30 - 06 - 2024

تونس لحظة رحيل السبسي: شهادة على ملابسات الوفاة وانتقال السلطة وكواليس القصر

تونس لحظة رحيل السبسي: شهادة على ملابسات الوفاة وانتقال السلطة وكواليس القصر

جنازة الوداع وإشارات على أبواب الانتخابات العامة الثانية ونضج سياسي ملهم يجمع التناقضات

يطارد الصحفيون الأحداث، لكنها احيانا تلاحقهم وتطاردهم وقتما شاءت..

 وتصادف أن وصلت الى مطار قرطاج / تونس قبل ظهر يوم الخميس الماضي للمشاركة في ندوة عن الصحافة و الإعلام بعد نحو نصف ساعة من الإعلان عن وفاة "الباجي قايد السبسي" أول رئيس منتخب من الشعب مباشرة للجمهورية الثانية التونسية ( جمهورية ما بعد ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 يناير 2011 ودستور 2014) .وقد تصادف ايضا أن يرحل ـ رحمه الله ـ إلى بارئه في الذكري الثانية والستين لإعلان الجمهورية الأولى (جمهورية الاستقلال ) وطي صفحة نظام "البايات" الملكي.وكان السبسي (تجاوز عمره 92 سنة ) من بين مؤسسيها وبناتها إلى جوار الزعيم والرئيس الأول"الحبيب بورقيبة".

 ولعل انبعاثه هذا "البورقيبي المخضرم" بعد نحو عشرين عاما في الظل والنسيان تفرغ فيها لمكتب المحاماة ولحياة خاصة خلال معظم عهد الدكتاتور المخلوع "بن على" وعودته بقوة إلى قصر الحكومة بالقصبة كوزير أول في فترة حساسة اعتبارا من فبراير 2011 مهدت الطريق لانتخاب المجلس التأسيسي خلال أكتوبر من العام نفسه و تأسيسه وقيادته لحزب "حركة نداء تونس" معارضا لحكم "الترويكا" برئاسة حزب النهضة الإسلامي ثم حاكما مع تصدره نتائج الانتخابات التشريعية 2014، ليصبح ظاهرة لافتة ونادرة في عالمنا العربي، كتبت عنها من قبل في "الأهرام". كما التقيت الرجل مرتين في حوارين مطولين: الأول في القصبة فور اعلان تصدر "النهضة " لنتائج " التأسيسي ".. والأخرى في منزله بحي "سكرة " بالعاصمة قبيل الجولة الثانية من أول انتخابات رئاسة تعددية حرة في تاريخ تونس نوفمبر 2014، واعقبت حملة ومنافسة ديمقراطية شرسة مع الرئيس المؤقت حينها الدكتور"المنصف المرزوقي "، وانتهت بفوز السبسي بنسبة 55,68 في المائة مستحقة عن 1,7 مليون صوتا مع نسبة مشاركة تقارب 64 في المائة من اجمالي الناخبين المسجلين.

وهنا يتعين الانتباه إلى السلوك السياسي اللافت"للمرزوقي" حين ظل يرسل باقات الورود والتمنيات للسبسي خلال علاجه بالمستشفي العسكري في العاصمة وصولا الى مشاركته في مراسم وداعه وجنازته، وأيضا ما صرح به من كلمات طيبه تعبر عن التقدير والاحترام للرئيس الراحل، وعن أهمية ترسيخ قيم وتقاليد الديمقراطية والمؤسسية في تونس. وهكذا اصبحنا أمام "التماعة" تونسية توقف أمامها ابناء البلد الذين التقيتهم من مختلف الأطياف الثقافية والسياسية و مواطنين من مختلف الطبقات الاجتماعية، وليس خافيا حدة الاختلاف والسجال السياسي بين "المرزوقي" و"السبسي"، إذ ظل الأول ينتقد الثاني ويعتبره ممثل "القوى المضادة للثورة" في قصر الرئاسة "قرطاج".

