26 - 04 - 2024

تونس.. الأقنعة المتعددة لانتخابات 6 أكتوبر التشريعية (موضوع مصور)

تونس.. الأقنعة المتعددة لانتخابات 6 أكتوبر التشريعية (موضوع مصور)

أعراض عالمية أم تقلبات ديمقراطية ناشئة

بعد أن حضر المفكر التونسي " يوسف صديق " (76 سنة ) المؤتمر الانتخابي الختامي لقائمة تترأسها أرملة الشهيد  اليساري"شكري بلعيد" السيدة "بسمة الخلفاوي" وقف حائرا وقد انخرط في حوار قصير مع سيدة محجبة حائرة بدورها.وحينها بادرت بسؤاله وقبل ساعات من سريان الصمت الانتخابي السبت (5 اكتوبر) استعدادا للانتخابات التشريعية الثالثة بتونسبعد الثورة (مجلس تأسيسي وبرلمانان)،فأجاب:" هذه أغرب انتخابات في العالم شهدتها.. أنا عشت سنوات طويلة في فرنسا وايطاليا وغيرهما ولم أر ما يجرى هنا الآن". 

مؤتمر قائمة أرملة الشهيد(القائمة الائتلافية اليسارية الاتحاد الديمقراطي  الاجتماعي لدائرة تونس 1) بدا في اليوم السابق للصمت الانتخابي الأبرز والأهم في فعاليات الحملات الانتخابية بـ " الحبيب بورقيبة " في تلك اللحظة.هذا الشارع الواجهة والوجهة للأحداث السياسية والثقافية والفنية للعاصمة ولتونس بأسرها،وقد اكتسب رمزية ثورية من المظاهرة الكبرى أمام مقر وزارة  الداخلية 14 يناير 2011 التي سبقت فرار الدكتاتور بن على. ومع هذا فإن هكذا مؤتمر لم يجتذب بالكاد إلا نحو مائة من المتحمسين والفضوليين، خصوصا أن منظميه لجأوا إلى فرقة موسيقى شعبية استدعت الرقص للفت الانتباه. وبامتداد الشارع تناثرت خيم دعاية انتخابية لقائمات أخرى لم تجد بدورها مفرا من الاستعانة بالموسيقي والرقص. لكن عبثا فقد ظلت بلا جمهور يقترب. ولقد كان بامكاني المقارنة مع حال مخالف تماما عشية انتخابات المجلس التأسيسي أكتوبر 2011 حين ضجت المقاهي على ضفاف هذا الشارع وكذا في مختلف أنحاء العاصمة والبلاد بنقاشات ساخنة عامرة بالمشاركين والمتابعين في السياسة وعن المستقبل والأفكار وعن الدستور القادم للجمهورية الثانية. وهذا الانخفاض في منسوب اهتمام المواطنين بالسياسة أو لنسميه "الطلب على السياسة" كان ملحوظا على نحو ما في الانتخابات التشريعية اكتوبر 2014 ثم بدرجة أكبر مع بلديات مايو 2018. وقد  انعكس في التدني المتواصل لنسب المشاركة في التصويت استحقاقا تلو آخر. وهاهو الآن يتعمق ويستفحل ويترجم نفسه في لهجة تسليم بالقدر المحتوم. وهو ما كان عليه الحال في كواليس المركز الإعلامي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات بقصر المؤتمرات بوسط العاصمة تونس انتظارا لاقتراع الأحد 6 أكتوبر. وهذا على الرغم من الجهد الذي بذلته الهيئة لاقناع نحو مليون ونصف مليون كي يضيفوا اسماءهم طوعا إلي سجلاتالناخبين لتتجاوز السبعة ملايين بينهم 385 ألف ناخب بالخارج من اجمالي تعداد سكان بلغ داخل البلاد 11,6 مليونا . 

