19 - 06 - 2024

شاهد على العصر(27) المسكوت عنه في قضية الراهب المشلوح

شاهد على العصر(27) المسكوت عنه في قضية الراهب المشلوح

قد يستغرب الكثيرون من تناول هذه القضية بعد مرور هذا الزمن الذى يقترب من عقدين من الزمان. ولكن ومن خلال شهادتنا على العصر حيث عاصرنا وشاركنا فى بعض أحداثها، نريد توضيح بعض الأحداث وقراءة الحدث من زاوية المسكوت عنه فى كواليس هذه القضية. 

هل هذه القضية كانت قضية دينية أم اجتماعية أم سياسية؟ 

لم تكن هذه القضية دينية اطلاقا، فانحراف أحد الرهبان أو أحد رجال الدين من أي دين لا ولن يكون قضية دينية أو له علاقة بالدين من الأساس، فانحراف الشخص يعود إليه هو شخصيا ولا يعود على الدين. لأن الدين بنصوصه وبثوابته هو الفيصل للحكم على الأشخاص ايأ كان موقع هؤلاء الأشخاص من المواقع الدينية وليس الاشخاص بسلوكياتهم المقبولة أو المرفوضة يمكن أن يكونوا هم حجة على الدين. فطوال التاريخ يخطئ البشر ايا كانت أديانهم فهم بشر ضعفاء وقابلين للخطأ والصواب فى سلوكياتهم وحياتهم .

وكم أخطأ ويخطئ رجال دين مسيحيين ومسلمين وغيرهم من سائر الأديان السماوية أو التى يطلق عليها الأديان الوضعية. وظلت وستظل الأديان باقية إلى آخر الزمان. فهل كانت القضية اجتماعية وسياسية؟ نعم كانت القضية اجتماعية وهذا كان طبيعيا فى ظل الظروف والمناخ الطائفى المتأجج حينذاك، واجتماعية وطائفية، كما أوضحنا فى قضية التحول الدينى (الأسلمة) فعندما يتحول الدين والممارسات الدينية إلى موروث اجتماعى مثل الميراث المادى من الأب ومن الأسرة، يصبح الايمان شكليا، ويأخذ صورة التمايز والتميز عن وعلى الآخر الدينى فتتحول القضايا الاجتماعية والسلوكيات الفردية إلى صراع اجتماعى يأخذ صورة الفائز والمنتصر فى الوقت الذى لا ولن يخسر اى دين منهم أو يكسب جراء هذا السلوك وذاك الانحراف. فاذا كان هذا يتم عند إشهار إسلام شاب أو شابة لأسباب لاعلاقة لها بصحيح الدين، فما بالك عندما تكون هناك قضية بل قل فضيحة سلوكية لراهب والأهم موثقة بصور ومنشورة فى جريدة؟ هنا تكون وكانت بالفعل معركة اجتماعية بل قل قبلية كادت أن تحدث فتنة حقيقية تهدد سلامة الوطن الغالى. إذن فما علاقة السياسة بهذا الموضوع؟ وهنا بيت القصيد بل قل هذا هو المسكوت عنه فى هذه القضية وكواليسها.

فى يوم الأحد 17 يونيو 2001 صدرت جريدة النبأ فى عددها رقم 663 تحمل مانشيتاتها ومقالا فى صفحتها الأولى لرئيس تحريرها ممدوح مهران يتحدثون عن فضيحة جنسية لراهب كان راهبا فى الدير المحرق بالقوصية. فى عصر السبت اليوم السابق للنشر اتصل بى الصديق جورج اسحق من القاهرة يخبرنى أن عدد النبأ الذى سيصدر غدا الأحد موجود فى السوق ويحمل فضيحة خطيرة سيكون لها مايكون. اتصلت بالأنبا ساويرس اسقف ورئيس الدير المحرق أعلمه بخبر الجريدة. بلاشك كانت مفاجأة لى لم أكن اعلمها ولا أتصورها خاصة عندما أخبرنى الانبا ساويرس بانحراف الراهب بالفعل، وبأن الدير كان قد أوقفه وعزله بعيدا عنه فى أحد أديرة سوهاج. 

