30 - 06 - 2024

المشروع إكس وسد النهضة

المشروع إكس وسد النهضة

بمناسبة 23 يوليو وما تحمله من دلالات ومعاني فارقة على الأقل لأبناء جيلي تذكرت كلمات عزيز أباظة والتي لحنها الرائع السنباطي وشدت بها كوكب الشرق أم كلثوم. تقول الكلمات:

"كَانَ حُلمًا فخَاطِرًا فاحتِمَالاً .. ثمَّ أضحَى حقِيقةً لا خيَالَاً!" إنها تحكي بشكل موجز قصة السد العالي الذي تحول ليصبح رمزا للكرامة المصرية وأحد عوامل نهضة المحروسة في ظل تقلبات عالم الحرب الباردة.

يبدو أن إثيوبيا أرادت أن تسير على نفس المنوال وإن اختلف السياق .كانت تحلم في نفس التوقيت الذي بنينا فيه السد العالي بأن تبني سلسلة من السدود على النيل الأزرق لتصبح لها اليد الطولى في التحكم بموارد النهر ويصبح سد مصر العالي تحت رحمة سدودها.

المشروع إكس وسد النهضة

كانت الفكرة الأثيوبية ترجع لأواخر الخمسينيات عندما تم تكليف مكتب الاستصلاح الأمريكي إعداد دراسة عن السدود الأثيوبية. وبالفعل صدر التقرير عام 1964 وأقترح موقع السد الحالي في إقليم بنيشنقول على بعد نحو أربعين كيلو مترا من الحدود السودانية وأطلق عليه آنذاك سد الحدود.

تم إحياء الفكرة مع ميليس زناوي ابتداء من عام 1993 الذي كان يحلم بأن تصبح المياه الأثيوبية بمثابة الذهب الأزرق والتي يتم مقايضتها بالمال. ومع ذلك تحولت فكرة السدود الأثيوبية إلى واقع ملموس عام 2009 حيث تم إجراء المسوح المطلوبة في المنطقة. وفي 2010 تم تسليم التصميمات الخاصة بالسد.وخلال تلك الفترة كان العمل يتم بشكل سري وأطلق عليه اسم "المشروع إكس". وفي عام 2011 تم التعاقد مع شركة ساليني الإيطالية على التنفيذ. كان السد يطلق عليه سد الألفية ثم تحول بعد ذلك ليصبح سد الألفية الأثيوبي العظيم بما يحمله ذلك من دلالات ولاسيما بعد مضاعفة سعة خزان السد لتصل إلى 74 مليار متر مكعب وهو مايفوق احتياجات أثيوبيا التنموية بكثير.

منذ بداية عملية التنفيذ في عام 2011 ، تم بناء السد في موقعه المحدد على النيل الأزرق الذي استمر في التدفق عبر موقع البناء الضخم.

تم بناء الهياكل الضخمة على جانبي النهر دون أي مشاكل.اما في منطقة الوسط ، فقد تم تحويل النهر عبر قنوات أو أنابيب خلال موسم الجفاف ، للسماح ببناء هذا القسم.وبالفعل اكتمل بناء الجزء السفلي من القسم الأوسط حيث يتدفق النهر حاليًا من خلال قنوات فرعية أسفل جدار السد.

خلال موسم الأمطار سوف تكون كمية المياه التي يمكن أن تمر عبر هذه القنوات الفرعية أقل من كمية تدفق المياه التي تصل إلى منطقة السد ، مما يعني أنها سوف تزيد من مخزون المياه في بحيرة السد .ومكمن الخطورة الآخر هو أن أثيوبيا في حالة عدم وجود تنسيق أو اتفاق حول قواعد الملء والتشغيل تستطيع إغلاق بوابات بعض القنوات الفرعية لزيادة كمية المياه المحتجزة وهو ما يؤثر على تدفقات المياه الواردة لمصر والسودان.

مراحل الملء الأول للسد

استطاعت إثيوبيا أن تستمر في البناء وأن تكمل المرحلة الأولى من الملء دون اتفاق وهو ما أكده رئيس الوزراء الأثيوبي أبيي أحمد ورغم معارضة كل من مصر والسودان فيما يمكن أن نطلق عليه سياسة فرض الأمر الواقع وبالمخالفة لكافة المبادىء والقواعد الدولية والالتزامات الثنائية. المهم خلال هذه السنة الأولى احتجزت اثيوبيا 4.9 مليار متر مكعب من المياه خلف جدار السد ، مما يسمح لها باختبار المجموعة الأولى من التوربينات( عدد 2 توربين).لاحظ أنه في المتوسط ، يبلغ إجمالي التدفق السنوي للنيل الأزرق 49 مليار متر مكعب . وهو ما يعني أن كمية المياه المحجوزة غير مؤثرة علينا في الوقت الراهن وهو ما يفرض ضرورة سرعة التوصل إلى اتفاق شامل.

