غاز صهيوني في مصر.. هل هذا معقول ولمصلحة من؟!
يحتفي إعلام الكيان الصهيوني بتصدير الغاز الطبيعي لشركة مصرية في صفقة قيمتها 15 مليار دولار لتصدير 64 مليار متر مكعب على مدى 10 سنوات، بمتوسط سعر يبلغ 6 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية.
وتبلغ جملة احتياطيات الغاز الطبيعي التي يضع الكيان الصهيوني يده عليها بما فيها المتنازع عليها مع دول أخرى نحو 0,8 تريليون متر مكعب، وهو قزم بالنسبة لمصر التي تملك احتياطيات قائمة ومثبتة بلغت نحو 2,2 تريليون متر مكعب عام 2017، وهي مرشحة للتضاعف مع الاكتشافات الجديدة في المنطقة الاقتصادية المصرية في البحر المتوسط.
وخطورة هذا الحدث تكمن في أن استيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني يشكل إقرارا بملكية ذلك الكيان الغاصب لحقول الغاز المتنازع عليها التي يستخرج منها هذا الغاز وعلى رأسها حقلي "ليفاثان" و"تمار".
كما أن ذلك الاستيراد يروج لصورة ذلك الكيان كمصدر للغاز الطبيعي لدول مصدرة تقليدية مثل مصر، وهذا سيعطيه أولوية في السباق على تصدير الغاز لأوروبا التي تشكل أكبر مستورد للغاز في العالم والتي تشكل سوقا محتملة لصادرات الغاز المصرية من حقول البحر المتوسط.
ومصر التي كانت تصدر الغاز للكيان الصهيوني لا تعاني من عوز في الغاز وعمر احتياطياتها عند مستوى الإنتاج الحالي يبلغ 45 سنة. وتلك الاحتياطيات يمكن أن تتضاعف إذا أضيفت إليها حقول المياه العميقة في البحر المتوسط والمكتشفة حديثا، حيث أن احتياطيات حقل "ظهر" وحده تبلغ نحو 30 تريليون قدم مكعب أي نحو 850 مليار متر مكعب (المتر المكعب يساوي 35,3 قدم مكعب).
وتشير تقديرات غير مثبتة إلى أن الاحتياطيات المحتملة لحقل "نور" البحري شمال سيناء يمكن أن تصل إلى 90 تريليون قدم مكعب أي نحو 2,6 تريلون متر مكعب بما يمكن إذا تم تأكيده، أن يرفع إجمالي احتياطيات مصر من الغاز الطبيعي إلى أكثر من 5,5 تريليون متر مكعب.
وعلى صعيد الإنتاج بلغ حجم الإنتاج المصري نحو 49 مليار متر مكعب من الغاز عام 2017 مقارنة بنحو 61,3 مليار متر مكعب عام 2011، ونحو 58,8 مليار متر مكعب عام 2012، ونحو 56,4 مليار متر مكعب عام 2013، ونحو 48,8 مليار متر مكعب عام 2014، ونحو 44,3 مليار متر مكعب عام 2015، ونحو 42 مليار متر مكعب عام 2016. أي أن الإنتاج الذي تراجع كثيرا خلال الفترة من عام 2012 حتى عام 2016 قد بدأ في الصعود بداية من عام 2017.
وتشغل مصر المرتبة الـ 13 بين منتجي الغاز في العالم، وهي مرشحة للتقدم سريعا في ظل الاكتشافات الجديدة خاصة إذا تم تنظيم سداد مستحقات الشريك الأجنبي، وإذا عملت الشركات الأجنبية بجدية وبرغبة حقيقية في اكتشاف الثروات الطبيعية من النفط والغاز المملوكة لمصر.
وفي المؤشرين أي حجم الاحتياطيات والإنتاج يبدو الكيان الصهيوني قزما بالنسبة لمصر، وهو لا يظهر ضمن قائمة الدول الأهم في احتياطيات وإنتاج الغاز الطبيعي. كما كان يستورد الغاز من مصر حتى عام 2012 بأسعار بالغة التدني. ويعتمد هذا الكيان الذي نشأ بالاغتصاب ويستمر بالعربدة والعدوان وبشريان الحياة من الولايات المتحدة الأمريكية.. يعتمد على السطو على الغاز الطبيعي المملوك لدول أخرى، ولم لا وهو نفسه ووجوده عبارة عن عملية سطو تاريخية عملاقة على أرض شعب آخر هو الشعب الفلسطيني.
وبغض النظر عن أن أي موارد في المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية لفلسطين التاريخية هي موارد طبيعية فلسطينية ينهبها الكيان الصهيوني، فإن حقول الغاز الرئيسية التي يدعي هذا الكيان ملكيته لها هي حقول متنازع عليها مع دول أخرى بما يستدعي الرجوع لقواعد اقتسام الموارد الطبيعية البحرية قبل أي اعتراف أو تجارة بشأن ذلك الغاز لمن يريد ذلك.
وتقوم القواعد القانونية الدولية على الملكية الكاملة لثروات المياه الإقليمية (12 ميل بحري) والاقتصادية (200 ميل بحري) مع إمكانية التنقيب عن النفط والغاز حتى 350 ميل بحري لدى إضافة ما يسمى بالمنحدر القاري. وفي حالة وجود دولة أخرى على مسافة أقل من 24 ميل بحري بالنسبة للمياه الإقليمية، يتم الاقتسام بخط وهمي في منتصف المسافة بين الدولتين، أو أقل من 400 ميل بحري فتكون حدود المنطقة البحرية الاقتصادية هي خط وهمي في منتصف المسافة بين الدولتين. وبالطبع يتم ذلك الحساب على ضوء أقرب نقطة في كل دولة من المورد الطبيعي المكتشف.
لكن الكيان الصهيوني يلجأ لخلق الحقائق على الأرض كأمر واقع بتواطؤ من كبريات شركات التنقيب عن النفط والغاز وبالذات تلك التي تنتمي للإمبراطورية الأمريكية، وهي معضلة تواجه مصر وغيرها من الدول لأن تلك الشركات هي التي تملك أكثر التقنيات تطورا في استكشاف النفط والغاز في المياه العميقة.
وتلك الشركات التي تتمتع بمواقع احتكارية عالمية وتنسق مع بعضها البعض هي التي تقرر تطوير استغلال احتياطيات أي بلد من النفط والغاز، أو الحصول على امتيازات للتنقيب لمجرد تعطيل ذلك الاستغلال لحرمان ذلك البلد من إيرادات محتملة من ثرواته الطبيعية، وذلك في المناطق التي يحتاج الاستخراج فيها لتقنيات تنفرد هي بامتلاكها كما هو الحال في استخراج النفط والغاز من المياه العميقة.
وكسر ذلك الاحتكار التقني مجرد مسألة وقت في ظل التطور التقني السريع لشركات خارج الولايات المتحدة وأوروبا. وقد حصلت شركة إكسون موبيل الأمريكية مؤخرا على امتياز التنقيب عن النفط والغاز قبالة السواحل الشمالية لمصر، إلى جانب امتيازات شركات أخرى أهمها "إيني" و"بريتش بتروليم".
وقد شجعت العربدة الصهيونية بشأن حقول الغاز في البحر المتوسط، تركيا على محاولة الاستحواذ على جزء من تلك الثروة الطبيعية رغم أنها بعيدة تماما عن أي حقوق في تلك المنطقة حيث أن المياه الإقليمية والاقتصادية للجزر اليونانية وخط الحدود بين قبرص اليونانية وتلك الجزر يغلق أي امتداد تركي في البحر المتوسط تجاه منطقة تركز احتياطيات الغاز الطبيعي في البحر المتوسط.
وأكبر الحقول التي استحوذ عليها الكيان الصهيوني هو حقل "لفياثان" الموجود في محيط جبل إراتوستينس البحري على عمق يتجاوز 1500 متر. ويحتوي الحقل على 16 تريليون قدم مكعب أي نحو 453 مليار متر مكعب.
وهناك تقديرات مختلفة حول بعد الحقل عن كل من حيفا ودمياط حيث يشير بعض الخبراء إلى أن الحقل موجود على بعد 190 كيلومتر شمال دمياط، ويبعد نحو 235 كيلومتر غرب حيفا، مقابل تقديرات أمريكية متطرفة في انحيازها الصهيوني تشير إلى أنه يبعد 130 كيلومتر فقط من حيفا.
