19 - 04 - 2024

مذكرات ممنوعة!

مذكرات ممنوعة!

يبدو أنه لا يكفي أن تكون رئيساً، وشريفاً، إذا فشلت في أن تنزع الحشائش الضارة التي تحيط بسلطتك، فأنها سوف تسقطك، حتي بعد انتهاء ولايتك ..!!

هكذا وجد عبد الناصر نفسه بعد وفاته هدفاً لسهام مسمومة صوبت إلي كل سيرته وسياساته، وربما اكتشف عند الرفيق الأعلي أن ثورته كانت بيضاء أكثر مما ينبغي، وأنه لم ينتبه للنمو الفاحش لتلك الحشائش الضارة التي صارت غابات بعد وفاته، خاصة وأن خلفه كان يرويها بحرص وسعادة وهو يردد آسفا علي سلفه : " الله يرحمه " بينما يخفي ضحكته في كمه ..

إلا أن السادات الذي كان أشد لؤماً وخبثاً من سلفه، ورغم أنه انقض علي من أسماهم "مراكز القوة" وتغذي بهم قبل أن يتعشوا به كما يقول المثل الدارج، فأنه بدوره أتاح لأعشاب ضارة أخري أن تنمو وتنتشر، ومنذ بداية سياسة الإنفتاح عام 1974، تحولت تلك الأعشاب إلي أشجار من الفساد والمحسوبية، تظلل علي نظام فاسد متعفن انهارت فيه كل القيم والمبادئ ..

وهكذا أيضاً  تم اغتيال السادات ببعض بذور نظامه الفاسد حين سلط جزءا من شعبه علي الجزء الآخر، ولا بد أنه كان سعيداً منتشياً بذكائه يقهقه بين كبار مستشاريه من الفاسدين، بينما رجاله يوزعون الأسلحة البيضاء علي شباب الجماعات الإسلامية في الجامعات، كي يضربوا زملاءهم من الناصريين واليساريين والليبراليين.

وبموت السادات، خرجت نفس الأعشاب الطفيلية المتسلقة لجدران أي نظام، كي تذبح سيرة السادات وتنفي عنه أي فضيلة، بينما يتسللون إلي مخدع الرئيس الجديد البريء ، ولم يجد مبارك ما يجيب به الصحفيين في أول مؤتمر صحفي له بعد توليه منصبه عام 1981 سوي أنه لا يطمح في السلطة، وتكفيه فترة رئاسية واحدة، وأن الكفن ليس له جيوب .. إلا أن سدنة السلطان المنتشرين في أقبية الفساد المظلمة، نجحوا في التسلل إليه كي يقنعوه أنه "قدر الأمة" و "ملهمها" و "منقذها"، وأن مصر بدونه تضيع وأن سقف ولايته حكم إلهي وليس نصاً دستورياً، وأحاطوا به في قاعات المؤتمرات المخملية يصفقون ويرقصون ويدقون علي الدفوف بأغنيته الأثيرة: "اخترناك"! ..

ما أسرعهم في غسل أياديهم منه في يوم 12 فبراير 2011، أي اليوم التالي مباشرة لتنازله عن السلطة.. نفس الوجوه، نفس الأقلام، نفس الألسنة.. وفي عصر الذاكرة الإليكترونية سيكون من الصعب عليهم أن ينفوا مواقفهم السابقة.. أنهم حملة المباخر والطبول والمزامير لكل نظام.. هم السلطة الحقيقية التي تتمتع بمزايا الحكم، بينما يتركون الرئيس وحيداً في الواجهة مثل تبة ضرب النار، يتحمل وحده خطاياهم وآثامهم ...

ويبدو أن غريزة الإنتقام لدي تلك الطبقة العفنة بلا حدود، ولعلنا لاحظنا أولئك الذين خرجوا من كهوفهم التي تواروا فيها كي ينقضوا علي عبد الناصر بعد وفاته، وظل بعضهم حتي الآن يهاجم سيرته وكأنها شبح يؤرقه ويخشي عودته. 

