30 - 06 - 2024

جمال أسعد عبد الملاك "شاهد على العصر" (17): البعبع .. كمال الشاذلى

جمال أسعد عبد الملاك

تعتمد الممارسة البرلمانية لا شك على التنويعة السياسية مابين أغلبية ومعارضة، وذلك لايعنى التمترس طوال الوقت تحت مسمى هذه التنويعة، فالمعارضة والتأييد لايرتبطان بالمسمى طوال الوقت وإلا فقدا معناهما وتنازلا عن مهمتهما. ولكن للأسف الشديد، لغياب الرؤية والموقف والأيدولوجيا السياسية تتداخل الأمور، ولا يتبقى غير المصلحة الذاتية التى تجعل النائب ينتمى إلى الفرصة وليس إلى الحزب بالمعنى السياسى. فإذا وجد فرصته مع حزب الأغلبية فهذا حسن، وإذا وجد فرصته مع حزب معارض فلا مانع. وعلى ذلك تتحول الممارسة البرلمانية إلى ساحة صراع تغيب عنها المصلحة الوطنية فى غالب الأحيان.

على هذه الأرضية يكون رئيس الهيئة البرلمانية لأى حزب هو من يتمكن من المشاركة فى هذا الصراع لإثبات الوجود فى مضابط البرلمان، لذا نجد أن رئيس الهيئة البرلمانية للحزب الوطنى وهو حزب الأغلبية، هو المسيطر والمستبد والذى يفرض رؤيته على اعتبار أنها رؤية الحزب الذى يرأسه رئيس الجمهورية وهو الحزب الذى يشكل الحكومة. وطالما فيها رئيس جمهورية وحكومة تكون النتيجة آمين موافقون موافقون على ما تريدون!. 

هنا كان كمال الشاذلى يقوم بالمهمة خير قيام، فمن هو كمال الشاذلى ؟ كان يتصدر مشهد الحرس القديم داخل الحزب الوطنى فى عهد مبارك، فهو خادم المعبد الصاعد من أسفل ليحمل مفاتيحه كلها.. لايعنيه نظام الحكم إذا كان شموليا أو ديمقراطيا ولكن كل ما يعنيه هو استمرار السلطة واستمرار الرئيس فى الحكم. فهو يسير حسب الموسم السياسي، دائما ما تكون بوصلته هى تفاصيل الطقس الرئاسى. 

انتخب نائبا فى البرلمان عام 1964وكان فى الثلاثين من عمره عن دائرة الباجور محافظة المنوفية، ركب السلم فى عهد عبد الناصر كناصرى وابن منظمة الشباب الاشتراكى حتى أصبح أمينا للاتحاد الاشتراكى لمحافظة المنوفية، ثم تحول إلى الحزب الوطنى الساداتى وتألق وزادت خبرته فى عهد مبارك، فأصبح يعرف قيادات الشارع ومفاتيح الوصول إلى عضوية البرلمان. 

لم يصل أحد إلى البرلمان إلا من خلال المرور من بوابته عبر صفقة أو اتفاق شفهى أو ملفات تخرج فى الوقت اللازم. فهو عابر للعصور فى خدمة السلطة مادامت السلطة، تابع وليس سياسيا، بارع في تكوين جيوش الموالين، شغل منصب الأمين العام المساعد للحزب الوطنى وأمين التنظيم فأصبح من أهم أعمدة نظام مبارك. ولذا وبتلك المواصفات أصبح رئيسا للهيئة البرلمانية للحزب الوطني، فأي مشروع قانون يتم عرضه على المجلس يكون الشاذلى هو الباب الذهبى لتمريره. وهنا لا يعنى الشاذلى أو حزبه أهمية المشروع أو الحسابات المترتبة عليه، كما أن مشروعات القوانين التى كان يراد تمريرها بدون مناقشات كانت تنزل فى جدول الأعمال فى الجلسات الليلية التي لا يحضرها أغلب الأعضاء. كما أنه يتم الاعتماد على ما يسمى بديمقراطية الإعياء، والتى يصل فيها النائب إلى حالة لايريد فيها غير الانصراف إلى المنزل. 

فى إحدى هذه الجلسات المسائية وفي آخر جلسة لإحدى الدورات السنوية، تم عرض مشروع قانون بفرض ضرائب على العاملين بالخارج، وكانت التعليمات هي الموافقة وبلا مناقشة اعتمادا على أن هذه الضريبة تمثل أحد إيرادات الدولة. هنا وقفت أنا والمهندس إبراهيم شكرى فقط معترضين على المشروع لمخالفته للدستور. ولكن هى التعليمات وحسب الإشارة الصادرة من البعبع تمت الموافقة. 

مع مرور الأيام حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون مما أدى إلى قيام الحكومة بإعادة الأموال التى جمعتها من العاملين الذين سبق أن دفعوها!. هذا الوضع وذلك الدور لم يعط الشاذلى وضعا مميزا مع نواب الوطنى فحسب، ولكن كان الشاذلى دائما ما يظهر بصورة المتعالى والمتعجرف حتى على بعض الوزراء (عدا زكى بدر) فكان أحيانا يقف أمام الوزير فى المجلس متحدثا إليه وهو جالس فى مقعده. هنا كان طبيعيا أن يكون هناك ما يسمى بالمطبخ الخلفى للمجلس ويتكون من د. المحجوب وعاطف صدقى رئيس الوزراء وكمال الشاذلى. وحتى تتم الطبخة كما يريد الحزب الوطنى والحكومة ولا مانع أن تكون فى إطار الشكل أو الديكور الديمقراطى. 

كان الشاذلى يحافظ على علاقة مع إبراهيم شكرى وياسين سراج الدين، وهذه العلاقة كان الشاذلي يوظفها خير توظيف، خاصة فى حالة الاحتياج إليهما عند تمرير قانون. كان سراج الدين طيعا وناعما فقد كانت معارضته (معارضة مؤيدة أو مؤيد معارض). المهم هو التحدث حتى يظهر فى التلفزيون، حتى أنه كان أحيانا يتم الاتفاق بين الشاذلى وسراج الدين لتقديم استجواب لذر الرماد فى العيون، ولكن إبراهيم شكري، ولأن الهيئة البرلمانية تضم الإخوان، فكان التوافق لا يتم بالصورة التى كانت تحدث مع الوفد، خاصة أن الإخوان كان من الطبيعى أن يظهروا بمظهر المعارض. مع العلم أن نفس العلاقة كانت قائمة بين الشاذلى وبين الهضيبى!. هذه بعض من لمحات كواليس مجلس الشعب، ولكن وفى إطار العمل البرلمانى لم تكن الصورة بهذه البساطة. 

فعندما اشتدت معارضة العمل والإخوان فى كثير من المواقف ضد الحزب الوطني، كان الشاذلى أحيانا يستعمل بعض الأساليب الصبيانية مثل ترك نواب الأغلبية يقومون بعمليات غلوشة وتهييص على نواب المعارضة! وفى إحدى المرات كان يتم ما يسمى برفع الحصانة البرلمانية على أعضاء المعارضة للترهيب خاصة نواب العمل والاخوان. فكنت أقرأ فى الصحافة خبرا بطلب رفع الحصانة عن العضو جمال اسعد حيث قام أحد المواطنين بتقديم شكوى ضده، ولا أعلم من هو هذا المواطن ولا ماذا تم فى هذه الشكوى بل إن طلب رفع الحصانة هذا لم يطرح للمناقشة أصلا. 

كان القانون يجعل رئيس مجلس إدارة الجريدة شريكا مع رئيس التحرير فى القضايا التى ترفع على الصحيفة، وإبراهيم شكرى رئيس مجلس إدارة جريدة الشعب، وكانت هناك قضايا ضد رئيس تحرير الشعب، وبالتالي يصبح إبراهيم شكري شريكا فى الاتهام ومطلوب رفع الحصانة البرلمانية عنه. 

تم التربيط والتجهيز لجلسة ليلية حضرها جميع الأعضاء بهدف رفع الحصانة عن شكري، بدأت الجلسة وتكلم شكرى مفندا عدم دستورية القانون وذلك لعدم قانونية إشراك رئيس مجلس إدارة الجريدة وهو موقع إدارى مع رئيس التحرير وهو موقع فنى وصحفي، متهما الحزب الوطنى بالتواطؤ واسقاط الممارسة الديمقراطية لزعيم المعارضة البرلمانية. 

كانت كلمة تاريخية بكل ما تحمل الكلمة من معانى حتى أن السكون سيطر على القاعة حتى يمكن أن تسمع فيها رمية الإبرة! اسقط الامر فى يد الأغلبية وأدرك المحجوب بخبرته أن عملية رفع الحصانة عن شكرى لن تمر بسلام وستكون نتائجها الداخلية والخارجية وخيمة، كان مبارك يتابع الجلسة عن طريق القناة الخاصة التى تذيع الجلسات للرئيس مباشرة، خرج رفعت المحجوب وتحدث تليفونيا إلى مبارك مقترحا تحويل الموضوع الى اللجنة التشريعية والدستورية للتصويت. عاد المحجوب إلى الجلسة مقترحا هذا الاقتراح  (من حديث خاص لى من المحجوب)، وتمت الموافقة عليه بإشارة من الشاذلي، والأهم أن المحكمة الدستورية بعد ذلك حكمت بعدم دستورية مسؤولية رئيس مجلس إدارة الجريدة عن النشر. 