وتلك التقديرات الأمريكية تنطلق من مصلحة شركة "نوبل إينرجي" التي تملك 39,7% من الحقل المذكور. وطبعا كل يقيس بعد الحقل الكبير المساحة من النقطة التي يريد القياس منها، ولابد أن تكون هناك حقيقة فوق الجميع ويمكن استجلاء تلك الحقيقة المتعلقة بالمسافة بين الحقل وكل من دمياط وحيفا من خلال التحكيم أو لجنة علمية دولية يتم الاتفاق عليها.
وإذا لم يكن الحقل بكامله داخل المنطقة الاقتصادية لمصر، فإن مصر يمكنها أن تعمل على استخراج الغاز من الجزء الذي يقع ضمن منطقتها من هذا الحقل إذا أثبتت القياسات العلمية الدقيقة أحقيتها بأي جزء منه.
ويمكن النظر لخبرة اقتسام حقل الشمال القطري-الإيراني العملاق الذي يعتبر أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم باحتياطيات تبلغ 51 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي ومكثفاته. وقد بدأت قطر في استخراج الغاز منه عام 1989. ولأنه ممتد على مساحة كبيرة تبلغ 9700 كيلومتر مربع منها 6000 كيلومتر مربع تخص قطر، ونحو 3700 كيلومتر مربع تخص إيران، فإن الأخيرة دخلت على الخط وبدأت في استثمار ما يقع منه في المنطقة البحرية الاقتصادية الخاصة بها وفقا للقواعد الدولية وأصبح ذلك الحقل الذي أسمته "فارس الجنوبي" أهم حقول الغاز لديها.
وإذا وقع مخزون من النفط والغاز ضمن حقوق دولتين فإن الدولة التي تبدأ في استغلاله أولا يمكنها سحب كل المخزون إذا لم تبدأ الدولة الأخرى في استغلال حقوقها فورا وفي وضع ضوابط على الاستخراج تلتزم بها الدولتان حتى تحصل كل منهما على حقوقها. أما حقل "تمار" باحتياطياته البالغة 240 مليار متر مكعب فإنه متنازع عليه مع لبنان، وحقل شمشون وهو حقل صغير بالمقارنة بالحقول الأخرى يعتبر أقرب لمصر.
وعلى أي حال فإن التفاصيل الفنية والقانونية المتعلقة بحقوق مصر في حقول الغاز والنفط في البحر المتوسط تستدعي جهودا حثيثة ودؤوبة لتحديد تلك الحقوق بدقة وحمايتها.
أما القول بأن استيراد مصر للغاز من الكيان الصهيوني هو إنجاز وأن منشآت الإسالة في مصر ستصبح قاعدة مركزية للإسالة الإقليمية فإنه يحتاج إلى تأكيد بمنع دخول أي متر مكعب من الغاز الصهيوني إلى السوق المصرية.
وللعلم فإن الإعلام الصهيوني يؤكد مرارا وتكرارا أن صادرات الغاز لمصر موجهة للسوق المحلية المصرية! كما أن استخدام الكيان الصهيوني لمنشآت مصرية لإسالة غاز مشكوك في أحقية ذلك الكيان به هو أمر غير مقبول ويعطي غطاء للسطو الصهيوني على موارد الغاز في المتوسط.
وقد يكون الأمر صفقة لرجل أعمال شارك في احتفال سفارة الكيان الصهيوني بذكرى اغتصابه لفلسطين باعتباره صديقا وشريكا لذلك الكيان، لكنه لم ولن يكون فخرا أو مصلحة لمصر المعنية أساسا بحماية حقوقها ومواردها من النفط والغاز في منطقتها الاقتصادية في البحر المتوسط من كل المطامع وبخاصة الصهيونية، والمعنية أيضا بالتحول لمصدر كبير للغاز إلى أكبر سوق مستوردة للغاز الطبيعي في العالم أي أوروبا.
------------------
بقلم: د. أحمد السيد النجار*
*خبير اقتصادي ورئيس مجلس إدارة سابق لمؤسسة الأهرام