01 - 11 - 2024

زهايمر!

زهايمر!

هل يمكن أن نضيف شيئاً ؟ .. فتح ، حماس ، فتح الإسلام .. يسار ، يمين .. ديمقراطية ، عسكرتارية ، أوتوقراطية ، بيروقرطية ، ديكتاتورية ، ثيوقراطية ، ليبرالية ... الشرق الأوسط جرب كل شيء ، أو تم تجريب كل شيئ فيه ، لقرون هو مفعول به ، لم يكن أبداً فاعلاً ، غاب عنه الفعل ، واستمرأ البقاء في خانة المفعول به ، الضحية ، الشاكي ، الحزين الباكي ...

هل يمكن لهذا الجيل الذي شاب وشابت أفكاره أن يضيف جديداً ؟ .. هل يسمح " الزهايمر " لتلك العقول المخصية أن تضيف خصوبة أو تنجب أفكاراً ؟ .. يجوز .. نعم يمكن ، إذا شاب الغراب وباض الديك ، وتغير الشرق الأوسط أو انقلب رأساً علي عقب ...

غناء صار غثاء ، أدب صار " قلة أدب " ، وزمن " الباشوات الجدد " يضيف تقاليده وأخلاقياته التي لا أجد وصفاً لها ، أو بالأحري وصفاً يليق بهم وبزمنهم ولا يخدش الحياء العام .. أتذكر قصيدة لنجيب سرور كان عنوانها " أولاد ... " ! ، وأترك للقارئ البحث عن هذه القصيدة كي يعرف عنوان الزمن الذي أعنيه ..

الحب العذري صار من الكائنات المهددة بالإنقراض أو انقرضت بالفعل .. أين " ثومة " وهي تغرد بأجمل الكلمات ، وأعذب الألحان ؟ .. أين " حليم " وهو يتسلل إلي أمسياتنا ببهجة الحب ولوعة الفراق ؟ .. أين المعاني ؟ .. لقد سبق وكتبت في مقال :"لقد أنتحرت المعاني " ، ولم أفهم بالضبط ما الذي أعنيه ، أو ربما نسيت بسبب " الزهايمر " الذي عشعش في الرأس والذاكرة .. 

ليت الناس تتعلم من الأفيال ؟! .. عندما يشيخ فيل ، فأنه يعتزل القطيع ، ويتخذ مكاناً قصياً ومعه أقرانه من شيوخ الأفيال ، يدركون بالفطرة أنه لم يعد لهم نفع ، بل أصبحوا عبئاً علي باقي القطيع ، حركتهم ثقيلة ، وأبصارهم كليلة ، وأسماعهم عليلة .. يعتزلون في شمم وكبرياء قبل أن يدوسهم باقي القطيع ، ويموتون بكرامة وإباء ...

سنة الحياة هي التغيير ، وشرقنا العزيز يري رأياً مخالفاً ، فهو يري أن التغيير مخاطرة غير مأمونة العواقب ، و " اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش " ، ولذا فأن نظرة لأسطح منازل القاهرة مثلاً ، ثريها وفقيرها ، تعطي مثالاً واضحاً لما أقول ، فالأسطح مكتظة بأشياء لا فائدة لها ، مجرد " كراكيب " ، بقايا أثاث محطم ، زجاجات مختلفة الأشكال والألوان ، سلال ، جرائد قديمة ، والكثير من القاذورات ... كراكيب نحتفظ بها رغم ثقتنا في إنعدام جدواها ، ولكن .. من يدري ؟ ، فلعل هناك فائدة في هذه الزجاجة المكسورة ، أو في هذه المرآة التي لم تعد تعكس شيئاً سوي الصدأ ... كراكيب ذات رائحة كريهة ، ومع ذلك فأن الناس تصعد إلي الأسطح في ليالي الصيف كي تشم هواءها الملوث ...

الحكمة .. نعم .. الحكمة ضالة المؤمن .. إلا أن الحماس المتدفق مطلوب أيضاً ، بل وفي هذا الزمن علي وجه الخصوص ، نحن في حاجة لقدر من التهور والجرأة ، من إقتحام غير المألوف ، واستشراف وجه جديد لحياتنا ، وجه حقيقي يرفض كل هذه الأقنعة المزيفة التي نرتديها ، نحتاج لبعض الغضب كي نكسر رتابة أخلاق القطيع وخضوع الخراف ...

نحتاج جيلاً جديداً يعتبر العلم أكثر من مجرد درجة إجتماعية أو وظيفية ، وإنما أسلوب ومنهج لتغيير الحياة ، نريد جيلاً جديداً يرفض الخنوع لإملاءات الواقع ، ينقذنا من تبلدنا ، وأوهامنا التي اختطفت أعمارنا جيلاً بعد جيل ، ومن دروشة حملة المباخر الذين سرقوا منا أحلامنا وأيامنا ومستقبلنا ... نحتاج جيلاً لا يساوم في الحق ، لا يتراجع عن مواجهة التحديات ، يشطب سيرة الهوان ، سيرتنا ، ويرفض حكمتنا .. حكمة العجز ...

