19 - 10 - 2024

الاسكندر له قرنان

الاسكندر له قرنان

كلما هلت ذكرى الهجرة الشريفة، أرى نفسي صبيا أسعى بعد صلاة الفجر، لأحضر من الحقول  والحدائق بضع سعفات من البوص الأخضر المخضل بالندى.

كانت عادة سنوية ، حيث أرشق تلك السعفات في ثقوب الباب والنوافذ تيمنا بعام سعيد.

اختيار البوص له مغزى عميق في الوجدان الشعبي الموروث، فهو دائم الخضرة ، يوحى بالأبدية ، فلا يتخلص من أوراقه العريضة في خريف أو شتاء، كما أنه رمز للصلابة والتحمل، لا ينتظر رعاية أو ريا أو تسميدا، بل ينمو في أي مكان وزمان ، صامدا أمام الظروف المناخية: منتصب صيفا كأنه حارس المحاصيل، وعندما تهب الأعاصير، ينحني بدهاء لتمر من فوقه. كلما اجتث ربا وصار أكثر تماسكا وكثافة.

هذا النبات العجيب عاش معنا: كبارا وصغارا، فهو العمود الفقري للأسقف والأسيجة في الريف ، قبل الخرسانة والتطور العمراني،كما كانت تصنع منه الأكياب ، وهى حصائر للجلوس ومصدات للرياح.

لا غنى عنه كذلك في تجهيز الصنار، وصنع سلال الخضر ، ومأوى الكتاكيت، والمناقيش التي تشحن بالخيوط السميكة وترقع الشباك الممزقة.

البوص لم يغفل أصدقاءه من الأطفال،فجعلوه مزامير ونايات شجية، وهياكل للطائرات الورقية،ومحاور لدراجات بدائية من أغطية الكازوزة ، وعرائس للبنات.    

ثمة نوع ينمو على شواطئ بحيرة البرلس القريبة يسمى "الريحى"، وهو أقل سمكا وصلابة من بوص الفلاحين، تستخدمه شركات الورق في صناعة اللباب، كما تستخدمه بحيرة مريوط في إقامة مستعمرات تلجأ إليها الأسماك.

قدم جماعة من الأغراب في السبعينات واستوطنوا قريتنا، فكانوا يذهبون فجرا في سيارات نقل ضخمة، ويعودون عصرا محملين بالبوص الريحى ، متجهين إلى شركة راكتا على مشارف الإسكندرية.

هؤلاء القوم اندمجوا في نسيج القرية ،وأدخلوا فيها عاداتهم في الطعام والغناء والملابس، من أبرز ما أضافوه ، بنطلونات للنساء من الكستور أو النهضة، يرتدينها تحت الأثواب.

من يومها اختفى التلصص على اللواتي يغسلن على شاطئ الترعة،فلم يعد ثمة أمل في رؤية كنوزهن، مع وجود البنطلون.

بقى نوع من البوص، قد لا يزرع في مناطقنا، لكن الصيادين يسعون خلفه، فيشترونه بأثمان غالية من محافظة الغربية، خاصة قرية " قرنشو" التي يجود فيها.

انه البوص الرومي  الغليظ الذي يرتفع  نحو خمسة أمتار في الهواء، ويصلح كمجاديف.

ولأنهم يدفعون فيه الكثير، فقد أصبح مطمعا ، فلم يجد الصيادون بدا من اصطحاب مجاديفهم فجرا، والعودة بها في العشية، تكاد تخرق أعين الماره.

لأن البوص يعيش بيننا، ويدخل بيوتنا وتاريخنا وقصصنا، فقد قبلته الأمثال الشعبية كأحد رموزها الهامة:

فالبنت النحيفة يقال إنها مثل البوصه،والمرأة الدميمة إذا تأنقت، يشار إليها : لبس البوصه تبقى عروسه.-

ورد في الميثولوجيا الإغريقية أن حلاق الاسكندر الأكبر، اكتشف قرنين على جانبي رأسه،ولما خشي أن يخبر مخلوقا بالسر، ثقل عليه حتى كاد يهلك، لكنه وجد ضالته في أجمة بوص، فهمس لها بما رآه واستراح،ولم يستطع البوص أيضا أن يتحمل ، فكلما حركته الريح، يخرج صوتا يقول:

-الاسكندر له قرنان
----------------------------
بقلم: سمير المنزلاوى

مقالات اخرى للكاتب

وما تفنى العناقيد!