في موسم الجفاف سوف تنحسر البحيرة قليلاً ، مما يسمح باستكمال بناء جدار السد . أما المرحلة الثانية من ملء السد في العام القادم فسوف يتم احتجاز 13.5 مليار متر مكعب أخرى لاختبار باقي التوربينات. يعني ذلك أن أثيوبيا سوف تصبح قادرة على التحكم وإدارة تدفقات المياه خلال هذه المرحلة بشكل كبير ولن تستطيع الزعم بأن السد ملء نفسه بنفسه.

أما المرحلة الثالثة فإن إثيوبيا تزعم إن الملء الأول سوف يستغرق ما بين خمس إلى سبع سنوات حيث تصل بحيرة السد إلى أقصى سعة لها وهي 74 مليار متر مكعب . عند هذه النقطة ، يمكن أن تمتد بحيرة السد لمسافة 250 كيلومترًا أعلى النهر.

ما هي المخاطر المحتملة ؟

بعيدا عن مسألة أمان السد وتأثيراته البيئية والاجتماعية حيث أن الوقت أصبح متأخرا كما أن أشقائنا في السودان وهم الأكثر تأثرا لايلقون لها بالا فإن ما يقلقنا في المحروسة هو:

أولا: لا ترغب أثيوبيا بالالتزام بحجم معين من تدفقات مياه النهر وفقا لنماذج قياسية طوال سنوات الملء. ولاشك أن ذلك قد يؤثر على منسوب المياه التي تصل إلى السد العالي في أسوان.

ثانيا:في سنوات الأمطار العادية أو فوق المتوسط لن تكون هناك مشكلة ، ولكن المشكلة خلال فترات الجفاف الطويلة التي يمكن أن تستمر لعدة سنوات. كيف يمكن تعويض النقص في تدفقات المياه التي تصل إلى مصر. تلك هي المسألة.

ثالثا لاتزال أثيوبيا ترفض وجود آلية دائمة للتحكيم من أجل فض المنازعات المستقبلية. كما أنها حاولت إثارة قصة المحاصصة وتقسيم المياه بما يسمح لها بإقامة سدود أخرى على النيل الأزرق. وقد تم التوافق في القمة الإفريقية المصغرة وفقا للبيان المصري على الفصل بين مفاوضات السد وقضية الحصص المائية والسدود الأخرى.

بيد أن المشكلة الأكثر خطورة تتمثل في ميثولوجية النهر والتوظيف السياسي له من جانب النخبة الحاكمة في أديس أبابا باعتباره عامل توحيد يمكن من خلاله القفز على مشكلات الداخل الأثيوبي المنقسم.

لقد ركزت معظم الدراسات الخاصة بنهر النيل على اكتشاف منابعه ومعرفة نظامه الهيدروليكي مع إهمال الجوانب الثقافية والدينية التي شكلت وجدان الشعوب النيلية عبر التاريخ. طبقا للعهد القديم وحتى الجديد يعد النيل الأزرق أحد أنهار جنة عدن الأربعة وكان يطلق عليه اسم جيحون.وبعد خروج آدم من الجنة أصبح النهر بمثابة حلقة ارتباط بين السماء والأرض وتحول إسمه ليصبح آباي بالأمهرية والتي تعني أبو الأنهار.

ومنذ العصر الإمبراطوري وحتى أبي أحمد لم يستطع أحد نزع طابع القداسة عن النهر الذي أصبح في الإدراك العام منحة إلهية يزيد عطاؤها وينقص حسب درجة إيمان الناس وتقربهم إلى الله. لم يكن مستغربا أن يستخدم أباطرة الحبشة هذا السلاح ويوظفوه سياسيا في التعامل مع مصر كما اتضح في العصر المملوكي وخلال فترة الارتباط بين الكنيستين المصرية والأثيوبية.واستمرارا لهذا النهج أعلن وزير الخارجية الأثيوبي الحالي في أكثر من مناسبة أن المياه مياهنا والنهر لنا.

بعيدا عن الجوانب الدينية والروايات المحملة بأبعاد أيديولوجية وسياسية فإن مصلحة أثيوبيا من حيث المنظور الواقعي ولكي يكون السد مشروعا إقليميا وتنمويا يحقق مصالح الجميع تكمن في توقيع اتفاق ملزم يحقق الحد الأدنى من مطالب كل من مصر والسودان وإلا فإنها تدفع المنطقة بأسرها إلى حافة الهاوية.

ملحوظة . نحن نثق في حكمة ووطنية صانع القرار المصري في سياق هذه الظروف الموروثة منذ عام 2009 وتغير موازين القوى الدولية والإقليمية.المطلوب هو الاصطفاف الوطني وتبني حملات شعبية تؤكد على حقوق مصر المائية.

---------------------

 بقلم: د. حمدي عبد الرحمن

مقالات اخرى للكاتب

رومانيا تشارك في مؤتمر الاستثمار للدخول  في مشاريع اقتصادية جديدة مع مصر





اعلان