كتبت مئات المقالات تحت عنوان : " كلام في السياسة "  خلال العشرين عاماً الماضية .. أشعر الآن أن كل ما كتبته لم يكن سوي " إسطوانة مشروخة " ، تعيد وتكرر نفس النغمة البائسة ، تحاول أن تقترب زاحفة فوق السطور إلي صيغة الخلاص ، لكنها مجرد كلمات .. كلمات ميتة فوق صفحات مظلمة لا تجد نوراً ولا تشعل ناراً .. بعد كل هذا العمر ، ماذا تبقي ؟ .. الزهايمر .. ليس سواه يتسلل إلي ما تبقي من خلايا الذاكرة ، وشعور حاد بالعجز والعقم .. الزهايمر ينسكب بحبره الأسود حتي علي أكثر لحظات العمر تألقاً وإشراقاً ، يطمس لحظة العبور الخافقة ، يسكت نبضات القلب حين ارتفع العلم فوق التلال الأسيرة ، بل ويمسح كل سطور كانت حبلي بوهج الحب والرغبة في الحياة ...

ربما هي نعمة مستترة .. الزهايمر أيضاً يخفي زمناً من الهوان والإنكسار ، لحظة النكسة حين انفطر القلب الصبي علي حقيقة الهزيمة ، وحين رفرف العلم ذو النجمة السداسية الزرقاء أمام عيوننا علي الشاطئ الآخر ، بل وحين انغرس في قلوبنا حزناً وذلاً مقيماً .. أختفت أيضاً تلك الأحلام الملونة ، وتلاشت الآمال .. هي نعمة بلا جدال أن يصبح الإنسان جماداً بلا تاريخ أو مستقبل ، مجرد حجر علي طريق تدوسه الأقدام ...

الزهايمر يختزل كل ما يمكن أن يقال في " كلام السياسة "، والباقي مجرد تفاصيل مكررة ، المشهد يشبه شجرة عجوز ضرب السوس جذورها ، ولم يبق سوي مشهد سقوطها المهيب ، في العراق يقتل العراقي عراقياً ، وفي لبنان يقتل اللبناني لبنانياً ، وفي فلسطين .. فلسطين التي كانت .. يقتل الفلسطيني فلسطينياً .. في السودان ، والجزائر ، وفي كل مكان ينطق بالعربية .. حالة مخيفة من الزهايمر مسحت العقل كله ، ولم يتبق سوي الغرائز الحيوانية البهيمية ، شاخ العقل أو تجمد أو مات ، أصبحنا أمة تنتحر ...

سألني مسؤول كبير إفريقي كان أحد قادة التحرر في بلاده، قال : هل تفسر لي كيف توجهت البندقية الفلسطينية إلي الصدر الفلسطيني ؟ ، قلت له ببساطة : التفسير الوحيد هو الرغبة في الإنتحار .. فالإنسان اليائس الذي لا يجد بصيصاً للأمل قد يقطع شريان يده كي يتخلص من حياة لا وجود لها أصلاً .. لم يفهم ما قلته ، ولم أقل له السبب الآخر: الزهايمر الذي أفقد الأمة وعيها فلم تعد تتذكر أبجديات النضال التي لا تعرف اليأس ، ولا تؤمن بالإنتحار ...

الرهان الكبير هو الشباب ، تلك الأجيال الطالعة التي لم تمر بنكسة أو بإنكسار ، المسلحة بالعلم والحماس والقدرة علي الحلم ، أجيال لا ترتعش أصابعها فوق الزناد ، ولا تهتز عقولها أمام التحديات .. هذا هو الرهان الذي قد لا نري نتيجته فيما تبقي من أعمارنا ، ولكنني متيقن أنه الرهان الرابح ، هذا هو القدر المؤكد من اليقين الذي لم تصل إليه بعد خيوط عنكبوت الزهايمر ...

لقد فكرت أكثر من مرة أنه قد آن الآوان كي أوقع الكلمة الأخيرة ثم أمضي ، حيث لم تعد هناك فائدة لمواصلة الكلام في زمن يحتاج إلي الفعل، ولكنني كنت أشعر في كل مرة بأنه لا تزال بين أصابعي فسيلة ، ولا يزال من الممكن مواصلة المحاولة لغرس ما قد يكون مفيداً ، وربما سبب إستمراري هو أنني كنت في كل مرة أنسي بفعل الزهايمر ما قررت إتخاذه ، ولذلك أواصل التشبث بالأمل في معجزة الكلمة ومقدرتها علي إحداث الفعل ، ولكنني أعتقد أن شباب اليوم .. الرهان الذي نعيش عليه .. لا ينبغي عليه أن ينصت إلينا كثيراً ، فكل نصائحنا هي نتاج تجربتنا التي تختلف في ظرفها التاريخي والسياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي عن تجربتهم، هم أبناء القرن الواحد والعشرين ، ونحن مجرد زائر مؤقت لزمن محدود ، هم أصحاب المستقبل ، ونحن لا نملك سوي الماضي بكل ما له وما عليه ، تاريخهم أمامهم ، وتاريخنا وراءنا .. نحن نعاني من الزهايمر ، وهم يتمتعون بخصوبة العقل والوعي .

ومثل أي فيل كهل محترم ، أظن أن الوقت قد حان لإتخاذ مكاناً قصياً ، كي أرفع العبء عن الجيل الجديد ، وربما يكون من المسلي والمفيد أن أجد في هذا المكان المنعزل بعض رفاق الطريق كي نتشاغل في مباراة الذاكرة ، فنحاول معاً أن نتذكر ماذا أفطرنا اليوم ، وما هي أسماء أولادنا وأعمارهم .. نعصر الذهن سوياً كي نستعيد بعض الصور الباهتة لأيامنا السعيدة ، ونتبادل التفاخر بإنتصارات لم يعد يتذكرها أحد ... مثل أي فيل كهل محترم يجب أن يضاف إلي الكراكيب في منطقة مخصصة لذلك، وليس علي قمة أسطح المجتمع ...
-------------------------
 بقلم: السفير/ معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

هل هو تانجو فارسي صهيوني؟