29 - 06 - 2024

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (4-10)

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (4-10)

*أهوال سيول 1994 تبدت حين ذهبتُ الى بلدتي فلم أجد إلا اللافتة!!

عندما أبلغني إخوتي وأقاربي بأن "البلد غرقت" وكانوا يقصدون القرية، ظننتُ أنهم يبالغون وأن الأمر لا يعدو أن يكون سيلاً أغزر من المعتاد، ولكن "الفار لعب في عبي" وقررتُ شد الرحال الى قريتي كي يطمئن قلبي.. نزلتُ في سوهاج وتوجهتُ مباشرة الى منزل استاذ جامعي بكلية تربية سوهاج من أبناء قريتي كان قد ألح علي أن أذهب اليه في منزله كي نتوجه معاً في سيارته الى القرية.. ولما كان الوقت متأخراً قبلتُ دعوته الكريمة للمبيت عنده على أن نتوجه معاً الى القرية في الصباح.

قبل وصولنا الى القرية شاهدتُ آثار الكارثة على القرى التي مررنا بها والتي تحولت الى جزر صغيرة وسط بحر من مياه السيول، وهو المشهد الذي أعاد الى ذاكرتي أيام "الفيضان" الذي كان يغمر البلاد قبل بناء السد العالي، وكانت قريتنا والقرى الأخرى تتحول أثناءه الى نقاط صغيرة وسط محيط واسع، مع فارق أساسي هو أن الفيضان كان له موعد محدد ومعلوم ولكن السيول تدفقت فجأة وبلا مقدمات!!.

اختفت معالم القرى تماماً ، ولولا وجود اليافطة أو اللافتة المكتوب عليها " قرية أولاد يحيى الحاجر" ما استطعتُ التعرف على قريتي التي غمرتها مياه السيول تماماً حتى لم يعد يظهر منها سوى شواشي النخيل والادوار العليا!!. .ولم يكن دخول القرية ممكناً إلا عن طريق القوارب والمراكب الصغيرة والعوامات.. وكان معظم أهل البلد من الرجال والشباب بالذات متواجدين على جسر الطريق الرئيسي الذي يقع على الضفة الغربية لترعة نجع حمادي الشرقية، والذي يربط بين محافظتي سوهاج وقنا، بينما كانت النساء والأطفال قد تجمعوا في المنازل التي لم تغرق لأنها مبنية بالأسمنت المسلح أو مقامة في سفح الجبل أو في مناطق مرتفعة .. كما نجت من السيول ، التي أغرقت القرية الرئيسية المحصورة بين الترعة وجبال البحر الأحمر الشرقية التي تدفق منها الطوفان، بضعة بيوت غربي الجسر وكان بينها بيت كبير يمتلكه إبن عمي الأكبر عبد الحكم النقر، وهو البيت الذي تحول الى مركز إغاثة رئيسي يقيم فيه كبار المسئولين والصحفيون وتُنقل اليه كل مواد وأدوات الإغاثة والمساعدات التي تدفقت على قريتنا المنكوبة من الجهات الحكومية والمنظمات الأهلية وأبناء القرى المجاورة.

كان الموقف أشبه بيوم الحشر، وكان أول ما فكرتُ فيه بعد أن أفقتُ من هول الصدمة وتأكدتُ أنه لم تقع خسائر في الأرواح، هو أن امارس مهنتي وأكتب للصحيفة عن الطوفان الذي لم يسبق له مثيل.. كان اليوم يوم خميس ولم استطع إرسال خبر لينشر يوم الجمعة لأن الوقت كان متاخراً ولأنه كان لا بد من العودة الى سوهاج لإرسال الخبر بالفاكس.. وأرسلتُ الخبر بالفعل يوم الجمعة لينشر في "أخبار اليوم" يوم السبت تحت عنوان مثير ستكون له تداعيات كثيرة فيما بعد، كان العنوان الذي اخترته للخبر الموسع "ذهبتُ الى بلدتي فلم أجد إلا اللافتة"!!.

كانت "أخبار اليوم" هى الأوسع انتشاراً في ذلك الحين (بلغ توزيعها ما يقرب من مليون ونصف المليون نسخة)، وما كادت الصحيفة تصل الى أيدي القراء إلا وانقلبت الدنيا رأساً على عقب.. تدفق الصحفيون ومراسلو وكالات الأنباء العالمية ومندوبو محطات الإذاعة والتليفزيون على سوهاج وكان أول سؤال يطرحونه لدى نزولهم في محطة السكة الحديد هو "كيف نصل الى أولاد يحيى الحاجر بلد الصحفي أحمد طه النقر"!!.

