26 - 04 - 2024

قيس سعيد عن قرب:أستاذ القانون الذي استطاع هزيمة فضة المعداوي

قيس سعيد عن قرب:أستاذ القانون الذي استطاع هزيمة فضة المعداوي

- صعد بصندوق الانتخاب لكن شكوكا ومخاوف تنطلق مع دخوله قصر قرطاج
ـ في بيانه للشعب التونسي "الشعب يريد ": " الخدمات والمرافق العامة لا تخضع للربح والسوق والتجارة 
وحقوق المواطنين ليست بضاعة تتقاذفها قوانين العرض والطلب"

عشت لنحو العامين بين 16 و2018  في تونس مراسلا "للأهرام" . وترددت عليها اعتبارا من سبتمبر 2011 في زيارات متعددة واكبت ما اعتقد انه أبرز احداثها بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 /14 يناير 2011 . واظن ومازلت أن الصراعات الكبرى حول المستقبل في هذا البلد الصغير محدود المساحة والسكان والأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية نسبيا، إذا ما قورن بمصر وبشأن التغيير والمواطنة والحريات والديمقراطية وكذا مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني واستقلال القرار الوطني مؤثرة وستكون في مصير عرب القرن الحادي والعشرين كلهم. ولذا استطيع أن ألاحظ اليوم ومن تونس الانتخابات التشريعية والرئاسية 2019 انقلابا في مزاج قطاع كبير ومهم من مواطنيها من اليأس والسخط على الثورة والحنين إلى أيام رئيسها المخلوع "بن على" إلى الأمل، وإن كان أملا مراوغا لا ترقي الثقة في تحققه إلى اليقين. 

عاصفة تقتحم قصر قرطاج

ولعل معنى ما جرى في اقتراع الناخبين التونسيين مع ثلاث مناسبات بين شهري سبتمبر وأكتوبر يتلخص في التمسك بالاحتكام الى الصندوق، لا العنف والدبابة أو الانقلاب على الدستور ودورية انتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية أو العدوان على تداول  السلطة. 

ولعل شعار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات هذه المرة يمسك بهذا المعني حين جاء على النحو التالي :" تونس تنتخب وتواصل ". وفي معنى ما جرى ويجرى أيضا أن من جاء بهم الصندوق مدعوون معا لاستكمال الانتقال الى الديمقراطية وإقالته من عثراته وتصحيح  مساره ومكافحة الفقر والفساد وانقاذ اقتصاد البلاد من وضع كارثي وشبابها من البطالة والحرقة (الهجرة غير الشرعية لأوروبا). وهذه المهام أصبحت ملحة يلاحقها عامل الوقت، ولكن بدون أوهام العودة الى الاقصاء والاستئصال التي تغذيها قوى إقليمية. وهذا على الرغم من الانخفاض اللافت في عدد المقترعين عن 2014 والبرلمان الجديد المتنافر الكتل و المخاض الصعب لتشكيل حكومة ائتلافية أخرى لا تستند الى أغلبية ولو نسبية معتبرة بين النواب .

لكن يظل العنوان الأهم لتونس الخارجة للتو من هذه الانتخابات هو الرئيس الجديد قيس سعيد. أستاذ القانون الدستوري القادم من خارج "النخبة السياسية" التي حكمت البلاد قبل الثورة واستمرت بعدها. تلونت وجددت دماءها ورصت صفوفها ليتجاور جلادون لمواطنيهم ومزورون للإرادة الشعبية نجوا من مصير المحاسبة والعزل السياسي إلى جانب صاعدين الى السلطة من بين الضحايا. ولقد بدا وكأن هذه النخبة القديمة المتجددة اهدرت على تونس فرصه تأسيس جديد، وأفرغت الانتقال الى الديمقراطية وحكم الشعب من مضمونه وغاياته. وانتهى الحال إلى موجة عاتيه من كراهية الثورة والديمقراطية والتغيير. ولعل قيس سعيد  أشبه بعاصفة جاءت من خارج " السيستيم / النظام أو المنظومة" لتقتحم قصر الرئاسة بقرطاج معززا بشرعية من أعداد الناخبين تفوق بكثير سلفه رجل السيستيم " السبسي" وبنسبة زيادة تجاوز الستين في المائة، وأيضا بشرعية أصوات تفوق بخمس مرات ما حصده نواب الكتلة الأكبر في البرلمان الجديد "النهضة". وحقيقة لا يبدو الأمر على هذا النحو ومن قرب عبر حوارات مع المواطنين التونسيين من مختلف الطبقات والتوجهات انقلابا في المزاج الشعبي والثقافة السياسية السائدة بالنظر إلى إعادة الاعتبار إلى صندوق الانتخاب. بل وأيضا على مستويات إعادة الاعتبار إلى الثورة وشعارها " الشعب يريد "، والذي اتخذه سعيد عنوانا رئيسيا لحملته الانتخابية. 

"الراية البيضاء"

حمل صعود قيس سعيد إلى الساحة السياسية التي بدا وكأنها "تتعفن" وتلفظ انفاسها لعوامل موضوعية وذاتيه عديدة ـ وأيضا لحملات دعائية مكثفة من اعداء الثورة والتغيير والديمقراطية محليين وإقليميين تواصلت لسنوات ـ ظواهر مستجدة مفاجئة سيكون استمرارها على قيد الحياة وتطورها محل اختبار في الأيام المقبلة. فهناك أولا هذا المغزى والأثر الملهمين لأن يهزم مرشح بحملة انتخابية بالغة الفقر والتقشف وتقوم على التطوع رجل أعمال يشبه "ببرلسكوني" ايطاليا، وقد أنفق على حملته الانتخابية بسخاء وسفه. وناهيك عن هذا فإن تصويت الأحد 13 أكتوبر الجاري على قيس سعيد ومنافسه نبيل القروي ابن "السيستيم" منذ عهد "بن على" والمتهم أمام القضاء بفساد مالي وبوثائق قدمتها احدي منظمات المجتمع المدني منذ ثلاث سنوات بدا وكأنه اقتراع على الأخلاق. كان بمثابة اختيار في الصندوق يستدعى الصراع بين السفير  السابق "مفيد أبو الغار" والمعلمة "فضة المعدواي" بمسلسلنا التلفزيوني المصري "الراية البيضا". وهذا ما تبينته خلال نقاشات مع ناخبي ومؤيدي الرجلين. ولقد بدا بالنسبة لي أن منطق التصويت للقروي يماثل  ذهنية الانفتاح الساداتي " السداح مداح" في مصر السبعينيات: " صحيح انه فاسد لكنه برجماتي وسيحرك الأموال في البلاد ويقضى على الفقر ويأتي بالرخاء".. و" صحيح انه جالس عملاء للموساد الإسرائيلي .. لكن هذه هي الواقعية السياسية .هل تريدون لتونس أن تحرر لكم فلسطين ؟".

كما حمل وصول قيس سعيد إلى قصر قرطاج استفاقة الشباب العازف عن السياسة والأحزاب و حتى صندوق الانتخاب. وهنا جرت أكبر مشاركة شبابية في حملة انتخابية على مدى استحقاقات 2014 و 2019 بتونس. وأيضا عبر مبادرات لا مركزية أفقية و تطوعية. لكن من المبكر لأوانه بعد التنبؤ بمصير هؤلاء الشباب .هل سيعودون الى سلبيتهم واحباطهم أم سيتجهون الى بناء حركة سياسية اجتماعية مساندة للتغيير ومؤيدة للرئيس الجديد من مواقع الضغط والنقد ؟. وفي هذا السياق يلفت النظر أن هذه الانتخابات وصعود  ظاهرة قيس سعيد رافقهما في الشارع وبين الشباب مبادرات شعبية لتنظيف الأحياء و لمقاطعة شراء السلع الأساسية لكبح الغلاء وغيرها. وفي هذه الفورة من الحملات والمبادرات بدا وكأن المجتمع المدني الناهض والمتطور بالأصل في تونس يوسع من نطاق وفعالية حضوره في المجال العام ويغادر إلى الفضاء العام قاعات اجتماعات وورش نقاشات الجمعيات والمؤسسات والمنظمات ومعها الأساليب التقليدية للضغط والتأثير على البرلمان والرئاسة وصناعة القرار السياسي. 

بيان " الشعب يريد " 

ولقد قيل الكثير عن غموض قيس سعيد وافتقاده الى برنامج. لكني تابعت الرجل على مدى سنوات وحضرت العديد من الندوات التي شارك فيها كما التقيته وحاورته لنحو الساعتين يوم 21 سبتمبر 2017. وأشهد بأن لديه مشروعا وأفكارا منذ سنوات وقبل الإعلان عن رغبته الترشح أو انخراطه في أي عمل سياسي .وهذا المشروع وهذه الأفكار التي تبدو للبعض مثالية طوباوية ولدت وظهرت للعلن بعد الثورة، وأخرجته من شرنقة الأكاديمي إلى رحاب التبشير بها  في المجال العام والتفاعل مع الشباب من دون الانخراط في اللعبة السياسية المؤسسية أو اهدار الطاقة والهيبة في بلاتوهات برامج العراك التلفزيوني، ولا أقول "التوك شو". ولقد ترجمت حملته للانتخابات الرئاسية هذا المشروع وهذه الأفكار في "بيان إلى الشعب التونسي " يستعيد شعار الثورة "الشعب يريد". وتضمن العبارات المفتاحية التالية :" كرامة الوطن وحريته من كرامة وحرية مواطنيه ومواطناته "و " لن يكون الاتصال بكم بحملة تبيع الأوهام الكاذبة والوعود الزائفة "، و" السبيل للتعبير عن ارادتكم الحقيقية هو اعادة البناء من القاعدة من المحلي نحو المركز" وقد شرح قيس سعيد مشروعه مبشرا بفكر سياسي جديد يتجاوز الديمقراطية التمثيلية الى الديمقراطية التشاركية، وذلك عبر انتخاب ممثلين عن المحليات والجهويات والدفع بهم الى البرلمان مع حق الناخبين في رقابة متصلة على ممثليهم و سحب الثقة منهم والتقدم بمبادرات تشريعية. وفي هذا المنطق ما يتصادم يقينا مع مصالح نخبة سياسية وحزبية متنفذة في بلاده .

والمهم أيضا أن يطلع القارئ في مصر على انحياز قيس سعيد لدولة الرعاية الاجتماعية المسئولة والملتزمة تجاه كافة مواطنيها .وهنا نص في بيانه إلى الشعب التونسي على :"أن تستعيد الدولة دورها الاجتماعي في كل القطاعات انطلاقا من الصحة والتعليم والضمان (التأمين الاجتماعي) وصولا الى كل القطاعات الأخرى من الطفولة والشباب والمرأة والمسنين والمتقاعدين والمهاجرين. والمرافق العمومية على وجه الاجمال (المقصود من خدمات الكهرباء والمياه والنقل وغيرها) لا يجب ان تخضع لمعايير الربح ومقاييس السوق والتجارة، لأن حقوق المواطن، بل وحقوق الإنسان ليست بضاعة أو أسهما تتقاذفها قوانين العرض والطلب ". وفي هذا ما يستعدى أصحاب القرار والمصالح الرأسمالية في فرنسا والولايات المتحدة والغرب عموما، ويصطدم مع اكراهات الصندوق والبنك الدوليين على تونس بمقضى اتفاقات الاقراض المبرمة، ومعها ما يسمي بـ " الاصلاحات الهيكلية الضرورية" للاقتصاد التونسي.

شكوك ومخاوف 

استمعت من تونسيين ثقاة  إلى الكثير من الوقائع عن استقامة الرجل، ولمست في لقائنا جديته واستقامته. وأدرك انه محافظ على صعيد الحريات الفردية والسلوك الاجتماعي. وهذا ما يهيج ضده جانبا من  "حداثيي تونس "، ويثير توجسهم. بل وفي هذا  مع إعادته الاعتبار لاستقلال القرار الوطني وانحيازه إلى جانب الشعب الفلسطيني بلا لبس او حسابات سلطة أو مال ومصالح ما يقلق دوائر حكم في فرنسا وغيرها. وقد بدا وكأن صعوده في الصناديق وإلى قصر قرطاج قد دفن ولو الى حين تلويح الرئيس البورقيبي الراحل "السبسي" بسن تشريع للمساواة في الميراث، لكن من الجنون والكذب والافتراء الزعم بأن الرجل ينتسب بأي حال إلى الإسلام السياسي أو السلفية. هو بالقطع محافظ في العديد من القضايا  الثقافية المجتمعية التي تشطر تونس وأهلها، لكنه ثوري وراديكالي مندفع على جبهة السياسة واعادة بناء نظام الحكم. ومن الصعب الآن التنبؤ بما ستؤول اليه حالة الأمل والتفاؤل بين المواطنين العاديين في الشارع بشأن وصول هذا الرجل الذي تسبقه سمعه النظيف المستقيم القادم من خارج النخبة السياسية و"السيستيم" الحامل لمشروع اعادة الثورة والديمقراطية للشعب؟. 

وهنا وفي هذه اللحظة غير العادية من الزمن التونسي ثمة شكوك ومخاوف. فتعديل الدستور لإعادة بناء السلطة من أسفل ومن الأطراف الى المركز تبدو مهمة شبه مستحيلة اذ يتطلب اغلبية ثلثي البرلمان قبل المرور إلى الاستفتاء الشعبي . كما أن تمرير الرئيس الجديد مبادرات تشريعية (مشروعات قوانين) معلق بموازين القوى في برلمان شبه مشرذم بين كتل نيابية سبع وفتات لا يمتلك أي منها منفردا ولو ربع مقاعده. كما أن مشروع الفكر السياسي الذي يحمله يهدد بالأصل الثقل المتميز للبرلمان والأحزاب. وتجنب "عزلة محتملة " على ساكن قرطاج الجديد تتطلب منه جهدا وانصياعا لمنطق تغليب " التوافق" الذي حكم تونس بعد الثورة. 

هذا عن الشكوك، أما المخاوف فتتعلق بما ظهر مع الاحتفال بانتخاب قيس سعيد بهذا الاكتساح من ممارسات في الشارع منسوبة لبعض مناصريه لتصفية الحسابات مع من يوصفونهم بـ "إعلاميي العار". أولئك القادمون محملين بخطايا نفاق الاستبداد وموالاة الفساد قبل الثورة ليعودوا للتنكيل معنويا بالشعب والثورة والديمقراطية والحريات ويمارسون التضليل واللامهنية. ومع هذه التصفية مظاهر مقلقة بحق تفيد التضييق على ممارسة الصحفيين للمهنة في الشارع. وقد اضطر الرئيس الجديد للتصريح بأنه يحترم  الصحافة والصحفيين ويقدرهم وليس مع أي من هذه الاعتداءات والممارسات السلبية. لكن على أي حال، فإن مايدعو لبعض اطمئنان على هذا الصعيد أن بتونس بعد الثورة مجتمعا مدنيا مدافعا عن الحريات والحقوق له أنياب ومخالب، كما أن هناك صحافة متنوعة حرة متيقظة وتعدد حزبي وحريات في التنظيم والتجمع السلمي والاحتجاج . بامكان كل هذا ردع من تسول له نفسه الارتداد عن مكاسب الثورة على صعيد الحريات، والتي يتمتع بها حتى أعداء الثورة والديمقراطية. 

إلا أن المخاوف التي تنطوي على مخاطر أعلى  هي تلك التي تتعلق بالمسافة بين ما بشر به قيس سعيد المرشح الاستثنائي وبين قيس سعيد الرئيس في الحكم وبين رجال القصر.وهنا حسابات مستقبل تبدأ باستعجال التغيير وتحسن أحوال المواطن التونسي وتعويل مبالغ فيه وغير واقعي على "الرئيس"، ولا تنتهى عند أمل ولد بين الناس في الشارع يخشى خيبه المسعى. 
-------------------------------
تونس - كارم يحيى






اعلان