طلب شحيح وعرض وفير

خلال الأيام القليلة السابقة على الصمت الانتخابي كان بامكاني أن اسجل من واقع الميدان ملاحظتين اضافيتين على انخفاض منسوب الاهتمام بالسياسة والانتخابات البرلمانية هذه المرة. الأولى عندما انطلقت المناظرات التي ينظمها التلفزيون العمومي بين مرشحي القائمات ليلة الإثنين 30 سبتمبر، فانشغل زبائن المقاهي في التوقيت نفسه بمتابعة مباراة كرة قدم في الدوري الإنجليزي ليست ذات أهمية على شاشاتها. والملاحظة الثانية تتعلق بالمؤتمر الانتخابي الختامي بشارع الحبيب بورقيبة ليلة الخميس الماضي لحملة حزب حركة النهضة والذي يترشح رئيسها "راشد الغنوشي" على رأس قائمتها بدائرة (تونس 1).وهنا خلت نصف المقاعد تقريبا. واستطيع أن اقدر حضور أقل من الفي شخص مقارنة بما عاينته بنفسي أيضا في المؤتمر الانتخابي الختامي لحملة الحزب لتشريعية 2014 بالشارع نفسه، وحيث لم يكن الغنوشي مرشحا بأي حال. حينها جاء نحو خمسة آلاف على أقل تقدير. 

وفي الطريق إلى "الحبيب بورقيبة" بالامكان ان تلاحظ بالشوارع الرئيسية لتونس العاصمة كيف تخلو معظم المساحات المخصصة لخمسة وخمسين قائمة حزبية ومستقلة وائتلافية تتنافس في دائرة (تونس 1) من ملصقات الدعاية الانتخابية. حقا القليل ـ بل والقليل جدا ـ من القائمات حاضرة على الحوائط وفي الفضاء العام. ولعل هذا يعكس العديد من الأمور، من جهة فإن انخفاض "طلب" الجمهور على السياسة لم يصحبه انخفاض مماثل في"العرض" من جانب الطامحين الى ممارستها والوصول الى البرلمان والسلطة. وثمة هنا وفرة في العرض وربما "فائض عرض" لا ترشده انتخابات بعد اخرى بعد طول استبداد وحرمان من المشاركة قبل الثورة. ففي تشريعية 2019 تتقدم 1503 قائمة تتوزع على 33 دائرة منها 6 خارج البلاد، و بمتوسط حسابي نحو 46 قائمة للدائرة الواحدة. وعلى هذه القائمات ما يزيد على 15 ألف مرشح بمتوسط نحو 69 متنافسا على كل مقعد واحد بالبرلمان. وعلما بأن أقل الدوائر الانتخابية في عدد القائمات هي دائرتا ولايتي تطاوين والقصرين (32 قائمة لكل منهما) وأكثرها وفرة في دائرة ولاية سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية (73 قائمة). وكان عدد القوائم في انتخابات التأسيسي 2011 يبلغ 1665 وفي تشريعية 2014 انخفضت الى 1326، وقبل أن تعود للصعود.

ومن جانب آخر، هناك تحول في اساليب الدعاية الانتخابية يتماشي مع الصيحات العالمية المستجدة وفي الديمقراطيات الراسخة العتيقة. ومن الواضح أن انتخابات تونس هذا العام تشهد اعتمادا لافتا على وسائل التواصل الاجتماعي وبخاصة الفيس بوك و متزايدا على الاتصال المباشر والفردي والعائلي عبر طرق الأبواب. وقد اسر لي أحد اعضاء مجلس هيئة الانتخابات عن القلق والحيرة من صعوبة مراقبة الإنفاق الضخم على الدعاية والمتجاوز للأسقف المسموح بها عبر الفيس بوك باستخدام شركات بعضها أجنبي. وكذا عن الخوف من استغلال نمط الدعاية المباشر داخل المنازل والأماكن الخاصة لرشوة الناخبين دون رقابة ممكنه أكثر في الفضاء العام.   

المستقلون ومناهضة الأحزاب والحزبية

 في تشريعية تونس 2019 أيضا هناك شواهد على استمرار صعود القوائم المستقلة بعدما حققت مفاجأة الانتخابات البلدية العام الماضي حين حلت أولا وبنسبة 30 في المائة من المقاعد متقدمة على أي حزب سياسي بمفرده. وقد عكس التصويت للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية 15 سبتمبر الماضي هذا الاتجاه، حينما تصدر نتائجها المرشح المستقل "قيس سعيد". ومن المؤكد أن الانتخابات الجارية حاليا رئاسية وتشريعية تحمل الى حد كبير ما يطلق عليه نزعة "التصويت العقابي" سخطا على الأحزاب حاكمة ومعارضة وعلى "نخب" طالما شغلت الفضاء العام ووسائل الإعلام وعودا وضجيجا دون ان يلمس المواطن تحسنا في حياته المعيشية، وبخاصة على مستوى الاقتصاد والخدمات الأساسية. وفي الشارع ومن خلال الحوار مع العديد من  المواطنين ومن مختلف الألون الاجتماعية والتعليمية والثقافية تلمس هذا السخط على الأحزاب ووعودها وخلافاتها وتوافقاتها.. بل و"خياناتها للناخب". وهذا لا يحجب أيضا الجهد المتعمد من إعلام "مناهضة الثورة" في "تنفير" الناس من السياسة والأحزاب وحريات التنظيم والتعبير بعد الثورة.