أما الزملاء القريبون مني فكانوا يتصلون بي مباشرة لأدلهم على كيفية الوصول الى القرية، وكنتُ أصطحبهم معي في سيارة بلدياتي الأستاذ الجامعي أو ادبر لهم إحدى سيارات العلاقات العامة بالمحافظة.. وتحول منزل ابن عمي الى مركز صحفي عالمي إضافة الى مهمته كمركز إغاثة.. وبين يوم وليلة صارت قريتنا بؤرة اهتمام الصحافة المصرية والعالمية، وشكل ذلك ضغوطاً غير مسبوقة على المحافظ محمد حسن طنطاوي الذي وجد نفسه فجأة في عين العاصفة، إذ كان رئيس الجمهورية يتصل به يومياً فضلاً عن رئيس الحكومة والوزراء المختصين.. وكان خطأ المحافظ القاتل أنه تعامل مع الكارثة من منظور أمني ضيق وكأنها عمل إرهابي أو حادث سير.. كان كل ما يهمه هو أن يطمئن رئيس الدولة بأن الأمور تحت السيطرة، بل وصل الأمر حد أنه ناشد الرئيس، الذي كان يزور أسيوط المجاورة لتفقد آثار السيول بها، ألا يُجهد نفسه بالمجيء الى سوهاج لأن الوضع مستتب والأمور مستقرة.

وتمادى المحافظ في الخطأ عندما صرح للإذاعة بان الأمور في سوهاج تسير على ما يرام وأعمال الإغاثة متواصلة والأوضاع أصبحت مستقرة .. وعندما استمعت لهذه التصريحات المستعجِلة وغير المدروسة، ثارت ثائرتي واتصلت بالمحافظ من منزل الاستاذ الجامعي الذي سمعني أقول للمحافظ غاضباً ومؤنباً إنه ارتكب خطأين كارثيين عندما ناشد الرئيس ألا يزور سوهاج، وذلك لأن عدم زيارة رئيس الدولة لمحافظة منكوبة يشعل غضب المواطنين المكلومين ويزيد شعورهم بوقع الكارثة لأن رأس الدولة تجاهلهم، ناهيك عن أن المحافظ لا يجب أن يقول إن الأمور استقرت إلا إذا عاد المواطنون (الذين مازالوا مشردين) إلى بيوتهم الغارقة تحت الماء وزرعوا ارضهم وحصدوا منها أول محصول إضافة الى حصولهم على تعويضات عادلة ومُرضية عما فقدوه من ماشية وغلال وطيور وأثاث وملابس وغيرها.. وعندما أبدى الاستاذ الجامعي استغرابه للطريقة واللهجة التي خاطبتُ بها المحافظ، أجبته بالقول "نحن أصدقاء ولا يمكن أن اجامله في موقف فاصل كهذا"!!..     

وحدث ما توقعته وتخوفتُ منه ، إذ ثار الناس في القرى المنكوبة على المحافظ وتظاهروا ضده، وهنا وجد أمين الحزب الوطني بالمحافظة وعصابته فرصتهم سانحة للإجهاز على المحافظ والتخلص منه، فسارعوا لوضع خطة جهنمية تقوم على محورين، الأول العمل على زيادة غضب المواطنين وسخطهم ببث الشائعات والتأكيد على أن المحافظ هو سبب عدم زيارة رئيس الجمهورية لقراهم لأنه لم ينقل للرئيس الصورة الحقيقية وهون من الكارثة، والثاني إبلاغ الصحافة سراً بأن المحافظ طلب من الرئيس عدم زيارة سوهاج حتى لا يرى الكارثة التي وقعت في مدينة الكوثر (حلم المحافظ ومعجزته) إذ أغرقت السيول المدينة تماماً لأنها مقامة على مخرات السيول وهو ما أضاع على البلد اكثر من ثلاثة مليارات جنيه تم استثمارها في الكوثر!!.

ووقع إختيار العصابة على صحفي في "الأهرام" لتفجير هذه القنبلة الصحفية، ولكي يحبكوا الكذبة إختاروا عميد كلية علوم سوهاج الدكتور (أ. ك.)، وهو المستشار العلمي للمحافظ، كي يبلغ الصحفي بهذا السبق الإعلامي الصاعق.. ومن سخريات القدر أن المحافظ، الذي يحترم العلم والعلماء ويؤمن بالتخصص، كان شكل لجنة علمية لتحديد موقع الكوثر ونقطة بداية طريق سوهاج / البحر الاحمر وكان عميد كلية العلوم على رأس هذه اللجنة، ولو كانت الكوثر مقامة في مخر السيول فإنها خطيئة المستشار العلمي قبل أن تكون خطأ المحافظ الذي كان يثق في العميد لدرجة أنه عينه مستشاراً علمياً له، ولكنه اكتشف في وقت متأخر جداً أن عميد كلية العلوم كان من خدم وجواسيس أمين الحزب الوطني!!!.
---------------------
بقلم: أحمد طه النقر

اقرأ أيضا
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية 
الحلقة الثالثة

مقالات اخرى للكاتب

في وداع





اعلان