19 - 03 - 2024

إبراهيم فتحي ...مؤسس العناوين الكبرى

إبراهيم فتحي ...مؤسس العناوين الكبرى

رحل عن عالمنا منذ أيام، المثقف، المناضل اليساري، المترجم، الناقد الادبي، والمفكر ابراهيم فتحي، والذي رغم عدم وجوده في دائرة الضوء الظاهرية، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي مئات الكتابات التي تنعيه "كرائد وقائد ومعلم" بما يشي بوجود بصمات له علي مسيرة الآلاف من الأجيال القديمة ، وبما شكل لغزا للأجيال الجديدة التي خرجت في زمن "سوق نفسك" و"صناعة الإيمج"، والتي جعلت من اسماء قليلة الموهبة والمعرفة والتفرد تتصدر الشاشات بلا منازع، وتعطي انطباعا بان المختفين عن أضوائها بلا قيمة.

كان إبراهيم فتحي أسطورة جيله بلامنازع، فقد مثل في المخيلة الثقافية في الخمسينات والستينات ومطلع السبعينات، نموذجا فريدا لطالب الطب الماركسي، زميل يوسف إدريس وصلاح حافظ، والذي ترك "حلم الطب" ليدافع عن الطبقة العالمبة تحت الراية الحمراء لينتقل من نضال الي نضال ومن معتقل إلي معتقل ومن مطاردة إلى أخرى دون لين أو هوادة .

اشتهر إبراهيم فتحي وسط جيله بأنه (موسوعة ثقافية) و"مطلع بعدة لغات"، وفي زمن الأبيض والأسود، والقمع والسرية، راجت اساطير حول علاقته بالقراءة والكتابة واللغات لاشك أنها كانت تحتوي على مبالغات، لكنها كانت تستند علي أسس حقيقية، خاصة أن مجايليه في صفوف اليسار وخارجه كانوا عمالقة فكر وثقافة بلا جدال، وأضفي ابراهيم فتحي بصلابته في مواجهة السلطة وصموده في المعتقلات بدءا من حبسة يناير 1959 - 1965، ومرورا بحبسة 1966 مع الغيطاني والأبنودي وسيد حجاب وغالب هلسا وصلاح عيسى وخليل كلفت،  ثم بحبسة 1972 التي تعرض فيها للتعذيب الشديد مع الدكتور جمال عبد الفتاح وحتي اعتقال 1989، اضفي بهذا الصمود رونقا إضافيا علي هذا الإسهام الثقافي، وجعلت لإبراهيم فتحي تمايزا اضافيا على الآخرين كونه "مثقفا عضويا" بالمعني الجرامشي، يلعب دورا في المجتمع وفي معارضة السلطة السياسية، وليس مثقفا مخمليا أو مثقف رفاهة أو ترفيهي.

دخل ابراهيم فتحي عالم الثقافة، فقدم اوراق اعتماده بافضل مايكون التقديم، حيث اغني الحياة الثقافية بكتب جمة مثل  "معجم المصطلحات الادبية"(كتابة) ، المادية الجدلية عند هنري لوفيفر (ترجمة)،نظرية الوجود عند هيجل ، وقواعد الفن عند بيير بيرديو، لكن تميز ابراهيم فتحي الحقيقي، بغض النظر عن مسيرته النضالية او الثقافية تمثلت في كونه مؤسسا لعناوين كبري في الحياة السياسية والثقافية المصرية مختلفة عن كل طرح زملائه، وصنعت من ظاهرته ملمحا خاصا:

- فإبراهيم فتحي هو كاتب وثيقة (طبيعة السلطة) عام 1971 والتي وصف فيه النظام الناصري عبر تحليل ماركسي لاول مرة في مصر والمشرق العربي بأنه (رأسمالية دولة)، وأن الطبقة التي حكمت طبقا لهذا النظام هي (البرجوازية البيروقراطية)، وهو التحليل الذي بنت عليه كل الحلقات اليسارية الماركسية التي ظهرت في مصر بعد ذلك خطابها السياسي الراديكالي، وهو الخطاب الذي ألهم بعذ ذلك حركة الطلبة من عام 1972 وحتي انتفاضة 1977 مشروعا للرفض، بعد ان كان اليسار المصري الماركسي قد تكلس في الستينات واعتبر نفسه جزءا من (الاشتراكية الناصرية) بحلوها ومرها.

- وإبراهيم فتحي علي مستوي الأدب هو صاحب فكرة وتعبير (ناقد الرصيف) والذي كان يعني به الناقد اللا مؤسسي، بعد أن أصبح الاندماج في المؤسسات جبرية في الحقبة الناصرية، وبهذا المفهوم كان وراء تاسيس جمعية (كتاب الغد) التي انتهت بالاعتقال، ثم تأسيس مجلة (جاليري 68) الشهيرة التي مثلت خطابا ثقافيا رفيعا ومستقلا في نفس الوقت، وقدمت بترجماتها الهامة حلقة تواصل مع الثقافة العالمية، كما مثلت حلقة تواصل مع روحانية حركة الطلبة في فرنسا وأوربا عام 1968، ومع أفكار التمرد وطروحات سارتر ومدرسة فرانكفورت واليسار الجديد وكتابات هربرت ماركيوز.

- مثل كتاب ابراهيم فتحي (العالم الروائي نجيب محفوظ) والذي وصفه نجيب محفوظ نفسه بأنه أفضل ماكتب عنه من نقد، ومثلت الكتابة ليس فقط رؤية جديدة لفكرة الواقعية، بل تمردا على رؤية اليسار التقليدية وقتها والتي كانت تميل إلى مهاجمة نجيب محفوظ.

- قاد إبراهيم فتحي معركة ضارية في اليسار والتاريخ ضد سيطرة أسطورة المليونير اليهودي علي اليسار المصري، واكد في كتابة له أثارت جدلا محليا وعالميا أن "حركة حدتو منظمة يسارية مصرية أسسها مناضلون مصريون"، وأن "اسطورة هنري كوريل" صنعتها الصحافة الرجعية والأجهزة الملكية في العهد الملكي"، وأن كوريل "كان هدفا سهلا استعملته الرجعية لتشويه النضال الوطني واليساري"، وأن هنري كوريل لم يكن أيضا أكثر من "مليونير يهودي يؤنت المذكر ويذكر المؤنث وينتمي ثقافة وفكرا وطريقة حياة إلي الرأسمالية الفرنسية التي تحمي كعوبها البنادق الانجليزية"، بل أن إبراهيم فتحي اقتحم عرين الاسد وقال إن "أفكار كوريل عن الهجرة اليهودية لفلسطين، واعتبار المسالة الفلسطينية وسيلة لصرف الأنظار" عن الاحتلال البريطاني لمصر، وهو ما كان البعض يحاول ترويجه في أوساط اليسار المصري آنذاك، هو سبب تلميع كوريل "علي حساب المناضلين المصريين عميقي الجذور في الأرض المصرية أمثال شهدي عطية الشافعي، وأنور كامل وعبد العظيم أنيس ونعمان عاشور وأحمد رشدي صالح".

تلك هي مميزات إبراهيم فتحي التي صنعت قوامه الخاص، وجعلت منه صفحة لا تنسي في تاريخ الحياة الفكرية والنضالية المصرية.  
--------------------------
بقلم: خالد محمود 


    

مقالات اخرى للكاتب

نعم ..





اعلان