت بإستبسال أنها "نادية" وليست أختها "فوزية" - كانت تلك اللقطة - كفيلة أن تعيدنى دهرا إلى الوراء.

مازلت أتذكر تلك الليلة التى عُدت فيها إلى البيت بعد أن أفتى طبيب العيون - ربما الخامس أو السادس .. لا أتذكر- أننى أتمتع بنظر سليم تماما.

كنت فى تلك الفترة، أشعر أن وظائف جسدى تتوقف يوما بعد يوم، حتى لم يعد شئ فى جسدى يتصرف لا إراديا، لابد أن أتناول دواء كى أستطيع الوقوف وآخر كى أستطيع المشى وغيره للتركيز والصداع والقولون وحتى التنفس... إلخ.

كل ذلك لم يزعجنى، كان همى الأكبر أن أعالج نظرى، فأنا أستطيع أن أستمتع بمرضى - هكذا توهمت - سأستلقى على الفراش أياما، أقرأ كل الروايات التى تروق لى.. سأشاهد التلفاز وأستمع إلى المذياع.

نعم.. تروق لى الوحدة ولا أَمَلُّ منها ونادرا ما أشعر بفراغ، ولكن كيف وأنا لا أستطيع الرؤية!

 كل شئ يتمايل أمام عينى، مقابض أبواب بيتى، الذى لم أعد أبرحه، تتحرك أمامى يمينا ويسارا وكأنها مَلٌّت من ثباتى إلى جوارها.

فى تلك الليلة نظر إلىْ زوجى بشفقة و ربٌت على كتفي، قائلًا  أنه يجب علىْ ان أعيش وأنسى كل هذه التهيؤات.

 عندما خرج من الحجرة سمعت صوت أمى تقول له بأسى: طول عمرها مش بتاكل كويس ومش بتاخد بالها من نفسها.

كنت أجلس على السرير أمام دولاب حجرة نومى، نظرت أمامى فوجدت صورتى فى المرآة، وقد راحت تتحرك هى الأخرى، أمسكت بالوسادة وقذفت بها فى المرآة ورحت فى نوبة بكاء مرت علىْ كأنها دهر، كنت لا أريد أن أرى شيئا، لقد كرهت كل شئ وأولهم نفسى.

لم أكن فى النوم أحسن حالًا من اليقظة، فقد كان ضيفا شحيحا، لا يزورنى بالأيام و كان عادة ينتهى بأمر مرعب، كنت أستيقظ على صوت مخيف يشبه أزيز محرك الطائرة عند الإقلاع، ثم أشعر أننى أتأرجح فى فضاء الحجرة، أطير وأهبط وأنا مفتوحة العينين تمامًا، أتشبث بالوسادة وأحاول أن أقرأ شيئا من القرآن فلا يسعفنى لسانى، حتى إذا عاد كل شئ لطبيعته تكومت مكانى بلا حراك، وأنا أكاد أتجمد رعبا.

ورغم ذلك أقسمت أن أثبت للجميع أننى لا أهذى مهما كلفنى الأمر.

بدأت أبحث بنفسى، كلما سمعت عن طبيب ذهبت إليه دون أن أخبر أحدا، ألبس ليلا نظارة الشمس السوداء حتى لا أتعرض للضوء فقد كان يزيد حالتى سوءا.

 مع كل زيارة كان الخوف والانفعال يزيدان من ضعف ساقيّ، بينما ترتجف قدماى معلنة العصيان، فأسوق نفسى غصبا، فقد كان المشى عذابا هو الآخر.

كنت أرى فى نظرات بعض الأطباء أننى سيدة مترفة أشعر بالفراغ، وكنت أحيانا أخرى أخشى أن يذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك. 

يوما بعد يوم وقبل أن يتملكنى اليأس، وجدت طبيبا متخصصا فى العيون فى التلفاز يتكلم عن حالتى وكأنه يصفنى تماما، أسرعت لأسجل رقم هاتفه الذى ظهر على الشاشة وذهبت إليه يحدونى الأمل أن أجد لديه علاجا.

أستطيع أن أزعم أننى قابلت يومها أسمج طبيب رأيته فى حياتى، أدركت للوهلة الأولى أننى أمام رجل مصاب بجنون العظمة والجليطة والاستغلال ولكنى تحملته، وكنت على إستعداد أن اتحمل أضعاف ذلك،  فقط لأنه صدقنى، نعم أكد لى أن لدى خللا فى الرؤية بالفعل، إستطاع أن يحدده بمهارة. ثم عاد إلى كرسيه مزهوا منتفخا، و طلب منى إجراء أشعة بالرنين المغناطيسى على المخ و رسم عضلات..الخ .

كان أهلى معى هذه المرة، خرجت من جهاز الرنين فبشرنى الطبيب أننى لا أعانى ورما بالمخ كما توقع ذلك الطبيب فى تقريره المرفق، لا شيء أيضا فى رسم المخ ورسم العضلات. أى أننى عدت إلى المربع صفر وزاد يقين كل من حولى أننى أتدلل لا أكثر.

عدت إليه - وحدى - باكية، فنهرنى بشدة واتهمنى (إنى باطلع القرف اللى شفته من الدكاترة الجهلة اللى قبله عليه وإنى حالة غير عادية) بدا مُحْبَطا للغاية لأنى لست مصابة بورم فى المخ طبقا لتشخيصه.

اعتذرت وانسحبت يائسة، وقبل أن أفتح باب الحجرة قال لى بغلظة: إستنى روحى للدكتور ده، هو مخ وأعصاب يمكن يعرف إيه اللى عندك، قال ذلك وناولنى ورقة سجل فيها اسم الطبيب وتفاصيل عمله. أخذت الورقة منه ومزقتها قبل أن أهبط درج عيادته.

كان الله لطيفا بى يومها فنجوت بأعجوبة من الإصابة بجلطة، إذ كان ضغطى قد وصل إلى مرحلة حرجة.

كتمت ألمى فى صدرى وحاولت أن أتعايش قدر إستطاعتى، إلا أننى لم أنج من تأنيب المحيطين بى لضعف إيمانى تارة وتارة لعصبيتى الشديدة أو لأنى نسيت أن اسأل عن أحدهم فى مرض أو معايدة.. إلخ.

اعتدت أن أعتذر دون أن أسمع الشكوى.. أنا آسفة .. معلهش والله ما افتكرتش.. مقصرة.. سامحونى.

 فى تلك الفترة أصبت بنزيف حاد، استدعى خضوعى لإجراء عملية جراحية، يومها رآنى طبيب التخدير خائفة مرتعدة فقال لى مطمئنا: ماتخافيش، مش حتحسى بحاجة.

أقسمت له وأنا أبكى (إنى حاحس بكل حاجة )، أنا يا سيدى أتألم دون أن يكون هناك سبب للألم، أنا أتألم حتى وأنا نائمة.

غبت عن الوعى بالفعل، وعندما بدأوا فى إفاقتى، سحبت رجلى تلقائيا فوجدتها لأول مرة منذ سنوات تتحرك بيسر تام، فحركت يدى ورقبتى، كان شعورا رائعا حقا، كان ذلك من تأثير البنج بالطبع.

عندما عدت إلى البيت، مارست حياتى بشكل طبيعى، أحضر لزوجى طعام الإفطار تلقائيا، كما أفعل كل صباح، لم أجد فى ذلك مشقة.

فجأة وجدت أقاربى وأصحابى وجيرانى يسألون عنى، بكيت كثيرا.. أالآن!! لأننى خضعت لجراحة! إنها لا شئ يا سادة ، ماحدث لى اليوم هو أيسر ما مر بى منذ أعوام.

وقتها كفرت بأى شئ يمكن أن يخفف مابى، و أيقنت أن ملاذى الوحيد هو اللجوء لله تعالى، كنت أصلى وأدعوه بإخلاص، إلا أننى قررت شيئا آخر، قررت أن أصاحب الله عز وجل وأن أستغنى به عمن سواه وأن أشكو إليه بثى وحزنى.. وحتما سيصدقنى.

 بدأت أُغَلِق على نفسى الأبواب وأناجيه، شكوت له ممن يتهموننى أن حزنى ما هو إلا نقص إيمان..شكوت من تلك التى أرغمتنى يوما أن أفتح كفى أمام الناس لترى عدد أقراص الدواء التى فى يدي، وقد راحت تسخر أمام الحاضرين من كَمْ الادوية التى أتناولها بلا سبب، شكوت له من ذلك الذى سمعته يتحدث من ورائى عن تقصيرى فى حقه وقوله بإستخفاف، إيه الجديد؟ ماهى على طول تعبانة، .. شكوت له عجزى وقلة حيلتى وهوانى على الناس وكنت أبكى بين يديه بالساعات حتى هدأت تماما.

ربما كانت تلك الأيام، أجمل ما مر على فى تلك الفترة، ولا أبالغ إن قلت أنها كانت الأجمل فى حياتى على الإطلاق.

فجأة، تذكرت نصيحة طبيب العيون بمراجعة طبيب المخ والأعصاب، فأخذت أتنقل من طبيب إلى آخر حتى إنتهيت عند د.محمود علام وهو علامة فى مجاله بلا شك.

كان رجلا جميلا مجاملا، عاملنى كابنته خفف عنى كثيرا مما إحتملته، أخبرنى بثقة أن ما أعانى منه ماهو إلا نتيجة صداع نصفى مزمن ولابد أن أداوم على دواء للوقاية من أزماته، كان كلما عُدته وأنا مازلت أحمل الشكوى بَدٌل العلاج حتى وصف لى يوما دواء يؤخذ لعلاج الصرع!

كان كثيرا ما يقول لى مازحا: عقلك دا مش بيهمد ، إتْهَدِى ربنا يهد المفترى.. كنت أضحك كثيرا رغم أنى لم أتحسن إلا بعد أن عُدْته مرات ومرات.

عندما شعرت نوعا ما بالراحة، وجدت أن لجسدى علىْ حق، فذهبت لعلاج القولون الذى شُخِص بسهولة وكذلك الجيوب الأنفية وطنين الأذن الذى كان لا يفارقني.. إلخ، وفى تلك الرحلة مررت على طبيب الروماتيزم د.باسل الزرقانى، كنت قد اشتريت حزاما للظهر، حيث كانت آلامه لا تُحْتمل .

كان رجلا خلوقا ومستمعا جيدا، إطٌلع على الأشعة والتحاليل التى أجريتها قبل زيارته، وفحصنى بدقة، ثم سألنى عن نومى، فحكيت له عن طبيعة نومى .

أطرق قليلا قبل أن يقول: إنتى عارفة اللى ما بينمش ليلة واحدة بيعانى قد إيه؟.. إنتى يا مدام مش بتنامى نهائى، حتى اللى بتسميه نوم دا مش نوم، لازم تدخلى مرحلة معينة من النوم.. لازم تحلمى، طبيعى إنك تعانى المعاناة دى، شَخَص مرضى بإسم غريب كانت المرة الأولى التى أسمع به، أخبرنى أنه لا يحبذ المهدئات فكتب لى مضادا للإكتئاب وقال لى أن من آثاره الجانبية أنه يجلب النوم.

للأسف سبب لى هذا الدواء إكتئابا حادا، لدرجة أننى كنت مسافرة ذات يوم فتمنيت من قلبى أن تقع بى الطائرة، وعندما عدت رميت الدواء فى سلة القمامة ولم أعد للطبيب ثانية وتناسيت ما قاله تماما، واكتفيت بإستشارة أصدقائنا ومعارفنا الأطباء كلما مر بى جديد، وقد كانوا خير معين لى، حتى طلبت من إحدى صديقاتى أن تكتب لى شيئا لأنام، قلت لها أننى لن أعتاد عليه لأننى بالفعل لا أنام وأن أقصى شئ سيفعله هذا الدواء أن يبقينى كما أنا.. لا أنام. 

لم تتغير حياتى كثيرا، فقط أصبحت أنام نوما هادئا وطالنى اللوم والتقريع من البعض أيضا لأنى (باحب النوم وباصحى الضهر)  .

مع الوقت اعتدت الألم ولم أعد أميز أنه ألم، كنت إذا أمسك طفل بيدى بشدة أتأوه، وأندهش لاندهاش الآخرين، أليس طبيعيا ان يُعَد ذلك شيئا مؤلما!!! 

