29 - 06 - 2024

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (2-10)

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (2-10)

*فاروق الباز: ما فيش حد بيشتغل في مصر غير طنطاوي!!

في صباح اليوم التالي كنتُ في مكتب اللواء طنطاوي الذي رحب بي رغم استغرابه ذهابي الى مكتب المحافظ مُرتدياً الجلابية البلدي.. والحقيقة أنني تعمدت ذلك لإختبار رد فعله وطريقة تعامله مع أصحاب الجلابيب من أهلنا.. بدأ اللقاء متحفظاً، ولكن لم يمر وقت طويل حتى كانت "الكيمياء" قد تفاعلت بيننا وفعلت فعلها، وخاصة عندما تعرفت على العناوين الرئيسية لرؤيته في تنمية المحافظة، وتوافقت وجهات نظرنا في معظم القضايا التي طُرحت في الجلسة.. ومن جانبي، تحدثتُ بصراحة تامة كما هي عادتي مبدياً وجهة نظري المعارضة لأغلب سياسات مبارك وحكومات الحزب الوطني الديمقراطي الفاسد، وفي القلب منها تَعمُد إهمال الصعيد وتهميشه وترك تسيير شئونه للأجهزة الأمنية ذات الرؤية القاصرة واليد الباطشة.. وكانت المفاجأة المزلزِلَة بالنسبة لي موافقة الرجل على معظم آرائي المعارضة لسياسات الحكومة والحزب، وعلى وجه الخصوص رأيي في فساد قيادات الحزب الوطني والمحليات.. وكان أمين عام الحزب الوطني وراعي الفساد الأكبر في سوهاج (أ.ع.د.) يشغل في نفس الوقت رئيس المجلس المحلي، وفضلاً عن أنه كان مسنوداً من كمال الشاذلي (الأمين العام للحزب في ذلك الحين) شخصياً، فقد تمكن بمكره ودهائه من فرض سيطرته وسطوته المطلقة على المحافظين وكبار الموظفين الذين توالوا على المحافظة من خلال زرع رجاله وجواسيسه في كل الدواوين الحكومية وخاصة ديوان المحافظ.. وجاء اللواء طنطاوي ليجد نفسه محاطاً بجواسيس أمين الحزب ومنهم مديرة العلاقات العامة (التي كانت على علاقة وثيقة بأمين الحزب) ومعظم موظفي مكتب المحافظ!!..

خرجتُ من مكتب المحافظ وأنا غير مصدِق ما رأيته وسمعته من الحاكم الجديد، وأطلت من رأسي عشرات الأسئلة عن علاقة السلطة بالمثقفين والنُخَب، وتعجبتُ "كيف يخرج من أعماق دولة مبارك الفاسدة ومن قلب أجهزتها الأمنية الغبية، مثلُ هذا المسئول المنفتح على الرأي الآخر والمعارضة والذي يمتلك رؤية واضحة لمشكلات مصر بشكل عام ومشكلات الصعيد بشكل خاص؟!"..وذهبت بي الظنون كل مذهب حتى تصورتُ أن الرجل بتاريخه الطويل في أمن الدولة ربما كان يستدرجني في الكلام ويسايرني في آرائي المعارضة حتى يسبر أغواري أو "يجيب آخري" كما نقول في العامية.. وأخيراً رأيتُ أنني في حاجة إلى لقاء آخر مع المحافظ حتى أقطع الشك باليقين، وهو ما حدث بالفعل في اليوم التالي إذ مررتُ عليه في طريق عودتي الى القاهرة.. وفي هذا اللقاء تبددت شكوكي وتأكدت كل انطباعاتي الإيجابية السابقة عن الرجل، وودعته على وعد مني بأنني سأدعمه وأقف معه، وأدعو زملائي الصحفيين الى دعمه والوقوف معه، إذا ما ظل عادلاً ونزيهاً ومتمسكاً بخططه الطموح في تنمية المحافظة والنهوض بها وتحقيق حلم أبناء سوهاج في الخروج الى النهار.

بدأ طنطاوي ملحمة البناء والتنمية، وبدأتُ من جانبي، وكما وعدته، الكتابة المكثفة على صفحات "الأخبار" عن طنطاوي وتجربته في سوهاج، وكنتُ أول من وصفها بالملحمة التي تُنفذ برؤية وإرادة وعلم وتخطيط لأول مرة على أرض الصعيد.. وكنتُ كثيراً ما أكتبُ في مقالاتي أفكاراً ومقترحات للمصلحة العامة وخدمة المواطنين، وكان اللواء طنطاوي ينفذ معظم هذه الافكار والمقترحات بعد أن يناقشني فيها ويقتنع بوجهة نظري.. ومن الأفكار التي طرحتها وتم الأخذ بها إطلاق إسم "طريق الامل" على الطريق الجديد الذي سيربط بين سوهاج والبحر الأحمر.. وكذلك فكرة ترميم مكتبة رفاعة الطهطاوي ثم اقتراح إنشاء مجمع ثقافي في مدينة الكوثر يحمل إسم رفاعة، وقد خصص اللواء طنطاوي مساحة قدرها 12 ألف متر مربع لهذا المشروع الثقافي العملاق.. بل إقترحت إنشاء مدينة جديدة فوق الجبل الشرقي تحمل إسم "أخميم الجديدة" على غرار مدينة المقطم بالقاهرة.. وطرحتُ كذلك فكرة إنشاء مطار جديد فوق الجبل الشرقي.. وتم بالفعل البدء في تنفيذ هذه الفكرة الاخيرة ولكنها لم تكتمل لأن طنطاوي ترك سوهاج، وقرر المحافظ الذي جاء بعده إنشاء المطار في الغرب!!.

لفتت كتاباتي نظر كثير من الزملاء وخاصة المهتمين بتغطية أخبار الأقاليم، وكان على رأسهم بطبيعة الحال رياض سيف النصر الذي يعرفني جيداً ويعرف موقفي من السلطة عموماً، فضلاً عن أنه يثق تماماً في مصداقيتي. ومع ذلك قال لي بالحرف "معقولة اللي انت كاتبه ده يا أحمد؟!..لو أي واحد غيرك كتب الكلام ده كنت هقول إنه بينافق المحافظ بتاع بلدهم"!!،وكان ردي عليه بكل ثقة "طب تعالى وشوف".

تواصلت مسيرة البناء والإعمار بكل همة وحماس في صحراء سوهاج الشرقية (الى الشرق من مدينة أخميم الأثرية)، وخلال شهور ظهرت معالم مدينة الكوثر ومطلع الطريق الصاعد الى أعلى الجبل لينطلق شرقاً الى الغردقة، ونجحت الصحافة في تحويل أنظار الجميع، وخاصة كبار المسئولين في العاصمة، إلى الإنجازات التي يحققها طنطاوي على أرض سوهاج.. ولفرط حماسي للتجربة لم أكتفِ بالكتابة بل بدأتُ بالتنيسق مع المحافظ، الذي توثقت علاقتي به الى أقصى الحدود وخاصة بعد أن لمس تأثير ما أكتبه في "الأخبار"، تشكيل وفود من كبار الصحفيين والمثقفين لزيارة سوهاج ومشاهدة ما يحدث على أرضها، وكنت أضع بنفسي برامج الزيارات (وكان المحافظ يقرها سعيداً ويرسلها الى العلاقات العامة للتنفيذ دون أي تعديل).. وكنتُ حريصاً على أن تشمل برامج الزيارات مشاهدة ملحمة الجبل الشرقي على أرض الواقع، وزيارة آثار سوهاج (التي لا تقل في الكم والأهمية عن آثار الأقصر)، إضافة لجولة في أبرز معالم المحافظة ومصانع الحرير الطبيعي بأخميم ثم لقاء مطول مع المحافظ ومناقشة أفكاره ومشاريعه وخططه للمستقبل.. وكانت الزيارات تنتهي في أغلب الأحيان بمشاهدة معبد سيتي الأول (والد الفرعون العظيم رمسيس الثاني) في أبيدوس غربي مدينة البلينا (وهو المعبد الكامل الوحيد الباقي من آثار الأسرة الفرعونية التاسعة عشرة وكان قدماء المصريين يحجون إليه لمكانته المقدسة).. وبعد الزيارة كنا نعبر النيل شرقاً الى قريتنا لتناول الغداء في دوارنا، إذ كنتُ دائم الحرص على أن يكون جو الزيارات ودياً وبعيداً عن الرسميات ما أمكن ذلك وهو ما كان يجد القبول والترحيب والإرتياح من الزملاء الصحفيين، وخاصة أصدقائي المقربين منهم.. وكان لهذه الزيارات الميدانية من جانب كبار الصحفيين، وما يكتبونه في مقالات وتحقيقات صحفية شاملة لدى عودتهم الى القاهرة، نتائج باهرة بكل المقاييس وصارت تجربة طنطاوي في سوهاج على كل لسان في العاصمة بل وخارجها، فقد أشاد بالتجربة من أمريكا العالم المصري الكبير الدكتور فاروق الباز الذي قال بالحرف في حوار مع صحفيين مصريين كانوا في زيارة للولايات المتحدة "مفيش حد بيشتغل في مصر غير اللواء طنطاوي محافظ سوهاج"!!.. ولكن ما أعطى التجربة دفعة استثنائية وفرضها على الجميع في مصر وخاصة الحكومة وكبار المسئولين في الدولة، كان إشادة رئيس الجمهورية إذ قال مبارك لرؤساء التحرير وكبار الصحفيين المرافقين له على متن طائرة الرئاسة في طريق عودته من إحدى زياراته إلى أمريكا "اللي عايز يشوف الإنجازات بجد يروح يشوف طنطاوي بيعمل إيه في سوهاج"!!.
-----------------------------
بقلم: أحمد طه النقر

غدا .. الحلقة الثالثة

مقالات اخرى للكاتب

في وداع





اعلان