الهدوء سيد الموقف 

شوارع وسط العاصمة بما في ذلك "الحبيب بورقيبة " الوجهة الأهم سياسيا وثقافيا وترفيهيا لعموم التونسيين والزائرين الأجانب لا تفيد بوقوع حدث بحجم رحيل رئيس دولة عربية وهو في السلطة وقبل ساعات معدودة. كان اليوم عطلة رسمية، والحركة أقل من أيام العمل، والهدوء سيد الموقف، ولا أثر لأي استنفار أمني أو حضور لقوات أمن  تفوق ما هو معتاد، وبالطبع لا دبابات ولا حواجز للجيش في الشوارع. وحتى عند مبنى الإذاعة الوطنية بحي "لافاييت" على بعد نحو الثلث ساعة على الأقدام من"الحبيب بورقيبة" ظلت الأمور كما عايشتها لنحو عام سكنت فيه أمامها بشارع الحرية، فقط شرطي وحيد على بوابة مفتوحة بأحد الأضلاع الأربعة المترامية للمبنى. هنا لا دبابات ولا مدرعات ولا جنود جيش يشهرون السلاح في وجوه المارة، وبالأصل تونس بلد نجا من رهاب "الانقلاب العسكري" و"البيان رقم 1" منذ استقلاله، باستثناء محاولة فاشلة لضباط قوميين بقيادة "الأزهر الشريطي" عام 1962، وقد تعامل معها مؤسس الدولة الوطنية الحديثة "بورقيبة " بحزم وحسم في رأي تونسيين، و بقسوة وجبروت وظلم، كما يرى آخرون من مواطنيهم.

 لكن الجيش التونسي الذي ظل بعيدا عن السياسة والبزنس والأنشطة الاقتصادية محل تقدير واسع بين مواطنيه، يؤدى مهاما غير عادية في الطوارئ والأزمات في مواجهة كوارث الطبيعة والطقس، وصولا الى المساهمة هذا الموسم الزراعي في انقاذ ونقل وتخزين محصول وفير من القمح، هو جيش لم يحكم أبدا، حيث ظل وزراء الدفاع المتعاقبون منذ الاستقلال من المدنيين، بما في ذلك الوزير الحالي "عبد الكريم الزبيدي".

صعود أسهم "الزبيدي"

تبين لي عندما انتظرت مع تونسيين على جانب طريق موكب جثمان الفقيد الكبير ظهر السبت 27 يوليو في حرارة صيف قائظ  ثم رافقتهم في مسيرة شعبية من ميدان (14 جانفي / يناير) بالحبيب بورقيبة الى مقبرة "الجلاز" حيث تم دفن الرئيس الراحل أن "الزبيدي" اكتسب شعبية لافته ومفاجئة عند عدد من التونسيين، وهي شعبية  تدفعهم الى توقع ترشيحه لانتخابات الرئاسة وتمنحه حظوظا للفوز، لكنها في النهاية حظوظ غير مؤكدة في حال أقدم الرجل على الترشح، وعلى خلاف ما هو معروف عنه من ضعف الطموح السياسي والعطش للسلطة، إلا ان ترشحه ـ لو أقدم وفعل ـ سيصبح بمثابة "الورقة المفاجأة"، ومع هذا فمن السابق لأوانه التحدث عنه بوصفه "الحصان الأسود"، فخريطة المرشحين للرئاسة لم تتضح بعد، ويكتنفها الغموض إلي حينه، هذا حتى مع إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الآن الاضطرار لتقديم موعد الرئاسية إلى 15 سبتمبر بدلا من17  نوفمبر وكي تسبق التشريعية المقرر لها 6 أكتوبر.

"وعبد الكريم الزبيدي" بالأصل طبيب واستاذ جامعي وينطبق  عليه وصف "التكنوقراط" إلى حد كبير، حيث جاء إلى عضوية حكومة يوسف الشاهد بدون ظهير حزبي معلن أو خلفيات سياسية واضحة. ولكن كان هو آخر من ظهرت صوره مع الرئيس السبسي قبل أن يعود الى المستشفى ليتوفى بحلول 25 يوليو الجاري، وما جرى أن أخبار الرئيس الفقيد انقطعت لنحو ثلاثة أسابيع وسط غموض عن تطورات حالته الصحية، وحول مدى قدرته بالضبط على أداء مهام الرئاسة. وهي حالة اتصاليه اعلامية سلبية يراها تونسيون بين نخبة البلاد لا تتناسب مع دولة ديمقراطية، أو على الأقل تتقدم محيطها العربي باتجاه الديمقراطية والحداثة واللحاق بأوروبا.

ضباب فوق المسرح السياسي

هذا الغموض سمح بطفو الشائعات بين حين  وآخر ـ وحتى بعد الوفاة ـ عن حقيقة ما جرى في قصر قرطاج، وهل الرئيس المريض المسن في آخر أيامه كان رهينة أفراد من عائلته وشخصيات نافذة طامحة؟. بل ويقال أن بعضها متورط في افساد الحياة الحزبية والسياسية؟. حقا ثمة غموض هنا لا يتناسب مع دولة ديمقراطية تقوم على المؤسسات، لا على حكم الفرد والمقربين منه، غموض أعاد لقطاع لايستهان به من الرأي العام التونسي ذكرى السنوات الأخيرة الصعبة لبورقيبة المسن المريض في قصر قرطاج.

ويصعب على المتابع عن كثب لتونس ما بعد الثورة أن يجزم بما كان عليه حال صناعة القرار في قصر قرطاج اعتبارا من مطلع يوليو الجاري، حين جرى الإعلان عن تجاوز السبسي وعكته الصحية الثانية وقبل وعكة الوفاة. فقط استمعت وأنا بتونس إلى رواية مصدر موثوق مطلع بالإذاعة الوطنية المملوكة للدولة قال ان مذيعة سجلت حوارا مع رئيس حزب النهضة "راشد الغنوشي" أبلغها خلاله بأنه اتصل بالهاتف الخاص للرئيس "السبسي" للاطمئنان وللمباركة بخروجه من المستشفي، فعلم بأن هذا الهاتف لم يعد معه.

وتفيد الرواية ذاتها أن صوت الرئيس بدا واهنا مع مكالمة مقتضبة شاكرة جاءت للغنوشي لاحقا وبعد أيام، ولكن من خلال اتصال بواسطة هاتف يخص أحد كبار موظفي القصر. ويبدو أن الجمهورالتونسي لن يقدر له أن يعلم بهذه الرواية على الفور، وهذا نظرا لمنع بث الحوار التزاما بقرار من الإذاعة الوطنية ببدء فرض حظر على المرشحين للانتخابات المقبلة. علما بأن "الغنوشي" يترشح على رأس قائمة تونس 1 بالعاصمة في الانتخابات البرلمانية.

وحمدا لله أن الغموض حول قدرة السبسي على الاضطلاع بمهام الرئاسة في قرطاج لم يستمر إلا أياما معدودات، وإن ألقي بظلال شك إزاء عدم تصديق الرئيس "السبسي" على تعديلات البرلمان على القانون الانتخابي، وهي تعديلات كان من شأنها أن تقطع الطريق على ترشح أصحاب المال السياسي الذين يستثمرون في القنوات التلفزيونية والأنشطة الخيرية تأهبا للمنافسة على الانتخابات التشريعية والرئاسية ونحن على أعتابها بحلول خريف هذا العام، وقد يسفر عدم ختم القانون ونشره في جريدة "الرائد التونسي الرسمي" عن فتح الباب أمام "نبيل القروي" صاحب قناة "نسمة" الملقب بـ "برلسكوني تونس" لخوض الانتخابات التشريعية بحزب جديد يحمل اسم "قلب تونس"، وكذا الرئاسية استغلالا لبرنامج معونات انسانية خيرية للفقراء باسم نجله المتوفي في حادث سيارة "خليل"، هذا إذا لم تحمل التحقيقات القضائية الجارية حاليا  مع "القروي" في اتهامات بالتهرب الضريبي وتبييض الأموال جديدا يؤثر على قرار الرجل والحزب خوض الانتخابات، حيث منحته آخر استطلاعات الرأي المرتبة الأولى في الرئاسية ومنحت حزبه الوليد المرتبة الثانية في البرلمانية بعد حزب "حركة النهضة "،علما بأن "النهضة " تعد الحزب الأكثر تماسكا في الساحة السياسة بعد الثورة وإن اتجهت شعبيتها إلى  الانحسار استحقاقا انتخابيا تلو آخر، مع هذا فمن المرجح أن تظل عاملا مشتركا في الحكومات المقبلة ورقما صعبا يصعب تجاهله وفق صيغة "التوافق" وتجنب "الاقصاء" التي شارك الرئيس الراحل "السبسي" في هندستها مع "الغنوشي" بباريس صيف 2013 برعاية أوروبية.

وفي هذا السياق يتعين الاشارة الى الصلة الوثيقة التي ربطت "القروي" بالرئيس السبسي ونجله "حافظ"، والذي دخل بدوره إلى السياسة متأخرا من خلال قيادة حزب نداء تونس بعد والده، وقد عاينت بنفسي في بيت "الباجي" نوفمبر 2014 الحضور المميز والطاغي لنبيل القروي، وهذا مع ما بات معلوما  في تونس بشأن دوره في صعود "النداء" والترويج له عبر "نسمة" قبل أن يستقيل في إبريل 2017 من الحزب، ويقفز من سفينته التي أعطبتها الانشقاقات المتعددة. والمرجح في هذا السياق أن رحيل "السبسي" واختفائه من القصر الرئاسي والحياة السياسية قد يعني "الفصل الأخير" في "التراجيديا الهزلية" لحافظ السبسي كسياسي دخل  بالأصل إلى المسرح وهو غير مؤهل ويفتقد قدرات والده في الزعامة وحنكته كرجل دولة وإمكاناته الاتصالية مع الجمهور ووسائل الإعلام، وبالتالي إضعاف وزن "نبيل القروي" نفسه على مسرح السياسة مستقبلا. 

وكانت الأيام القليلة السابقة على رحيل الرئيس "السبسي" قد شهدت مؤشرات على تحالف وثيق يتشكل بين "القروي" و "حافظ الابن"، وقد انتهى الحال بالثاني بعد الانشقاق الأخير الذي قاده رئيس الكتلة البرلمانية لحزب نداء تونس "سفيان طوبال"على هامش أول مؤتمر عام للحزب إبريل الماضي إلى الامساك بصعوبة بما تبقي من الحزب (نحو 12 من اجمالي 36 نائبا لكتلة الحزب، وبعدما تدهور ترتيبها في البرلمان من الأولى 86 من اجمالي 217 نائبا مع انتخابات 2014 إلى الثالثة بعد النهضة التي حلت أولا بـ 68 نائبا والكتلة الثانية بالبرلمان لحزب الشاهد الجديد كتلة الائتلاف الوطني لتحيا تونس 45 مقعدا).

ولعل خلاصة المشهد السياسي بتونس لحظة رحيل السبسي أن خريطة المتنافسين لانتخابات عامة باتت على الأبواب لم تتضح تماما بعد، ثمة ضباب كثيف يحجب الرؤية الواضحة، والملعب مفتوح على مفاجآت، وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن الدستور الجديد يمنح البلاد نظاما مختلطا بين البرلماني والرئاسي مع ميل لتقليص سلطات الرئيس في الشئون الداخلية وتمييزه بتصريف وقيادة السياسة الخارجية وشئون الأمن القومي للبلاد.

ويتعين أن نلاحظ هنا أن الرئيس "السبسي" أمضى نحو ثلاث سنوات ونصف من فترة حكمه البالغة أربع سنوات ونصف من عهدة دستورية مدتها خمس سنوات وقد تجاوزت شخصيته الكارزمية وقدراته كسياسي محنك ورجل دولة من طراز رفيع عبر من الجمهورية الأولى (البورقيبية) الى الثانية فعليا، وفي الممارسة حدود صلاحيات الرئاسة في  الدستور الجديد، ولكن هناك شواهد على انحسار هذا الدور "فوق الدستوري" مع تفجر الخلاف صيف 2018 وبعد الانتخابات البلدية بينه وبين رئيس الحكومة "الشاهد" وانحيازه لنجله "حافظ"، وقد تبدت منذئذ في العديد من الممارسات والمناسبات قوة وعلوية البرلمان ومنصب رئيس الحكومة في النظام الجديد بعد الثورة، وذلك بعدما خرج "الشاهد" من عباءة صانعه "الباجي قائد السبسي" من كان يوصف بـ "أبيه بالتبنى".

ولذا فإنه من المستبعد ما يذهب اليه بعض المراقبين من تزايد فرص تعزيز قوة رئيس الدولة وسلطاته ونفوذه إزاء البرلمان والحكومة ورئاستها جراء ما تسبب فيه رحيل الرئيس السبسي من تعجيل بالانتخابات الرئاسية في غضون أقل من 90 يوما ولتصبح قبل التشريعية بحكم الضرورة المنصوص عليها في الدستور.

و اللافت أن ست ساعات فقط فصلت بين الإعلان ظهيرة الخميس 25 يوليو والمساء مع قيام رئيس البرلمان "محمد الناصر" بحلف اليمين كرئيس مؤقت كانت كفيلة بالاطمئنان على المؤسسات والمؤسسية، ويبدو أن دولة تونس ما بعد الثورة استطاعت أن تؤمن خلال هذا المدى الزمني الوجيز انتقالا سلسا وسريعا للسلطة، بمقتضي الدستور، وأيضا بتأويل محمود حين جرى ضمان سلامة الإجراءات بعرضها على الهيئة الوقتية لمراجعة دستورية القوانين. 

كما جرى إبداع مخرج بحلف الرئيس المؤقت اليمين الدستورية أمام رؤساء الكتل البرلمانية، وهذا للتغلب على مأزق تقاعس البرلمان ولأكثر من خمس سنوات عن انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية المنصوص عليها للمرة الأولى في تاريخ البلاد، وبمقتضى دستور يناير2014. علما بأن هذه المحكمة التي لم تتأسس بعد حاضرة بقوة في نصوص انتقال السلطة الرئاسية في حالتي "الشغور النهائي أو المؤقت" ( المادتان 84 و 85 من الدستور ).

جنازتان أم واحدة  و"نوستالوجي" الشعوب 

بالنسبة للشعب التونسي ليس هذا وحسب هو أول وداع لرئيس جمهورية، وهو في السلطة. بل وربما الأهم أن جنازة "السبسي" جاءت بمثابة تعويض تاريخي تأخر 19 عاما، هو تعويض محمل بالحنين للماضي (نوستالجي)، نظرا لحرمان الشعب من وداع الزعيم الوطني ومؤسس الجمهورية "بورقيبة" في أبريل 2000، حينها فرض الدكتاتور الرئيس "زين العابدين بن على" ـ الذي اطاح بـ " الحبيب " في انقلاب أبيض 7 نوفمبر 1987 ـ تعتيما وتقييدا على نبأ الوفاة وعلى مراسم الدفن، والذي جري في مسقط رأس الزعيم بالمنستير بعيدا عن العاصمة تونس، وقد بقي "بورقيبة" قبلها رهن الاحتجاز والاقامة الجبرية والعزلة لنحو 13 عاما، وسعى خلالها " بن على " إلى محو ذكراه ومطاردة صوره حتى من داخل الحوانيت بمدينته.

 مع رحيل "السبسي" استمعت إلى ألحان من "النوستالجيا" من مواطنين انتظروا لساعات تحت حمأة شمس الصيف و40 درجة مئوية مرور موكب الجنازة لساعات، من عاصروا ووعوا برحيل "بورقيبة" ذكروا لي كيف أن التلفزيون الرسمي أخذ يبث شرائط رسوم متحركة وللحيوانات فيما جرى منع الناس من وداعه أو المشاركة في جنازته. وكنت قد  قرأت كتاب مذكرات صدر بعد الثورة لوالي المنستير حينها "محمد الحبيب براهم" بعنوان "بورقيبة خارج زمن الحكم" ، وقد أقر بمعاناة الزعيم مؤسس دولة الاستقلال في الاقامة الجبرية بقصر "صقانس" خارج المدينة وبفرض  التعتيم على وفاته ووداعه. 

 بانتظار مرور جثمان الرئيس "السبسي" بقلب العاصمة تونس وفي نحو الواحدة ظهرا، قالت لي "لمياء الجزيري" ـ وهي سيدة خمسينية من أحد أحياء العاصمة البورجوازية البعيدة ـ أنها  جاءت منذ العاشرة صباحا، وأنها على استعداد لانتظار موكب الوداع عشر ساعات أخرى، وأضافت :" جئت لأودع رئيسا .. أول مرة أتمكن من وداع رئيس لبلدي .. عشنا حسرة أننا لم نودع بورقيبة هنا في العاصمة.. وسمعت حينها عن أناس تنكروا لإخفاء هوياتهم وسافروا الى المنستير أملا في وداعه"،"لمياء" ليست عضوا في أي من أحزاب ما بعد الثورة التي تجاوز عددها المائتين، كما أنها لم تنضم إلى الحزب الذي أسسه السبسي "النداء"، لكنها صوتت لصالح "السبسي" وحزبه في خريف 2014 مع علمها بتقدم عمره. قالت :"كانت البلد في وضع حرج عام 2013 مع اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي (قائدان يساريان مناهضان للنهضة والإسلاميين) .. وجدناه  امتدادا لبورقيبة واستكمالا لمشروعه الحداثي.. وكذا عرفناه بعد الثورة منقذا للدولة الوطنية". 

وضعت " لمياء" يدها على وتر معزوفة كراهية ورفض السبسي للإقصاء لتعلل مبادرته واصراره على مشروع المصالحة مع رجال "بن على" في البزنيس والإدارة، وكي تبرر أيضا الامتناع عن توقيع  واصدار تعديلات قانون الانتخابات مؤخرا، قالت:"فعل هذا لأنه لم يكن يحب الاقصاء.. وليس لأنه مع نبيل القروي". أسألها فتبلغني بأنها عازمة على الذهاب إلى الانتخابات المقبلة رئاسية وتشريعية، لكنها كغالبية من تحدثت معهم في هذه اللحظة التاريخية لتونس لا تعرف لمن ستمنح صوتها بعد؟ . 

وللمفارقة فهناك العديد ممن جاءوا انتظارا لوداع "السبسي" مع انهم لم يصوتوا له.. لا مع الجولة الأولى أو الثانية في رئاسية 2014، بلحسن الحسني (38 سنة ) أبلغني أنه كان من مناصري منافسه "المرزوقي"، وأضاف :"ومع هذا علينا أن نحترم أن الرئيس السبسي جاء بانتخابات حرة نزيهة، نختلف معه وفي إطار الاحترام، لكن الحقيقة الأهم أنه وصل عبر صندوق نزيه، ولم يأت بتسعين في المائة أو أكثر أو أقل قليلا. والسبسي نفسه قبل أشهر قال إنه لن يترشح لفترة ثانية يسمح بها الدستور". وزاد على هذا قوله:"نفخر بما أصبحنا نتمتع به من حرية تعبير، وبأن تونس أصبحت دولة مؤسسات وأنهت عهد سياسة الفرد الواحد. ولا أرى أننا سنرجع إليها وإلا لعدنا عبيدا.. مات رجال في تونس من أجل هذه الحرية".

"لمياء" و "بلحسن" من الطبقة الوسطى ويعملان كموظفين في جهاز الدولة، أما "ربيعة عاشور" المرأة التي جاءت تتنظر وداع الرئيس "السبسي" من أحد الأحياء الشعبية وكربة منزل كان عمرها تسع سنوات عندما مات "بورقيبة ". تقول لي:"هبطنا (جئنا) جنازتين لا جنازة واحدة.. بورقيبة والسبسي معا"، وتضيف:"بورقيبة كان مع المرأة وكذا السبسي.. مليون امرأة أعطت الباجي أصواتها". وهي ترى بأن "الزبيدي" من المدرسة البورقيبية ذاتها. وهذا مع ما هو معلوم للمراقب للشأن التونسي بأن الرجل لم يكن أبدا إلى جوار الزعيم المؤسس لدولة الاستقلال. 

تونس التي تتغير وتخوض المعركة الصعبة الطويلة للانتقال إلى الديمقراطية والحداثة واللحاق بالعصر مشدودة أيضا إلى الماضي على هذا النحو. لم تسمح السلطات التونسية لبنات وأبناء الشعب الذين وصلوا في مسيرة على مشارف مقبرة "الجلاز" لوداع السبسي بالدخول، حالت قوات الجيش والأمن بينهم وبين مرافقة دفن "بجبوج"، وبدا لي وكأن المزاج الشعبي هنا وفي اللحظة معتدلا، وبلا مبالغات في أعراض ومظاهر الحزن. وهذا مع كل هذا الحنين إلى "بورقيبة" و"عقدة" الحرمان من وداع "الزعيم" على هذا النحو. وعندما خرج ضباط وجنود من الجيش لركوب حافلات تعيدهم إلى الثكنات استقبلهم الجمهور المتشبث بالمكان قرب المقبرة بعاصفة حب وحفاوة، تتغلب على كل اعتدال أبدوه مع الانتظار المديد تحت شمس لاهبة.

***

 تونس لمن لم يعيشها تتعايش أوجهها العربية والإسلامية والأوروبية والأفريقية، وهذا على ما يبدو من تصادم بين "حداثيين علمانيين" و "إسلاميين محافظين". ولذا لم يكن من المستغرب أن تنبعث من مكبرات الصوت بالمساجد تراتيل القرآن الكريم في وداع "الباجي" الذي درس في "الصادقية" منارة التعليم المدني العلماني والحقوق والقانون في باريس، وهو من دعا إلى إقرار الحريات الفردية المنصوص عليها في الدستور الجديد وسن تشريع يسمح بالمساواة في الميراث بين المرأة والرجل في حال عدم إصرار المورث على إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين. لكن لا يبدو أن هذا القانون سيري النور قبل انتهاء ولاية البرلمان الحالي، وهو "الباجي" نفسه الذي يبهرك بحفظ واستدعاء آيات القرآن وأبيات الشعر العربي القديم. وهي بدورها وبالأصل تونس الحداثية العلمانية ذاتها التي تحتفظ إلى اليوم بنظام قوي متماسك لتحفيظ القرآن في الكتاتيب للأطفال. 

تونس نفسها خرجت أبرز صحفها اليومية غداة وفاة الرئيس "السبسي" لتتحدث عن البلد "الاستثناء" في محيطه العربي من حيث بناء الديمقراطية والمؤسسية.لكنها هي الصحف ذاتها التي تسربت الي أكثرها رصانة وتقدمية (المغرب) تعبيرات فقدان "الأب"و"الأبوية" في وداع أول رئيس منتخب ديمقراطيا وعلى نحو مباشر، وأيضا في وداع "رئيس الدولة" محدود السلطات والصلاحيات مقارنة بما كان قبل الثورة، وكذا المحددة ولايته بمقتضى الدستور الجديد بمدتين اثنتين كل منهما خمس سنوات.. لا أكثر.

وهكذا هي تونس اليوم لحظة وداع رئيسها الباجي قايد السبسي، رجل الدولة الذي امتدحته معظم وسائل الإعلام والصحف هنا كثيرا قبل وفور توليه. ثم عادت واستباحته نقدا، وهذا إلى حد أن الزميلة الصحفية المخضرمة "آسيا العتروس" نشرت في جريدة"الصباح" 27 يوليو الجاري متفهمة حسرة وألم "فراس غفراش" مستشار الرئيس الراحل حين كتب في تدوينه أنه كان يبحث كل صباح بصعوبة في الصحف عن مقال ايجابي إزاء السبسي وهو في الرئاسة ليطلعه عليه. وقد أضافت "آسيا":"كان الباجي يحصد يوميا من الانتقادات واللوم والتجريح الكثير. وهو الذي تعرض للانتقادات بعد كل ظهور إعلامي له أو بعد قرار أو موقف يصدر عنه. والآن انقلبت الآية بعد إعلان وفاته وسالت الأقلام لتستعرض مناقب وخصال الرجل، وكأننا جميعا نكتشفه فجأة بعد الرحيل".واختتمت قائلة :" لا نخال الرئيس الراحل كان يحتاج لعناوين المدح والإطناب، ولا نخاله كان يستاء من كل الانتقادات التي كانت تستهدفه بعد أن اقتنع بدور الإعلام الجديد في بلد يتنفس حرية".

..

هكذا تبدو ملامح الديمقراطية تشق الطريق بصعوبة من رحم الاستبداد والتخلف مصارعة مواريث الماضي. ولعلها تمارين على الحرية. وهي حال عكسها أن يمتدح الجميع "سيادة الرئيس" دون فرصه لنقد أو لمعلومة صحيحة تجد طريقها للنشر، ثم سرعان ما ينقلب المداحون المنافقون أنفسهم إلى "شيطنته" ونعته بكل مذمة عندما يرحل أو يبتعد عن كرسي الرئاسة. 
-------------------

رسالة تونس "للمشهد": كارم يحيى
مؤلف كتب "نظرتان علي تونس من الدكتاتورية الي الديمقراطية " من القاهرة وصفاقس 2011 و" سيدي بوزيد: حكاية ثورة يرويها اهلها" من القاهرة 2011 و "الديمقراطية الصعية:رؤية مصرية للانتقال التونسي" من تونس  2016 و " الاعلام في تونس بعد الثورة: رؤية مراسل من مصر حول مصادر العمل الصحفي " من تونس 2019. عمل مراسلا 

للاهرام بتونس بين نوفمبر 2016 الي اغسطس 2018.
--------------------
الموضوع منشور بالعدد الأسبوعي - اليوم مع الباعة








اعلان