نعم .. أن هؤلاء الأفاقين يخشون عودة سياسات تكشف أباطيلهم وفسادهم، ولذلك فأنهم يحاولون دائماً التنقيب عن أي سلبيات لعبد الناصر وخاصة في سياسته المتعلقة بالعدالة الإجتماعية كي يثبتوا للنظام الجديد عدم جدوي هذه السياسة، ولا بأس أن يصرخوا متألمين من غياب الديمقراطية في عهده، رغم أنهم يروجون دائماً  لحكم ديكتاتوري إستبدادي بحجج مختلفة، وفي الواقع كانوا يدفعون السلطة إلي انتهاك الحريات وحقوق الإنسان كي تظل بوصلة الغضب بعيدة عنهم وعن ما نهبوه من مقدرات هذا الشعب، وأن يدفع الحاكم وحده فاتورة فسادهم.

من المهم أن أؤكد أن تلك ليست أمراضاً ننفرد بها دون خلق الله، وهناك أمثلة كثيرة لحكام عدول ممتازين تعرضوا لبعض من هذا، ولقد رأيت وقرأت الكثير من ذلك أثناء خدمتي في أمريكا اللاتينية ودراسة أوضاعها عن قرب، ولا زلت أتذكر لقائي في منتصف الثمانينيات كرئيس للرابطة الدبلوماسية في الإكوادور مع رئيس الإكوادور الأسبق د . أورتادوا، لقد سجلت أغلب الحديث، ولا زلت أتذكر تعليقه علي حماسي للديمقراطية الوليدة في الإكوادور، فقد قال وهو يهز رأسه في أسي: " التجربة الديمقراطية اللاتينية لا تزال في غرفة الإنعاش "، ورغم إندهاشي مما قاله، إلا أن الأيام أثبتت صحة قراءته للأوضاع في القارة ..

ولقد لفت نظري تصريح لرئيس الأوروجواي السابق أثناء زيارة له في الأرجنتين عام 2016 حين قال معلقاً علي الإتهامات التي يواجهها رئيس البرازيل السابق لولا دي سيلفا بأنهم "يريدون عقابه علي شرفه"! ..

لقد انتهت الولاية الثانية للرئيس البرازيلي دي سيلفا في عام 2011، ورفض بشدة النداءات التي كانت ترجوه أن يتم تعديل الدستور كي يظل في الحكم، بعد المعجزة التي تحققت علي يديه في البرازيل حيث نجح بالفعل في القضاء علي الفقر، ونهض بإقتصاد البرازيل حتي صارت في مصاف الدول العظمي، ولا يمكن لأحد أن ينكر الدور الكبير الذي لعبه الرجل.. ومع ذلك .. وربما بسبب ذلك، تم القبض عليه مؤخراً بتهمة الفساد وغسيل الأموال مع شركة بتروبراس.

لقد اختبأت قوي اليمين العفنة وانتظرت الفرصة المواتية كي تقفز من مخابئها كي تنقض علي الرجل، رغم أنه صار خارج السلطة تماماً، والهجوم عليه اليوم ليس تنفيساً فقط لرغبة الإنتقام منه، وإنما لتخويف الشعب من أن يفكر مرة أخري في إعادة تجربة اليسار في حكم البرازيل، والواقع أن المسألة تتجاوز البرازيل حيث أن هناك حكومات يسارية ناجحة في كل من الإكوادور وبوليفيا وفنزويلا، ومن المهم لأباطرة الفساد القضاء علي هذه الظاهرة.

لذلك، فإن الفريضة الغائبة لإنقاذ المجتمعات من تغول تلك الحشائش الضارة هي فريضة إقتلاعها من جذورها بلا رحمة ولا شفقة وتنظيف سلطة الحكم من سمومها.
------------------------
بقلم السفير / معصوم مرزوق*
*مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان