29 - 06 - 2024

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (1-10)

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. 
ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (1-10)

- عندما تكون لدى الحاكم رؤية وإرادة

في عُنُقي دَينُ رباعي رأيتُ أن من واجبي الوفاء به قبل فوات الأوان..دَينٌ لقائد إستثنائي وبناء عظيم هو محافظ سوهاج الأسبق اللواء محمد حسن طنطاوي عليه رحمة الله.. ودينٌ للكاتب الصحفي الكبير رياض سيف النصر الذي دافع عن الحق وساندني في صراع شرس ضد معسكر الشر والفساد .. ودَينٌ للتاريخ اوالحقيقة التي يجب أن تُكتب بموضوعية وتجرد مهما كانت العواقب.. وأخيراً وليس آخراً، دَينٌ لأهلي وناسي أبناء سوهاج الذين يجب أن يعرفوا فصلاً مهماً وفارقاً من تاريخ محافظتهم، ويقرأوا حكاية ملحمة كُبرى جرت على أرضها وكان يمكن أن تنقلها الى مكان ومكانة أُخرى لولا مؤامرات وخيانة قيادات الحزب الوطني التي عملت بكل ما تملك من قوة وسلطة على إجهاض التجربة قبل أن تكتمل وتهدد مكاسبها ومصالحها الضيقة.. وقد عاهدتُ نفسي أن اُسجل الحكاية من أولها الى آخرها، بكل تفاصيلها، متوخياً الحقيقة والصدق بقدر الإمكان، إذ كنتُ شاهداً على فصولها، بل وفاعلاً في أحداثها ومحركاً لها، إن جاز التعبير، ولذلك ستروني متواجداً على مسرح الأحداث حتى ولو كنتُ بعيداً عن الأضواء.. وأرجو أن تغفروا لي كثرة الظهور في المشهد وتكرار ذكر إسمي، إذ أنني الرواي والشاهد واحياناً صانع الحدث، ولكني في كل الأحوال رويتُ الوقائع كما حدثت، وتعمدتُ كتابة الحوارات بالعامية في كثير من الأحيان حرصاً على مزيد من المصداقية وتحري الدقة ما أمكن ذلك، وأرجو أن أكون قد وُفقتُ في مهمتي وأوفيت الدَين لأصحابه ومستحقيه كما يجب.

الذين لا يعرفون رياض سيف النصر سيكتشفون بعد قراءة هذه الحكاية الطويلة الزاخرة بالدروس والعِبر أنه فاتهم الكثير، هو كاتب صحفي بارز ينتمي لعائلة سيف النصر الشهيرة بالفيوم، ولكن انتماءه الأول لمصر ولمهنة الصحافة وقيمها النبيلة، وللغالبية الساحقة من أبناء الوطن وخاصة الفلاحين والعمال.

عمل مراسلاً حربياً لصحيفة الجمهورية ثم تخصص في أخبار المحافظات والمحليات وكانت له صولات وجولات في هذا الميدان جعلته من أكثر الخبراء المُلمين بتفاصيل الحياة وأحوال الحجر والبشر في أقاليم المحروسة من أقصاها الى أقصاها.. وكان هذا التميز والتفرد وراء الإحترام الواسع الذي حظى به بين القراء وخاصة أبناء الأقاليم، والعلاقات الوثيقة التي ربطته بالمصادر، وخاصة المحافظين ووزراء الإدارة المحلية (التنمية المحلية فيما بعد)، وهى العلاقات التي تأسست على الثقة العميقة والإحترام المتبادل..

هذه المقدمة لا تكفي ولا تفي رياض سيف النصر حقه ، ولكنها ضرورية ولازمة للتمهيد للحديث عن موقف نبيل ومعروف كبير أسداه الي شخصيا وكان يتعين علي أن أسجله للحق والتاريخ، ولكي تكون شفيعاً لدعواتي ودعواتكم بأن يَمِن الله عليه بالشفاء العاجل ويحفظه من كل سوء..

الزمان : النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم.. المكان: سوهاج، محافظتي التي وُلدتُ ونشأت بها وعشتُ فيها حتى دخولي الجامعة، ولكني انتميتُ اليها واشتبكتُ مع قضاياها ومشكلاتها وأزماتها على الدوام، وخاصة عندما ضربتها السيول العارمة آواخر عام 1994.. كانت السيول كارثة غير مسبوقة وأغرقت مساحات واسعة من جنوب الصعيد وخاصة محافظات قنا وسوهاج وأسيوط.. في البداية ، لم اُصدق ما أبلغني إياه أقاربي من أخبار الكارثة وظننتُها مبالغات من جانبهم، ولكن عندما اتصلتُ بمحافظ سوهاج في ذلك الوقت، اللواء محمد حسن طنطاوي، أدركتُ أن الأمور تجاوزت كل الحدود المعهودة ولم تعد تحت السيطرة، وإن لم يقل المحافظ ذلك صراحة نظراً لطبيعته الأمنية المتحفظة، ولأنه كان يُدرك أنه يتحدث الى صحفي وعليه أن يكون حذراً حتى لو كانت بينه وبين هذا الصحفي مساحة كبيرة من الثقة والإحترام المتبادل.. وهنا لا بد من التوقف قليلاً لأحدثكم عن هذا المحافظ الإستثناء.. جاء الرجل متحمساً لخدمة أهله في الصعيد (كانت أسرته من محافظة أسيوط) لأنه يعرف تماماً أن الصعيد وأهله تعرضوا طويلاً للحرمان والإهمال والتهميش.. ولكن الأهم من كل ذلك أنه كان صاحب رؤية وإرادة ويحترم العلم والعلماء والثقافة والمثقفين، ودليل ذلك أنه بدأ عهده في سوهاج بالبحث عن مثقفي ورموز المحافظة ليستطلع آراءهم ووجهات نظرهم في مشكلات المحافظة وسبل حلها.. وكان ذلك حدثاً غير مسبوق بل زلزالاً اهتزت له المحافظة وكل الدوائر المهتمة بالشأن العام وخاصة الصحفيين (كان حوالي ربع أعضاء نقابة الصحفيين في ذلك الوقت من أبناء سوهاج).. وفي ذلك اللقاء المشهود الذي عُقد في نادي القضاة على نيل سوهاج، أبلغ أحد الحضور، وهو مستشار مخضرم، المحافظ الجديد بأن هناك حلماً قديماً عمره أكثر من نصف قرن يراود أبناء المحافظة وهو فتح طريق بري يربط بين سوهاج والغردقة على ساحل البحر الأحمر عبر صحراء مصر الشرقية المتاخمة لحدود المحافظة، وأوضح له أن أصحاب هذا الحلم العزيز يتمنون أن يكون الطريق المأمول شريان تنمية يتمدد من خلاله العمران عبر الصحراء بعد أن ضاقت مساحة المحافظة بسكانها واضطر أكثر من نصف سكانها الى الهجرة سعياً وراء الرزق الحلال ، في داخل مصر وخارجها..

وفي صباح اليوم التالي للقاء، كان المحافظ الجديد يقف في الصحراء تحت سفح الجبل الشرقي ليحدد نقطة بداية طريق سوهاج / البحر الأحمر الذي سيشق الصحراء حتى الغردقة.. وفي تلك النقطة من الزمان والمكان، بدأ اللواء محمد حسن طنطاوي ملحمة بناء وتنمية شاملة وعبقرية في الجبل الشرقي.. لم يكتفِ بفتح طريق صاعد عبر الجبل، معتمدا على امكانيات المحافظة والمجالس المحلية من لوادر وجرارات وحفارات وقوى بشرية، ولكنه خطط لإنشاء مدينة جديدة متكاملة عند نقطة بدء الطريق سماها "الكوثر"، ثم أنشأ قرية سياحية أعلى الجبل سماها "الفردوس" وتلك الملحمة في حاجة الى كتاب يضم عشرات الفصول ليحكي قصتها كما يجب ويسجل تضحيات أبناء سوهاج البسطاء المخلصين الذين صدقوا حلم حاكم أثبت منذ اليوم الاول انه واحد منهم إذ أقام بينهم وكان يأكل معهم وسط الصحراء، فبذلوا العرق والدم لكي يساعدوه في بناء سوهاج جديدة خارج وادي النيل القديم الذي ضاق بهم وضاقوا به..

بداية تعرفي على اللواء طنطاوي كانت في مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما كنتُ في زيارة لقريتي.. وبينما نحن جلوس في دوار العائلة أو "المندرة" كما نسميها، سألت أحد الموظفين العاملين في عاصمة المحافظة عن المحافظ الجديد ، فقال لي حرفياً "دا راجل مجنون عايز يعمل طريق في الصحرا يوصل للغردقة، وعمل اجتماع مع البهوات في نادي القضاة، ودا كلام ما شوفناهوش قبل كده"!!.. ولدى سماعي هذا الكلام الذي ألقاه الرجل دون إهتمام ثم مضى الى حال سبيله، شملني حماس بالغ وغمرني فضول شديد لمعرفة ذلك الرجل الذي جاء يغزو الصحراء ويعمرها محققاً حلماً غالياً طالما كتبتُ عنه وحرضت عليه حتى إنني أستطيع دون غرور أو ادعاء أن أزعم أنني كنتُ ممَن أعادوا طرح مصطلح "الظهير الصحراوي" وذلك بفضل قراءاتي لكتابات جغرافي مصر العبقري ومفكرها الأعظم الدكتور جمال حمدان.

وللحديث بقية..
-----------------------
بقلم: أحمد طه النقر

مقالات اخرى للكاتب

في وداع





اعلان