كنت أشعر أننى أشبه القنفذ، مع فرق أن أشواكه خارج جلده ليدافع بها عن نفسه، بينما أعصابى أنا خارج جلدى، أو بالأحرى لا جِلد لى رغم أنى لم أسلم من مشاكل الجِلد وحساسيته أيضا.

ومع الوقت وكثرة الإتهامات وعقد المقارنات بينى وبين من حولى وجدت نفسى فجأة أتصرف كالسيد "وينستون سميث" بطل رواية الكاتب البريطانى جورج اورويل (١٩٨٤ ) الذى إعْتُقل بسبب آرائه السياسية وعُذِب وتعرض فى المعتقل لعملية غسيل مخ، فخرج يهتف فى نهاية الرواية بحياة الأخ الكبير.

 لقد صدقتهم للأسف الشديد وتجاهلت السهام التى كانت ترشق جسدى ليل نهار.

أصبحت أوقن أننى كسولة وغير حمولة وعصبية ولست كغيرى من الناس رغم شعوري أننى أحمل طوال الوقت على كتفى سلة تثقل كاهلى، أو بالأحرى أحمل نفسى بنفسى طوال الوقت، فلا أنا مرتاحة كحاملة ولا مرتاحة كمحمولة.

مرت أكثر من عشرين عاما وأنا على هذا الحال، شيئ واحد كان يُنغص علىْ حياتى، أن تلك السلة التى أحملها على ظهرى مثقوبة للأسف، لا أستطيع أن أدخر فيها حسنة أقابل بها ربى، فقد كنت أستحي أن اسأل الله الإحتساب، وهل يجرؤ مذنب أن يحتسب ذنوبه عند الله!!! 

أَنٌى لى أن أُثَاب وأنا طوال الوقت عابسة غاضبة ، أشعر بالهم لتقصيرى، أفعل كل شيء رغما عنى، وأُحَمِّل نفسى مالا أطيق ثم لا أرضى عنها؟

فجأة ومنذ شهور قليلة فوجئت بمنشور كتبته الصديقة د.منى النمورى زوجة الزميل الإعلامى محمد على خير، وهى كاتبة زميلة لنا فى الجريدة أيضا.. كتبت عن مرض غامض تعانى منه منذ حوالى عامين، كانت تصف حالتى بالتفصيل. 

تواصلت معها وعلمت أنها تعانى من مرض مناعى لا يُعرف له سبب معين وليس له علاج واضح حتى الآن، إنه ( الفايبروميالجيا ) أو ما يُسمى بتليف الأنسجة والعضلات.

قفز الإسم إلى ذاكرتى على الفور وعاد بى نحو عشرين عاما إلى الوراء.. إنه المرض الذى شخصنى به د.باسل منذ زمن بعيد ولم أعد إليه ثانية ، بدأت أقرأ عنه، إنه يدمر كل شئ خاصة الأعصاب.

سقطت دموعى فرحة، وكيف لا؟ إنها دموع البراءة أمام نفسى وأمام الله، أخيرا بدأت أتصالح مع نفسى.

 ذهبت لطبيب آخر، فأكد لى التشخيص وفسر لى أن حالة الهلع الذى كنت أشعر بها أثناء نومى ما هو إلا "الجاثوم" أو "شلل النوم" وهو من أعراض مرض "الفايبروميالجيا" أيضا بخلاف الصداع النصفي وعدم وضوح الرؤية وآلام القولون.....الخ.

 إذن لم تكن السلة مثقوبة.. حسنا الآن لا يهمنى شيء، لا يهمنى الألم ولا العتاب ولا ماذا يظن بى الآخرون، أنا حسنة الظن بربى وهذا يكفينى، لقد ادخر لى كثيرا دون أن أدرى، أكثر من هذا الفضل أنا لست طامعة.. كم أنت رحيم يا إلهى!! لم تذهب حياتى سُدى كما توهمت.

الآن والآن فقط يحق لى أن أتألم بلا تأنيب لنفسى، وهو حق لو تعلمون عزيز.
-------------------
بقلم: أماني قاسم

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف