30 - 06 - 2024

كيف تخفي إسرائيل أدلة كونها دولة عصابات؟ ترجمة كاملة لتحقيق: طمس النكبة (1 من 2)

كيف تخفي إسرائيل أدلة كونها دولة عصابات؟ ترجمة كاملة لتحقيق: طمس النكبة (1 من 2)

فرق وزارة "الدفاع الإسرائيلية" تمشط الأرشيف المحلي للتخلص من وثائق تاريخية قيّمة تخفي أي دليل على حدوث النكبة

قبل أربع سنوات، أُصيبتْ المؤرّخة تامار نوفيك بصدمة كبيرة، إثر عثورها على ملف يوسف فايتس من القسم العربي في حزب مبام اليساري، في سجلات أرشيف ياد ياري في منظمة جبعات حبيبه. بدأت الوثيقة التي كان يبدو أنها تَصف أحداث حرب عام 1948 على النّحو التالي:

"صفصاف: قرية فلسطينية سابقاً قُرب صَفد - تم الإمساك بـ 52 رجلاً رُبطوا ببعضهم البعض، قبل إطلاق النار عليهم في حفرة. جاءتْ نسوة يتوسّلنَ طلباً للرحمة، بينما استمرّ عشرة رجال في الارتعاش. تمّ العثور على جثث ستة رجال متقدمين في السن. كان هناك واحداً وستين جثة، وثلاث حالات اغتصاب وقعت إحداها شرق صفد، لفتاة في 14 من عمرها، إضافة إلى أربعة رجال قُتلوا بالرّصاص، وقد قُطعت أصابع أحدهم بالسكين طمعاً في خاتمه."

يستمرّ الكاتب في وصف مجازر أخرى، وحالات سرق ونهب ومضايقات ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال "حرب 1948". تُخبر الدكتورة نوفيك صحيفة هآرتس: «لم تحمل الوثيقة اسماً، ولم يُعرف كاتبها قطّ. كما أن أحداثها غير مكتملة وتثير الكثير من الانزعاج. أدركتُ منذ عثوري على هذه الوثيقة أنني مسؤولة عن توضيح ما حدث."

نجحتْ قوات الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على قرية الصفصاف في الجليل الأعلى خلال عملية حيرام قبيل نهاية عام 1948، وقد أُقيمت مستوطنة موشاف صفصوفا على أنقاضها. على مدار عدة سنوات، تم اتهام الكتيبة السابعة بارتكاب جرائم حرب في القرية، وتأتي وثيقة نوفيك التي لم تكن معروفة لدى الباحثين سابقاً، لتؤكد هذه الاتهامات، كذلك فإنّ هذه الوثيقة تمثل دليلاً إضافياً على معرفة كبار الضّباط في إسرائيل بما كان يحدث في حينه.

قررتْ نوفيك استشارة مؤرخين آخرين بخصوص الوثيقة، فقد أخبرها بيني موريس صاحب الكُتب التي تشكّل نقطة أساسية في دراسة أحداث "الهجرة الجماعية للعرب" من البلاد خلال حرب 1948، أو ما يطلق عليه العرب اسم «النكبة»، أنه صادف وثائق مشابهة في الماضي. كان يشير إلى ملاحظات دوّنها أهارون كوهن عضو اللجنة المركزية لحزب مبام، عن تعليمات أصدرها يسرايل غاليلي قائد ميليشيا الهاغاناه، التي شكلت فيما بعد "جيش الدفاع الإسرائيلي" في نوفمبر 1948. نشر موريس ملاحظات كوهن عن هذه الحادثة: «صفصاف – 52 رجلاً مربوطين بحبل، أُنزلوا في حفرة وأُطلق الرصاص عليهم. قُتل عشرة أشخاص، فيما توسّلت عدة نساء طلباً للرحمة. ثلاث حالات اغتصاب. حالات اعتقال وإطلاق سراح. تم اغتصاب فتاة في 14 من العمر. قُتل أربعة رجال. خواتم وسكاكين

تذكر ملاحظات موريس الهامشية في كتابه المؤثر «نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949» عثوره على الوثيقة في أرشيف ياد ياري أيضاً، لكن نوفيك تفاجأت عند عودتها لتفحص الوثيقة بعدم وجودها

"في البداية اعتقدتُ أن ملاحظات موريس الهامشية لم تكن دقيقة، أو أنه ربما ارتكب خطأ ما"، تذكر نوفيك. «لم أفكر باحتمال اختفاء الوثيقة إلا بعد مرور بعض الوقت». عندما واجهَت نوفيك المسؤولين عن مكان الوثيقة بسؤالها، أخبروها أن "وزاراة الدفاع" أصدرت أمراً بإخفاء الوثيقة في مكان آمن.

منذ بداية العقد الأخير، قامت فِرق وزارة الدفاع بتمشيط الأرشيف المحلي بهدف التخلص من بعض الوثائق التاريخية. لكن هذا لم يشمل الأوراق المتعلقة بمشروع إسرائيل النووي أو علاقاتها الخارجية فحسب، بل إن إخفاء مئات من الوثائق كان جزءاً من عملية ممنهجة لإخفاء أي دليل على حدوث النكبة.

كان معهد عكيفوت لبحث الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني أول من رصد هذه الظاهرة. فبحسب تقرير للمعهد فإن العملية تمت بقيادة قسم «مالماب» أو قسم الأمن السري في وزارة الدفاع، والذي تتسم المعلومات المتعلقة بنشاطاته وميزانيته بالسرية التامة. يؤكد التقرير أن قسم «مالماب» قام بإزالة وثائق تاريخية بشكل غير قانوني، ودون الحصول على التصاريح اللازمة لذلك، وأنه في بعض الأحيان منع الوصول إلى وثائق كان المراقب العسكري قد سمح بنشرها، حتى أن بعض الوثائق التي تم إخفاؤها كانت قد نُشرت مسبقاً.

توصّل تحقيق قامت به صحيفة هآرتس إلى أن «مالماب» أخفى شهادات قادة الجيش عن قتل المدنيين وتدمير القرى، إضافة إلى وثائق تهجير البدو خلال العقد الأول من عمر الدولة الإسرائيلية. فقد كشفت لقاءات قامت بها هآرتس مع مدراء محفوظات الأرشيف الحكومية والخاصة عن تعامل موظفي قسم الأمن مع الوثائق الأرشيفية كما لو أنها كانت ملكاً لهم، كما وجهوا في بعض الحالات تهديدات للمسؤولين عن السجلات.

اعترف يهييل حوريب الذي ترأس قسم «مالماب» لمدة عقدين حتى عام 2007 بإطلاقه المشروع الذي لا يزال مستمراً. يؤكد حوريب منطقية دوافعه لإخفاء أحداث عام 48، إذ أن الكشف عنها قد يثير السكان العرب في البلاد. وعند سؤاله عن الهدف من إخفاء وثائق تم نشرها بالفعل، شرح أنه يهدف إلى التقليل من مصداقية الدراسات المتعلقة بتاريخ مشكلة اللاجئين. حسب وجهة نظر حوريب، فإن اتهامات الباحثين المدعومة بوثائق، مختلفة عن الاتهامات التي لا يمكن تأكيدها أو تفنيدها.

تُعزز الوثيقة التي بحثت عنها نوفيك مضمون أعمال موريس. خلال التحقيق، تمكنت هآرتس من العثور على ملاحظات أهارون كوهن التي تلخص لقاءً مع لجنة مبام السياسية بخصوص المجازر وعمليات التهجير التي حدثت عام 48، إذ دعا المشاركون في اللقاء للتعاون مع لجنة التحقيق التي اعتزمت التحقيق في الأحداث. تتعلق إحدى القضايا التي ناقشتها اللجنة بـ «إجراءات خطيرة» ارتُكبت في قرية الدوايمة شرق كريات غات. فقد تحدث أحد المشاركين عن تورط ميليشيا ليهي السرية التي كان قد تم تفكيكها آنذاك بهذه الانتهاكات، كما تم الحديث عن أعمال سلب ونهب «لم يسلم منها أي متجر عربي في اللد والرملة أو بئر السبع، وقد وَجهت الكتيبة التاسعة الاتهامات إلى الكتيبة السابعة، في حين اتهمت هذه الأخيرة الكتيبة الثامنة

تذكرُ الوثيقة قبيل نهايتها «معارضة الحزب لعمليات التهجير التي لم يكن لها دواع عسكرية. إذ أن هناك معايير عدة لقياس هذه الضرورة، لذا فإن هناك حاجة لمزيد من التوضيح. ما حدث في الجليل هي تصرفات نازية، ويتعين على كل عضو منا أن يروي ما يعرفه

الرواية الإسرائيلية  

قام ضابط في وحدة المخابرات التي تعرف باسم «شاي» والتي سبقت تأسيس جهاز الشين بيت، بكتابة واحدة من أشد الوثائق التي تتحدث عن أصل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ترويعاً، إذ تناقش أسباب خلوّ البلاد من كثير من سكانها العرب، من خلال دراسة ظروف كل قرية. جُمعت هذه الوثيقة في نهاية يونيو/حزيران عام 1948 تحت اسم "هجرة عرب فلسطين".

كانت هذه الوثيقة بمثابة الأساس الذي اعتمده بيني موريس لكتابة مقالة عام 1986، وقد تمت إزالتها من الأرشيف ومنع وصول الباحثين إليها بعد نشر مقالته. بعد سنوات عدة، قام فريق من وحدة «مالماب» بإعادة دراسة الوثيقة وأمروا باستمرار إخفائها. لم يكونوا ليعرفوا أن باحثين من معهد عكيفوت قد عثروا بعد سنوات على نسخة من الوثيقة وأرسلوها إلى المراقب العسكري الذي سمح بنشرها دون قيد أو شرط. الآن، وبعد سنوات من إخفائها، يتم هنا الكشف عن ملخص لما جاء في الوثيقة

تبدأ الوثيقة المكونة من خمسة وعشرين صفحة بمقدمة تتفق مع عمليات إخلاء القرى العربية دون أي تحفظ. فبحسب الكاتب، تميز شهر أبريل/نيسان بارتفاع أعداد المهاجرين، بينما «حلت البركة» بشهر مايو/أيار، إذ تم إخلاء أكبر عدد من المواقع. ثم يتحدث التقرير عن أسباب ما أسماه «الهجرة العربية». بحسب الرواية الإسرائيلية التي شاعت عبر السنين فإن مسؤولية الهجرة الجماعية من إسرائيل تقع على عاتق السياسيين العرب الذي شجعوا السكان على المغادرة. لكن، وبحسب الوثيقة، فإن 70% من العرب غادروا نتيجة العمليات العسكرية التي قام بها الجيش اليهودي

يرتب كاتب الوثيقة غير المعروف أسبابَ "مغادرة العرب" حسب أهميتها، فالسبب الأول يتمثل في «الأعمال العدائية التي ارتكبها اليهود في أماكن إقامة العرب»، في حين أن السبب الثاني يتلخص في تأثير هذه الهجمات على القرى المجاورة. في السبب الثالث تحدث الكاتب عن عمليات عسكرية ارتكبتها قوى غير منظمة، بالتحديد ميليشيات الإرغون وليهي السرية. أما السبب الرابع لتهجير العرب، فهو أوامر المجموعات العربية المقاتلة التي تطلق عليها الوثيقة اسم «العصابات»، في حين أن السبب الخامس هو تناقل أخبار الهجمات اليهودية بهدف دفع السكان العرب للمغادرة، فيما تضمن السبب السادس إنذارات نهائية تأمر بالمغادرة.

لا يشك الكاتب في أن العمليات العدائية كانت السبب الرئيسي في تحرك السكان، إضافة إلى فعالية استخدام مكبرات الصوت لتوجيه الأوامر باللغة العربية. أما بخصوص عمليات الإرغون وليهي، فإن التقرير يرصد بدء مغادرة سكان الكثير من قرى الجليل الأوسط إثر أنباء عن اختطاف أعيان قرية الشيخ مونس شمال تل أبيب. فقد علم العرب أن عقد اتفاقات مع الهاغاناه لم يكن كافيا، وأن الحذر واجب من مجموعات يهودية أخرى تتصرف على نحو منفصل

يتحدث الكاتب عن استخدام إنذارات المغادرة بشكل خاص في الجليل الأوسط، وبشكل أقل في منطقة جبل جلبوع، إذ يقول: «بشكل طبيعي، فإن تقديم إنذار المغادرة كان بمثابة تقديم «نصيحة»، وقد جاء بعد إجراءات عدائية كثيرة مهدت الطريق له

يصف ملحق بالوثيقة أسباب الهجرة من كل منطقة عربية بشكل محدد، فقد ورد في وصف تهجير قرية عين زيتون: «تدميرنا للقرية»، قيطية: «مضايقات، تهديدات بالهجوم»، العلمانية: «هجماتنا. قُتل كثيرون»، الطيرة: «نصيحة يهودية»، العمامير: «أعمال سرقة وقتل قامت بها ميليشيات غير منظمة»، سمسم: «إنذاراتنا»، بير سالم: «هجوم على مأوى أيتام»، زرنوقة: "الغزو والطرد".

غضب سريع  

في بداية الألفية الثالثة، قام مركز إسحق رابين بسلسلة من المقابلات مع شخصيات عامة وعسكرية سابقة، في إطار مشروع توثيق نشاطاتهم في خدمة الدولة، لكن يد «مالماب» طالت هذه المقابلات أيضاً. قامت هآرتس بعد حصولها على نسخ أصلية من المقابلات بمقارنتها مع النسخ المتاحة الآن للاطلاع، وذلك بعد تصنيف أجزاء كبيرة منها بالسرية. يتضمن هذا على سبيل المثال، مقطعاً من شهادة قائدة الكتيبة آريه شاليف عن تهجير سكان قرية صبرا إلى ما وراء الحدود، إذ تم حذف الجمل التالية: «كانت هناك مشكلة حقيقية في الوادي، فقد تجمع فيه عدد من اللاجئين راغبين في العودة إلى منطقة المثلث (التي تحتوي على عدد من البلدات والقرى العربية "شرق إسرائيل"). فقمنا بطردهم. التقيتُ بهم لإقناعهم بالتراجع عن مطالبهم، ولديّ وثائق تثبت ذلك

في حالة أخرى، قرر «مالماب» حذف المقطع التالي من مقابلة أجراها المؤرخ بواز ليف توف مع الجنرال إلعاد بيليد:

- ليف توف: نحن نتحدث عن السكان، نساء وأطفال؟

بيليد: كلهم، كلهم، نعم.

- ليف توف: ألا يوجد لديك فرق بينهم؟

بيليد: المشكلة بسيطة جداً. الحرب بين شعبين يخرجان من المنازل.

- ليف توف: إذا كان لديهم منازل، فهل لديهم مكان آخر يعودون إليه؟

بيليد: دون أي تردد...؟

ليف توف: دون أي تردد. كانت هذه السياسة. أقوم بتحضير القوات، وأنفذ الأمر.

صناديق في القبو

يقع قبو مركز ياد باري للبحث والتوثيق في طابق تحت الأرض. في هذا القبو المكون من غرفة صغيرة تتمتع بحماية جيدة، توجد صناديق عدة مليئة بالوثائق السرية. فالأرشيف يحتوي على مواد متعلقة بحركة هاشومير هاتزاير الصهيونية الاشتراكية، وحركة كيبوتز، وحزبي مبام وميرتز ومكوناتها مثل حركة السلام الآن.

يقوم دودو أمياتاي بإدارة قسم الأرشيف، كما أنه يرأس المؤسسة الإسرائيلية للأرشفة والمعلومات. بحسب أمياتاي، فإن أشخاصاً من «مالماب» قاموا بزيارات دورية للأرشيف بين عامي 2009 و2011. يتحدث العاملون في الأرشيف عن زيارة فرق قسم الأمن واثنين من متقاعدي "وزارة الدفاع" الذين لم يحصلوا على أي تدريب على التعامل مع سجلات الأرشيف، مرتين أو ثلاث مرات خلال الأسبوع. كانوا يبحثون عن الوثائق التي تحتوي على كلمات مفتاحية مثل «نووي» و«أمن» و«رقابة»، كما أنهم سخروا بعض الوقت "لحرب الاستقلال"، ومصير القرى العربية قبل حرب 1948.

«في نهاية الأمر، أرسلوا لنا ملخصاً يقول أنهم عثروا على عشرات الوثائق الحساسة»، يقول أمياتاي. «لا نفصل عادة بين الملفات، لذا فإن عشرات من الملفات بأكملها وصلت إلى القبو بعد إزالتها من الفهرس المتاح للجمهور.» مشيراً إلى أن بوسع ملف واحد أن يحتوي على مئات الوثائق.

يتناول أحد الملفات التي تم منعها من النشر عن الحكومة العسكرية التي تحكمت بحياة المواطنين العرب الإسرائيليين بين عامي 1948 و1966. فلسنوات عدة، بقيت هذه الوثائق في القبو دون أن يُسمح للباحثين بالوصول إليها. مؤخراً، وبناءً على طلب المؤرخ في جامعة تل أبيب، البروفيسور غادي الغازي، قام أمياتاي بتفحص الملف بنفسه، وقد قرر أن ما من سبب يمنع نشر الملف، بصرف النظر عن رأي جهاز «مالماب».

بحسب الغازي، فإن هناك عدة أسباب وراء قرار «مالماب» بمنع تداول الملف، يتعلق أحدها بملحق سري مرتبط بتقرير لجنة حققت في عمل الحكومة العسكرية. فالملف بأكمله تقريباً يتحدث عن معارك ملكية الأرض بين الدولة والسكان العرب، ولا يتطرق إلى مواضيع الأمن إلا نادراً.

احتمال آخر يتعلق بتقرير لجنة وزارية أشرفت على عمل الحكومة العسكرية عام 1958. ففي إحدى الملحقات السرية للتقرير، يشرح العقيد ميشايل شاهام الذي شغل منصباً كبيراً في الحكومة العسكرية أن السبب الوحيد وراء عدم وقف الأحكام العرفية كان الحاجة إلى الحدّ من قدرة المواطنين العرب على الاستفادة من فرص العمل، ومنعهم من إعادة بناء القرى المدمرة.
----------------------
تحقيق: هاجار شيزاف - ترجمة: رهام درويش






اعلان