الأغلبية تحتاج إلى مثل هذه النوعيات، ولكن فى إطار الممارسة السياسية والبرلمانية وليس تحويل العملية السياسية إلى عزب واقطاعيات وكأن الوطن ملك لهذا الحزب او ذاك، فدور الشاذلى كان يستمده من علاقته الخاصة بمبارك شخصيا، الشيء الذى أوصله إلى هذه الغلظة الاستبدادية والنفعية، ولذلك كان متجاوزا لكل القيادات الأخرى فى الحزب وفى الوزارة، فكان طبيعيا أن يتطلع إلى منصب الوزير حسبما قلت له عند مقابلة مبارك بمناسبة إعادة ترشحه مرة أخرى رئيسا. عندما قال  لى الشاذلى بعد حديثى مع مبارك إنك تلعب على ثقيل، فقلت له: أنت الذي تلعب وتريد الوزارة، وبالفعل أصبح الشاذلى بعد ذلك وزيرا لشئون مجلسي الشعب والشورى. 

لاشك أن الشاذلى مثل نموذجا لشخص يضع مصلحته الذاتية فوق كل اعتبار، لاعبا بالكسبانة تحت مسميات السياسة  والوطنية وكم ترتكب الخطايا باسم السياسة والوطنية. 

يقول كمال الجنزورى رئيس مجلس الوزراء الأسبق فى كتابه (سنوات الحكم والصدام والعزلة) عن الشاذلى: قررت كرئيس لمجلس الوزراء عدم نشر أي نعى عزاء من جانب الوزراء والمحافظين على حساب الدولة تقليلا للمصروفات. بعد سنة فوجئت بمدير المراسم يخبرنى بأن شقيقة كمال الشاذلى قد توفيت، قلت له أرسل برقية حتى اتصل به تليفونيا لأعزيه. فى اليوم التالى وجدت فى الأهرام عزاء للشاذلى وباسمي، شعرت بضيق وحولت المتسبب للتحقيق حتى لا أفقد مصداقيتى أمام الرأى العام. تحدث الشاذلى إلى مبارك فى الموضوع، فاتصل بى زكريا عزمى قائلا: لاداعي للتحقيق، وأن هذا الأمر لن يتكرر مرة أخرى! 

ويستطرد الجنزورى ويوضح ما يحتاج إلى التوضيح، فيقول: أذكر قول مبارك لي: أنا خايف عليك من الشاذلى، فيمكن أن يسبب لك متاعب ومشاكل فى مجلس الشعب. قلت للرئيس: لا تخف ياريس أنا أعرف جيدا الشاذلي، وأرجو أن تتوقف لمدة شهر واحد عن أن تحدثه أو ترد على مكالماته التليفونية وسترى ياريس من هو كمال الشاذلى. مرت أيام وأسبوع وأسبوعان ولم يتم الاتصال من الرئيس. جن جنون الشاذلى وأخذ يتصل بي (الجنزوري) ويقول: لماذا لايتصل الريس بى ولماذا لا أدعى إلى افتتاح المشروعات ومرافقته فى السفريات. هنا أكدت لمبارك صحة وجهة نظرى فى الشاذلي وان كان مبارك لم يرد أن يشعرنى بوصول الرسالة إليه. 

كان آخر لقاء لى مع الشاذلى فى منتصف عام 2003 وكنت قد أصدرت كتابى (إنى أعترف.. كواليس الكنيسة والأحزاب والإخوان المسلمين) وكنت قد أفردت مساحة عن كمال الشاذلي (البعبع)، بعدها كنت أمر من امام مجلس الشعب وكان هو وزير شؤون مجلس الشعب ومقر وزارته بالمجلس وكان يعبر الشارع إلى مجلس الوزراء لحضور اجتماع للحكومة ، تقابلنا وسلمنا وأصر على العودة إلى مقر وزارته لاستضافتى بالرغم من إصرارى على أن يذهب للاجتماع. صعدنا الوزارة أخذنا القهوة. نزلنا سويا. ودعنى قائلا: على فكرة أنا قرأت كتابك واستمتعت بما كتب عن البعبع!
----------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك 

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (١٤)





اعلان