وهنا في تونس 2019 تناقض طريف بين "شعبوية" تحاكي ما جرى خلال السنوات القليلة الماضية في العديد من الديمقراطيات الراسخة مع صعود "شعبويات" الرئيسين "ترامب" بالولايات المتحدة و"ماكرون" بفرنسا والوزير "ماتيو سلفيني" إيطاليا وغيرهم من خارج النظام الحزبي التقليدي (السيستم)وبين كون أن العديد من تعبيرات معاداة الحزبية في هذه الانتخابات التونسية هي بالأصل تعود الى "السيستم" نفسه الذي لم ينقطع تأثيره على السياسة والحكم والبيزنس وينتسب الى ما قبل الثورة. والرئاسية والتشريعية بتونس اليوم وضعت بين مكونات صدارة المشهد الانتخابي الراهن رجل الأعمال وصاحب قناة "نسمة" التلفزيونية "نبيل القروي" المحبوس احتياطا  بتهم جدية تتعلق غسيل الأموال والتهرب الضريبي، وقد حل ثانيا في الرئاسة، كما أن حزبه الوليد "قلب تونس" نافس بقوة النهضة على المرتبة الأولى في التشريعية. وعشية يوم الاقتراع 6 اكتوبر برزت بين مكونات مشهد الصدارة حركة "عيش تونسي"، وهي تأسست عام 2011 بدورها من رحم جمعية خيرية تترأسها السيدة "ألفة تراس" زوجة رجل أعمال فرنسي نافذ من ممولي حملة ماكرون الرئاسية، وانتجت حركة سياسية بدون ترخيص حزب قبل أشهر معدودة. ومنحت استطلاعات رأي جرت خارج الحظر القانوني قائمات "عيش تونسي" التنافس على احتلال الكتلة الثالثة في البرلمان المقبل. وقد خاضت المعركة الانتخابية في كل الدوائر بامكانات ملحوظة، وهي تضع على رأس برنامجها الضرب في النخبة السياسية والبرلمانية السابقة كالتعهد بالغاء امتيازات المناصب التنفيذية والتمثيلية ومكافحة الفساد. 

وبالنسبة للقروي فإن علاقته بـ "السيستم" غير خافية منذ زمن بن على، ثم لاحقا دوره المقدر المعروف في بناء وصعود حزب "نداء تونس" وحضوره الطاغي عند الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وفي منزله بحي " سكرة " (تنطق بضم السين وتسكين الكاف)، وكما لمست بنفسي عندما حاورت "السبسي" في نوفمبر 2014. لكن الرجل ومناصريه وحزبه المولود  قبل أشهر معدودة استثمروا بكثافة في الزعم بأنهم قادمون من خارج الحكم و"السيستم" و بلا مسئولية عن اخفاقات الحكم والمعارضة. وهذا على الرغم من أن قوائمه للتشريعية تضم نوابا من حزب نداء تونس الذي حكم بعد 2014 مؤتلفا مع "النهضة" وغيرها. وعلى سبيل المثال فإن قائمة حزب "قلب تونس" بدائرة ولاية قفصة الشهيرة بمناجم وصناعة الفوسفات والنضالات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية يتصدرها النائب "سفيان طوبال"، وهو من شغل رئيس الكتلة البرلمانية للنداء. و"قلب تونس" بالأصل جاء من رحم جمعية خيرية "خليل تونس" تمد يد الإحسان المروج تلفزيونيا للفقراء والمهمشين الذين استمرت الدولة في اهمالهم وتقصر اليسار  المتشرذم المنقسم في الوصول اليهم والبناء التنظيمي بينهم. وهذا على عكس "عيش تونسي" الذي يوظف في قائماته المستقلة للتشريعية ساسة من الصفوف غير الأمامية للحياة الحزبية، وكما هو الحال مع السيدة "يسرى الساسي" رقم 2 على قائمته بدائرة (تونس 1). وقد ابلغتني انها نشطت بحزب الاتحاد الوطني الحر لرجل الأعمال "سليم الرياحي" الذي كان من مكونات الإئتلاف الحاكم بعد انتخابات 2014 وأصبح هاربا الآن في فرنسا وملاحقا بقضايا فساد هو الآخر .

ظاهرة ائتلاف الكرامة "محافظون مستقلون "!

 وكي يكتمل مشهد معاداة الأحزاب "والسيستم" وصعود "الشعبويات" لا يمكننا تجاهل ظاهرة القائمات المستقلة "ائتلاف الكرامة" التي يقودها المرشح الرئاسي الشاب  صاحب الخطاب الثوري "سيف الدين مخلوف". وقد اكتسبت حملة هذه القوائم زخما مفاجئا ووجودا ملموسا عبر حملات الفيس بوك وطرق الأبواب والإتصال المباشر. وهذا بعد أن حصد "مخلوف" 4,4 في المائة من الأصوات الصحيحة وحل ثامنا بين 26 مرشحا في جولة انتخابات 15 سبتمبر الماضي الرئاسية. وظهر وكأنه يقتحم المشهد السياسي قادما من المجهول ليتفوق على أسماء أعلام نجوم، وبعضهم مارس الحكم بعد الثورة كالرئيس الأسبق "المنصف المرزوقي"، وحتى  السيدة "عبير موسى" زعيمة "الحزب الدستوري الحر"، والتي تمثل بدورها  ظاهرة شعبوية الى اليمين أقرب الى الفاشية وتجاهر بالولاء للدكتاتور بن على. وهي بدورها رشحتها التقديرات عشية اقتراع 6 اكتوبر لامتلاك كتلة في موقع متقدم ببرلمان 2019، و بعدما لم يكن لها اي مقعد في برلمان 2014. ولقد التقيت "مخلوف" خلال جولته لطرق الأبواب في حي "الجبل الأحمر" الشعبي دعما لقائمة ائتلاف الكرامة بتونس 1 التي يترأسها الدكتور "يسري الدالي" الذي شغل قبل الثورة منصب مدير قسم الداراسات بوزارة الداخلية. ويستخدم "مخلوف" وقائماته لهجة تصادمية مع فرنسا مطالبة بالاعتذار عن سنوات الاستعمار وتعويضات عن نهب الثروات. كما يطالب برنامجه باستكمال مسار العدالة الانتقالية الذي تم الغدر به على أيدي رجال ماقبل الثورة الذين عادوا بقوة في ظل تجنب "العزل السياسي" واسقاط مشروع قانونه بتواطؤ من "النهضة" في المجلس التأسيسي 2013 . "مخلوف" أبلغني حين التقيته أنه يتوقع "زلزالا" مع نتائج اقتراع الأحد بعدما شكا من حملات تشويه استهدفت قوائم الكرامة بزعم أنهم "اسلاميون" و"دواعش". ويجيب عن امكانيه الائتلاف في حكومة مع "النهضة" على الرغم من خطابها  ضده وضد قوائمه قائلا :"ولم لا.. إذا نجحنا أن نعيدهم إلى طريق الصواب". أما " الدالي "فقد توقع أن تحصد قائمات الكرامة الائتلافية المستقلة الشبابيه المرشحة في 29 من إجمالي 33 دائرة مابين 17 و 21 مقعدا، أي نحو مابين 8 و10 في المائة من مقاعد البرلمان، وأن تحل ثالثا بين كتل البرلمان الجديد. وهذا بعدما كانت حملة مخلوف تأمل قبل نتائج الرئاسية في حصة تتراوح بين 7 و12 مقعدا فقط. واللافت أن "الدالي" الذي اجابني قائلا :" لست اسلاميا لكنني مسلما " وصف مرشحو الائتلاف بأنهم "محافظون تقدميون"!.

وعلى أي حال، فإن الأنظار ظلت معلقه بنتائج صناديق اقتراع 6 اكتوبر الجاري للإجابة على السؤال: هل ستتمكن القائمات المستقلة التي بلا امكانات  وبلا جذور ممتدة داخل "السيستم" من حصد حصة معتبرة من مقاعد البرلمان البالغ عددها 217 مقعدا؟. وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن مؤشرات عدة تفيد بأن أكبر كتلة برلمانية لن تتجاوز بكثير نسبة العشرين في المائة وأن تونس ستكون أمام برلمان يحمل طابع "الفسيفساء"، وبما يصعب من فرص تشكيل حكومة جديدة. بل ويفتح الباب أمام امكانية اعادة الانتخابات بعد نحو أربعة اشهر ومعها مخاوف من مرحلة عدم استقرار ممتدة. 

مأزق الأحزاب الكبرى 

ولكن لا شك أن أزمة الأحزاب السياسية وبخاصة الكبرى لها ظلال من واقع في تونس. في انتخابات تشريعية 2014 كان الاستقطاب الأساسيبين "نداء تونس" و"النهضة" وعلى أساس الهوية بين مايعتقد ويوصف بأنه إسلام سياسي في مواجهة علمانية مدنية. وقد راج حينها من أجل هزيمة النهضة الدعوة "للتصويت المفيد" لحشد الناخبين خلف النداء ومرشحه الرئاسي "السبسي". وقد كان. وهكذا حل حزب "السبسي" أولا مزيحا النهضة الى مرتبة الكتلة الثانية. وهذا قبل ان يتشظى النداء وكتلته البرلمانية.وقد اصبح أكبر الشظايا الآن حزب "تحيا تونس" لرئيس الحكومة يوسف الشاهد، والذي لم ترشحه استطلاعات الرأي لموقع متقدم في البرلمان المقبل. والظاهر من مجريات انتخابات 2019 ومشاهدات الميدان أنه اذا جاز هذه المرة الحديث عن استقطاب رئيسي بين القوى الحزبية الأكبر الى جانب سيادة مزاج "التصويت العقابي الساخط" فإن هذا الاستقطاب ظاهر بين "النهضة" و"قلب تونس". وهما المتنافسان وفق اغلب التقديرات على الكتلة البرلمانية الأولى. ومأزق النهضة بدورها هذه المرة ـ مع انها تظل أكثر الأحزاب في الساحة التونسية تماسكا وتنظيما وتطورا والوحيد القادرة على استعراض قوتها في مؤتمر جماهيري في الشارع ـ لا يتمثل فقط في النزيف المتواصل لشعبية الحزب بين الناخبين ولوزن كتلته في البرلمان (من 1,5 مليون ناخب و89 مقعدا في 2011 إلى 976 ألفا و 69 مقعدا في 2014 إلى 516 ألفا في بلديات 2018 ثم اخيرا 434 ألفا حصدها مرشحا لرئاسية هذا العام (عبد الفتاح مورو). وهكذا تذيب الممارسة الديمقراطية واختبار أو امتحان الحكم والمشاركة فيه الأحزاب الاسلامية والأيديولوجية وتعيد تشكيل مرجعياتها وتوجهاتها الفكرية بدون القضاء على الحريات والتطور الديمقراطي للمجتمعات برمته.

 بل ويمكن القول بأن مأزق النهضة اليوم يتمثل أيضا في مواقع الدفاع التي اضطرت اليها هذه المرة. وقد علت الأصوات باتهامها  بالتنكر للثورة والمشاركة من مواقع المسئولية في اخفاق التصدي للفقر والبطالة والفساد بعد ما يزيد على ثمان سنوات بعد الثورة. واللافت في كلمة "الغنوشي" بالمؤتمر الانتخابي الأخير بالحبيب بورقيبة هذا المنطق الدفاعي في مواجهة من أصبح يسميهم بـ "الثورجيه المزايدين" .وهنا لجأ في مواجهة "ائتلاف الكرامة" وغيره من المستقلين وكذا حزب "التيار الديمقراطي" لمحمد عبو المرشح لمزيد من الصعود بعد أداء لافت في بلديات 2018الى مغازلة فرنسا والغرب، وذلك بالتحذير مما وصفه نصا بـ " ثورة منفلته تهدد علاقات تونس الخارجية". ويراهن "الغنوشي" على بناء توافق جديد بين النهضة و"قيس سعيد" الأوفر حظا للوصول الى قصر الرئاسة بقرطاج. وقد اختص في الجانب الأكبر من كلمته "سعيد" بالدعم وبامتداح نزاهته واستقامته أمام مرشح محمل بشبهات الفساد "القروي". وفي مواجهة مخاطر قدوم برلمان ضعيف تغيب عنه الكتل الكبرى ورئيس دولة مستقل بلا سند حزبي في البرلمان، استخدم "الغنوشي" محذرا من الفوضى تعبير: " برلمان صالح يؤيد رئيسا صالحا "!.

تداخل كـ " المكرونة "

 مما يضفي على انتخابات 2019 التونسية عده وجوه للغرابه والغموض هو أن وفاة السبسي قبل ان يكمل ولايته الرئاسية تسببت في تقديم موعد استحقاق انتخابات الرئاسة وتداخلها مع التشريعية. وعلاوة على ماكشفت عنه الحملات الانتخابية هنا وهناك من استخدام المرشحين المفرط لخطاب يخلط بين صلاحيات المجالس البلدية والبرلمان ورئيس الدولة، فإن نتائج الجولة الأولى من الرئاسية القت بتأثيراتها على التشريعية، مع أنها تعد بالأصل الأهم وفق النظام الدستوري. وعلى الأقل فإن حظوظ حزب "قلب تونس" الذي حل مؤسسه وزعيمه "نبيل القروي" ثانيا وفرس الرهان الآخر في جولة الإعادة  ارتفعت في التشريعية. وهذا على أي حال عزز صنع الاستقطاب الظاهر بين "قلب تونس" و"النهضة". كما أن الانشغال المحلي والاقليمي والدولي بالجدل حول مرشح يخوض الانتخابات الرئاسية جولة أولى وثانية حاسمة وهو محبوس احتياطيا مع الكثير من الكلام عن "تكافؤ الفرص" أدى الى اختطاف الانتخابات التشريعية وحملتها لحساب قضية "شخص واحد"، هي حقا "شخصنة" لعملية الانتخابات بأسرها، لكنها  تلقي بظلال على مصداقية الانتخابات الرئاسية وتهدد بالمس من "شرعية" الرئيس المقبل، وبخاصة أن فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يمارسون الضغوط لاطلاق سراح "القروي" بزعم ضمان تكافؤ الفرص ومصداقية العملية الانتخابية. 

وفي كل الأحوال، فإن جدل الرئاسية على هذا النحو قد طغى على التشريعية واسهم في تعميق حالة عدم اكتراث الناخبين بمجرياتها. وإذا اضفنا إلى هذا ما تفجر قبل أيام بشأن تسريبات الاستعانة بشركات اجنبية بدرجات متفاوته لتمكين كل من "القروي" وحزب النهضة وحركة عيش تونسي من أهداف سياسية وانتخابية وعبر مؤسسات وجماعات ضغط أمريكية واوروبية لأدركنا أننا أمام مايشبه بكومة خيوط "مكرونة " متشابكة ، مع حالة من الغموض ظلت الى إعلان النتائج تكتنف مستقبل نتائج الانتخابات التشريعية ومايترتب عليها من مواقع في السلطة .وللمفارقة فإن المكرونة طبق مفضل لفقراء تونس وقد استثمر "القروي" في توزيعه بالمناطق المهمشة الى حد ان اطلق عليه خصومه السياسيين " نبيل مقرونه ". 

وتونس بينما كانت تترقب ما ستكشف عنه نتائج الصناديق في تشريعية 6 أكتوبر و الجولة الرئاسية الحاسمة بين "قيس سعيد" و"نبيل القروي" 13 أكتوبر تملكها احساس طاغي بالغموض،وكأنها ترتدي اقنعة متعددة تبدلها ثم تعيد ارتداءها.وقد اسرف أهل السياسة هنا  في استخدام كلمة تصف الحال وتلخصه،هي"الضباب". وإلى جانب توقع العجائب ومزيد من العجائب بين اقتراعي 6 و13 اكتوبر الجاري، تطل أسئلة حائرة عن ماذا بعد "الشعبوية" ومعاداة الأحزاب والحزبية التي حلت سريعا بالبلاد بعد تمارين أولى على طريق ديمقراطية لم تستغرق إلا نحو ثمان سنوات ووسط محيط اقليمي غير موات. أسئلة يغامر البعض بطرح اجابات/ توقعات لها معتقدين بأنه سرعان ما سيتكشف أمام الناخبين أيضا بأن المستقلين والمتظاهرين بأنهم من خارج "السيتسم" لا يملكون حلولا سحرية عاجلة. بل وربما تورطوا بدورهم في الوعود غير القابلة للتحقيق.

 وهكذا هي الحال بتونس عشية سبعة أيام حاسمة لانتخابات 2019 التشريعية والرئاسية بين أعراض "شعبوية" عالمية وتقلبات ديمقراطية ناشئة.  
-----------------------------
تونس ـ كارم يحيى 






اعلان