30 - 06 - 2024

كيف حصلت دار كريستيز على رأس الملك الصغير؟

كيف حصلت دار كريستيز على رأس الملك الصغير؟

تاريخ للبيع.. رأس "توت عنخ آمون" تباع في مزاد عالمي بلندن
- 4.7 مليون جنيه إسترليني ثمنًا للتاريخ المصري في لندن
- حرب كلامية بين السلطات المصرية والدار.. وأثريون: "يجب وقف البعثات البريطانية في مصر"

على عتبات المقبرة الملكية، وقف الشاب الثلاثيني بصحبة صديقه، يرتجفان، فالنص المنقوش على واجهة المقبرة، جعل الشابين يفكران في التراجع، "سيُحاكم على فعله أمام الإله الكبير".. كانت تلك كتابات نقشها الكهنة موجهة إلى اللصوص، ورغم التحذيرات إلا أنهما تشجعا وتقدما لسرقة محتويات المقبرة، وهربا بعد ذلك خارج المملكة المصرية، خوفًا من انكشاف أمرهما وبطش القانون بهما، فالقانون رادع وبشدة.

كان للأزمات الاقتصادية التي ضربت المملكة المصرية عقب سقوط الدولة القديمة، كبير الأثر في انتشار مثل تلك السرقات، إضافة إلى الفساد الحكومي المتفشي، خصوصًا من جانب الكهنة، والذين اعتبرهم المصريون رسل الإله، ليتراجع الوازع الديني لدى عامة الشعب، فالفساد الحكومي وصل إلى حد أن اشترك رجال الدين من الكهنة في نهب ثروات المعابد، بل إن كثيرًا من سرقات المقابر تمت بتوجيههم المباشر، كما ورد في بردية "هاريس" المحفوظة في المتحف البريطاني.

و لم تتوقف السرقات منذ عهد مصر القديمة، بل زادت إلى حد تهريب محتويات مقابر كاملة، وربما وصلت إلى معابد وقطع أثرية نادرة، ومثلما كانت نهاية الدولة القديمة، اشترك المصريون من الفقراء والمسئولين معًا في سرقة وتهريب الآثار المصرية إلى الخارج، ولعل أبرز القطع المهربة التي أثيرت حولها الأحاديث في الأيام الماضية، هي رأس الملك توت عنخ آمون، والتي بيعت في مزاد علني في العاصمة البريطانية لندن.

موجة من الغضب عارمة سادت بين الأوساط الرسمية وغير الرسمية المختصة بالتاريخ المصري، بعد إقدام صالة "كريستيز" بلندن على بيع تمثال من حجر الكوارتزيت لرأس الملك الشهير توت عنخ آمون، يوميّ ٣ و ٤ يوليو الجاري مقابل 4.7 مليون جنيه إسترليني "6مليون دولار أمريكي"، وذلك بالمخالفة لجميع القوانين المحلية والدولية التي تمنع بيع القطع الأثرية بدون إظهار سندات الملكية لهذه القطع الأثرية، وما يثبت شرعية خروجها من موطنها الأصلي.

"كريستيز" وتاريخ من السرقات والمزادات:

لم تكتفِ صالة "كريستيز" ببيع الرأس الكوارتزيتي للملك الصغير، فأقامت مزادًا علنيًا، يوم الأربعاء، الثالث من يوليو الجاري، عرضت خلاله 32 قطعة آثار مصرية متنوعة، من بينها تابوت خشبي يعود للأسرة السادسة والعشرين، وتمثال لقطعة من البرونز يعود للفترة نفسها، وتمثال آخر لقطة من العصر البطلمي، وتماثيل أوشابتي، وقناع لمومياء من العصر البطلمي، ولم تكن هذه الحالة الأولى التي تعرض فيها "كريستيز" مقتنيات أو قطعا أثرية مصرية، للبيع في مزاد علني، فسبق أن عرضت دار المزادات الأشهر على مستوى العالم، مقتنيات مملوكة للأسرة العلوية المصرية بعد انقضاء عهد الملكية إبان يوليو 1952، وفي نوفمبر 2016، فتحت أيضًا دار كريستيز للمزادات في فرعيها بنيويورك ولندن مزاداً يضم 164 قطعة فنية وأثرية مصرية، من بينها مجموعة من بورتريهات الفيوم القديمة التي رُسمت خلال فترة الاحتلال الروماني لمصر، في الفترة من القرن الأول إلى الثالث الميلادي، ودارت اتهامات عديدة حول كيفية خروج هذه المقتنيات من مصر.

من أشهر المزادات التي أقامتها الدار، بين عامي 2015 و2016، بصالة"روكفلر بلازا" في مدينة نيويورك الأمريكية، مزاد عرضت خلاله للبيع رأس من الحجر الجيري لتمثال الملك أمنمحات الثالث، يرجع تاريخه إلى الأسرة 12 في الدولة الوسطى 1844 إلى 1797 قبل الميلاد، ويصل ارتفاع الرأس إلى 11٫4 سنتيمترًا، إضافة إلى قطعة أخرى مصرية صميمة من مجموعة "التلاتات" المعروفة بعلاقتها بتاريخ إخناتون –حكم في الأسرة الثامنة عشر في الدولة الحديثة-، والقطعة من الحجر الرملي يصل عرضها إلى 18٫4 سنتيمتر.

خروج الرأس الصغير من مصر :

رغم عرض 32 قطعة أثرية أخرى تنتمي جميعها إلى عصور مصرية قديمة، إلا أن رأس توت عنخ آمون، حازت على اهتمام كبير، نظرًا لشهرة الملك الكبيرة في جميع أنحاء العالم، ويبلغ طوله 28.5 سنتيمترًا، بُنيّ اللون و مصنوع من حجر الكوارتزيت، ولم يصبه ضرر سوى في الأنف والأذنين، ويمثل رأس الملك الذهبي توت عنخ آمون الذي تولى ملك مصر في الأسرة الثامنة عشر، في الفترة ما بين 1334 إلى 1325 ق.م، وهو في التاسعة من عمره، وتوفي هو في التاسعة عشرة، ويتمتع بشهرة عالمية منذ اكتشاف خبير الآثار البريطاني الشهير هوارد كارتر مقبرته سليمة في عام 1922.

وردًا على تجاهل دار المزادات اللندنية لمطالبات مصرية رسمية وشعبية، بوقف بيع الرأس والقطع الأثرية الأخرى، قال الدكتور زاهي حواس –وزير الآثار الأسبق-، في تصريحات صحفية، إن الرأس خرج من مصر مهربًا بعد أن تمت سرقته من معبد الكرنك في ستينات القرن الماضي، مشددًا على ضرورة عودة الرأس إلى مصر لأنها لم تخرج بالطرق الشرعية، ما أثار جدلًا واسعًا بين كافة الأوساط، حتى أن السلطات البريطانية قد أوعزت إلى "كريستيز" بضرورة الإعلان عن طرق الحصول على القطع التي تُعرض للبيع للتأكد من أنها غير مخالفة للقانون، وذلك وفقًا للقانون البريطاني والذي لا يمنع تجارة الآثار، لكنه يقننها وفق شروط، وفي حالة الالتجاء إلى القضاء، يضع إثبات ملكية القطع المباعة على بلد المنشأ وليس على الحائز.

اتهامات متبادلة.. وجهود حكومية 

وبعد اتهامات طالتها، أعلنت دار كريستيز أنها حصلت على تلك القطع الأثرية بشكل قانوني، فوفقًا للدار فإنها حصلت على رأس توت عنخ آمون وتابوت خشبي وتمثال لقطة مصرية عن طريق تاجر الآثار الألماني هاينز هيزر، عام 1985، وأنها تباع لصالح جامع مقتنيات مجموعة "ريساندو"، وحسبما ذكرت صحيفة التلغراف البريطانية، فإن الدار نشرت تسلسلًا تاريخيًا لملاك الرأس عبر الخمسين عامًا الأخيرة، و وفقًا لما نشره موقع دار المزادات الرسمي، فإن أول من امتلك رأس الملك الصغير كان الأمير "ويلهلم فون ثورن أوندتاكسي"، وهو مقتني آثار ألماني، في ستينات القرن الماضي، ثم اشتراه تاجر الآثار النمساوي"جوزيف مسينا" في الفترة ما بين عامي 1973 و1974، وبعدها انتقلت ملكيته إلى "أرنولف روزمان" في الفترة بين عامي 1982 و1983، وبعدها انتقل إلى "هاينز هيزر" في يونيو، قبل أن يصبح جزءا من مجموعة "ريساندو" في يوليو 1985، وأضاف بيان الدار عبر موقعها أن التمثال موثق من قبل علماء الآثار والباحثين وقد تم عرضه بمتاحف إسبانية وألمانية.

أما الجانب المصري فشكك في صحة رواية دار "كريستيز" وطعن على طريقة خروج التمثال من مصر، وعدم شرعية خروجه، بالإضافة إلى عدم إظهار "كريستيز" أية أوراق تثبت ملكيتها للتمثال، وتعقيبًا على ذلك أضاف وزير الآثار الأسبق زاهي حواس، أن الدار أعلنت عن الشخص الذي يملك الرأس، فحاولت الصحف البريطانية حسبما ورد عنها التواصل مع هذا الشخص ووُجد أنه متوفى وأنكرت عائلته صلتها بتوت عنخ آمون، مؤكدًا كذب ما أسماه ادعاء الدار، ما يدل على خروج الرأس بطريقة غير قانونية، علاوة على تواطؤ السلطات البريطانية المعنية ورفضها اتخاذ إجراء قانوني عاجل قبل عملية البيع التي حدثت، حسبما ذكر "حواس".

وفور الإعلان عن بيع القطع الأثرية والرأس؛ خاطبت وزارتا الخارجية والآثار دار المزادات ومنظمة اليونسكو والخارجية البريطانية، لوقف إجراءات بيع القطع ‏والتحفظ عليها وطلب الحصول على المستندات الخاصة بملكيتها، فسعى  طارق عادل، سفير مصر في لندن لإقناع "كريستيز" بتأجيل المزاد لحين التأكد من صحة الوثائق، لكن الدار لم تستجب، وأظهرت ردودها وفقًا لموقع "بي بي سي" أنها لا ترى أي نزاع قانوني بشأن الرأس، ووصفت المزاد بأنه قانوني، لأنه تم التحقق من الملكية الحديثة للأثر، مؤكدة أنها تملك الوثائق التي تثبت الملكية الحديثة له ولا يمكنها، مع رفضها تأكيد ما إذا كان لديها وثائق تؤكد خروج الرأس من مصر بطريقة مشروعة.

وفي أولى الخطوات المصرية الرسمية لمناقشة الإجراءات القانونية، للرد على بيع الرأس، دعا الدكتور خالد العناني - وزير الآثار الحالي -، إلى اجتماع طارئ للجنة القومية للآثار المستردة، بحضور الدكتور "حواس" و قيادات كل من وزارات الخارجية والداخلية والعدل والنيابة العامة وهيئةً قضايا الدولة والجهات الأمنية والرقابية والسيادية ‏بالدولة، وبالفعل اجتمعت اللجنة، لتقرر مخاطبة الإنتربول الدولي، لاستصدار نشرة لتعقُب القطع الأثرية المُباعة في جميع دول العالم والتنسيق مع وزارة الخارجية لإرسال توجيهات للسفارات المصرية بالخارج لمتابعة هذه القطع وإخطار السلطات المصرية بظهورها في أية دولة، والعمل على التحفُظ عليها لحين عرض سندات الملكية الخاصة بها والتحقُّق منها، إضافة إلى تكليف مكتب محاماة بريطاني لاتخاذ كافة الإجراءات القانونية اللازمة لرفع دعوى قضائية مدنية.

فيما علّق مصطفى وزيري - الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار- ، على بيع رأس توت عنخ آمون قائلا: "إننا نتطلع لمزيد من التعاون بين السلطات المصرية والبريطانية في هذا الشأن، وذلك حرصًا على استمرار التعاون في مجال العمل الأثري، وخاصة أن هناك بعثات أثرية بريطانية عاملة في مصر"، ذاكرًا تأكيد الجانب البريطاني أن القطعة الأثرية خرجت في الستينيات قبل اتفاقية اليونسكو وقبل قانون حماية الآثار لسنة ١٩٨٣.

مطالبة بوقف نشاط البعثات البريطانية

حاولنا التواصل مع مصادر رسمية بوزارة الآثار، إلا أننا لم نجد ردودًا، و في حين رفض رئيس إدارة الآثارالمستردة بالوزارة الدكتور شعبان عبد الجواد، الإدلاء بأي تصريحات صحفية لـ"المشهد"، مكتفيًا بذكر أن الملف كله في حوزة وزارة الخارجية المصرية والنائب العام ووزارة العدل والجهات  الأمنية و الرقابية المختصة.

أما الجانب غير الرسمي كان الأكثر غضبًا، حيث يرى أن تحرك الوزارة والجهات الرسمية المصرية جاء بعد فوات الأوان، فأول اجتماع رسمي للجنة الآثار المستردة جاء بعد أيام خمسة من الإعلان عن البيع، ولم يكن رد الفعل الحكومي على المستوى المطلوب لمنع عملية البيع والمطالبة باسترداده والقطع الأخرى.

وأوضح الدكتور أحمد صالح -مدير عام النشر العلمي بوزارة الآثار والباحث في علوم المصريات-، انتقاده طريقة تعامل وزارة الآثار البطيئة والتقليدية -على حد وصفه- لاسترداد التمثال مره أخرى، ذاكرًا أن رأس التمثال خرجت من الأقصر، لأن الرأس التي تحمل الإله آمون موجودة في معبد الكرنك، وهو ما يوافق بيان دار المزادات البريطانية الذي أشار إلى اكتشاف التمثال عام 1960، ولا يعلم أحد كيفية خروج التمثال من الأقصر وهى النقطة التي تستغلها الدار، وأنه لابد من الاطلاع على شهادة الملكية للتمثال أو شهادة التصدير، فكانت مصر حتى فترة الخمسينات تسمح بخروج آثارها للخارج بنسبة 10% ، فيما يشير بيان الدار إلى خروج التمثال عام 1960 قبل القانون الدولي لليونسكو في السبعينات.

مفندًا إدعاءات الدار، يضيف صالح :"شهادة التصدير التي تدعي دار كريستيز البريطانية، حيازتها، غير معترف بها فلا تحمل أية أختام رسمية مصرية، ومن الممكن أن تكون صورة فوتوغرافية للأمير النمساوي، ويجب الإطلاع على هذه الشهادة لتتمكن وزارة الآثار من الطعن والمطالبة بعودة التمثال"، مستنكرًا رد الفعل الحكومي غير المسئول، فحسب قوله، لم تتحرك وزارة الآثار أو الخارجية المصرية لمنع عملية البيع، رغم الإعلان منذ مايو الماضي عن تاريخ المزاد، أي فترة سبقت عملية البيع بحوالي الشهرين.

وعن كيفية التحرك والتصعيد الذي يجب أن تتبناها مصر لعودة الرأس مرة أخرى، قال الباحث في علم المصريات إنه يجب أن تتوفر رؤية جديدة للتعامل مع الآثار المهربة، فطريقة الوزارة المتبعة في مثل هذه الحالات أثبتت فشلها سابقا، كما حدث في بيع تمثال "سخم كا" في نفس الدار منذ سنوات، فاكتفت الآثار المصرية وفقًا لقوله بمخاطبة الدار فقط، مضيفًا أن كل القطع الأثرية المستردة طوال السنوات الماضية كانت من المتاحف والهيئات وليس صالات المزادات، كما يجب أن نغير طريقتنا في المطالبة باسترداد الآثار من خلال الخارجية المصرية التي تخاطب السفارات المصرية في الخارج وهى ليست لها علاقة بصالات العرض الخاصة ولا تملك وسيلة ضغط على مثل تلك المؤسسات.

 وطالب "صالح" بالضغط على بريطانيا لوقف بيع الآثار المصرية داخل أرضها، من خلال البروتوكولات والاتفاقيات الموقعة معها في مجال العمل الأثري، بالإضافة إلى البعثات البريطانية العاملة في التنقيب في مصر وعددها 18 بعثة، وإتباع هذه الطريقة بداية من الإعلان عن بيع الأثر وليس بعد البيع، كما فعلت الوزارة، مطالبًا بإيقاف عمل البعثات الأثرية البريطانية مؤقتا في مصر لحين الاستجابة، كما يجب الضغط داخل اليونسكو كدولة مؤسسة وتمتلك تراث حضاري كبير على قائمتها، من خلال المطالبة بتفعيل اتفاقيات تتيح المحاسبة بأثر رجعي لمدة 200 سنة وهى بداية فترة التوسع في تهريب الآثار المصرية.

فيما قال الأمين العام لإتحاد الأثريين العرب، الدكتور محمد الكحلاوي، إن وزارة الآثار وزارة مغيبة ولا تقوم بدور حقيقي لاسترداد آثارنا المنهوبة من الخارج حيث اكتفت بالشجب والإدانة فقط، ذاكرًا أن حديث الوزارة عن أن التمثال كان موجودًا بمعبد الكرنك يسيء لدورها، وتساءل إذا كان التمثال مسجلا في سجلات المعبد كيف لا نطالب به بشكل رسمي، ولماذا لم تقم الوزارة بفتح تحقيق موسع حول اختفاء التمثال وتحويل المسئول عن تهريبه إلى السلطات المختصة، وأين نتائج التحقيق في حادثة تهريب أكثر من 21 ألف قطعة أثرية دخل حاوية دبلوماسية إيطالية التي ضبطتها السلطات الإيطالية منذ أكثر من عام مضى!.

وعن سؤاله عن الإجراءات التي يجب أن تتبعها السلطات المختصة لاسترداد التمثال ووقف أشكال التهريب والاتجار في الآثار المصرية، أجاب الأمين العام لاتحاد الأثريين العرب: "الدور الحقيقي يجب أن يكون على عاتق وزارة الخارجية المصرية في ممارسة الضغط على بريطانيا لاسترداد التمثال، حتى لو وصل الأمر إلى استدعاء السفير المصري في بريطانيا لمدة ثلاث أيام لحين عودة التمثال مرة أخرى، ووقف كل أشكال البيع والاتجار في الآثار المصرية"، مطالبًا بوقف نشاط البعثات الأثرية البريطانية في مصر تمام لحين استرداد التمثال.  
------------------------
تحقيق: هاني رياض






اعلان