هنا قلت للأبناء ساويرس لابد من إعلان أن هذا الراهب مشلوح ولا علاقة له بالرهبنة أو بالدير وذلك لإدراكى ما سينتج عن هذه الواقعة . بالفعل كان الخبر قد وصل إلى البابا شنودة الشيء الذى ترتب عليه قيام مظاهرة غير مسبوقة فى الكاتدرائية بالقاهرة رافضة نشر الموضوع، حيث أن النشر قد تجاوز كل المعقول والمقبول خاصة فى صياغة المانشتات التى تجاوزت فى حق العقيدة المسيحية بصورة غير مسبوقة فى مصر. فقد ادعت الجريدة أن الراهب كان يخطئ فى الكنيسة وان الراهب المشلوح هذا كان قد زعم وادعى على رئيس الدير أشياء لا تليق على الإطلاق ولم تحدث. الشئ الذى جعل الرأي العام المصري كعادة المصريين العظيمة أن يرفض ماجاء بالجريدة ويرفض الإساءة للمقدسات الدينية، حيث أنه تم الخلط بين انحراف الراهب وبين العقيدة والكنيسة. هنا قام الجميع بدون استثناء بالاعتذار للبابا والكنيسة وللمسيحيين (رئيس مجلس الشعب.. والشورى..شيخ الأزهر.. وزير الاوقاف.. المفتى.....الخ) لأن هذه هى مصر الحقيقية. 

تم تقديم دعاوى ضد الجريدة ورئيس التحرير، حكمت عليه بالسجن ثلاث سنوات وتوفى فى السجن وراح ضحية القيام بدور لم يحسن أداءه.. كيف ؟ نضطر هنا إلى استعمال (الفلاش باك)، ماحدث أن الراهب كان بالفعل قد انحرف مع هذه السيدة بعد علاقة عائلية مع الأسرة ثقة فى هذا الراهب على اعتبار أنه رجل دين. وللاسف كانت الخطيئة قد تملكته تماما بالرغم من أنه كان قبل ذلك فى حالة روحية مشهودة (حسب رأى الانبا ساويرس ومن تعاملوا معه) وهذا يحدث عندما لا توضع الامور فى نصابها الصحيح، فقد دفعته الخطيئة ليس إلى الزنا فقط ولكن إلى أن يقوم بالتصوير بالاتفاق مع أخيه الذى كان يعمل مع الزوج فى محل الذهب!!. وياللهول فقد أخذ أخوه شريط الفيديو لابتزاز السيدة! ولما اختلف الراهب مع اخيه قام ببيع الفيديو الذى انتشر حتى وصل إلى مباحث أمن الدولة حتى وصل الأمر إلى الرئيس حسنى مبارك. 

فى هذه الأثناء لم تكن العلاقة بين الرئيس والبابا على مايرام، فقد كانت هناك بعض المشاكل التى كان يتدخل فيها البابا مما جعل هذا التدخل لا يريح مبارك، وكثيرا ما قام  البابا بالذهاب إلى الدير كنوع من الاعتراض فى شكل إضراب مما يجعل مبارك يرسل الدكتور مصطفى الفقي (باعتباره مدير مكتب المعلومات لرىئيس الجمهورية السابق) للبابا حتى يقوم بتصفية أي خلاف، وذلك نظرا للعلاقة الخاصة التى كانت تربط البابا بالدكتور الفقى . 

هنا وبناء على كلام د . الفقى معى فى لقاء  بأحد البرامج التلفزيونية فى قناة الجزيرة، فماذا حدث؟ قال لي الفقى أنه اقترح على مبارك أن يأخذ الفيديو ومعه دكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية إلى البابا لكى يشاهده، ويكون هذا الموقف موقفا نبيلا من الرئيس مهدى إلى البابا، وقصد الفقى من هذا الموقف تهدئة الأمور بين الرئيس والبابا. وافق مبارك. ذهب الفقى وعزمى بالفيديو إلى البابا وحضروا الفيديو ومعهم الأنبا ساويرس اسقف دير المحرق، فماذا حدث وماهى نتيجة المشاهدة ؟ كان الفقى يتصور أن ينقل لمبارك شكر البابا الجزيل لهذا الموقف النبيل الذى يتستر على فضيحة راهب. المفاجأة أن البابا بعد المشاهدة قال: (هذا الراهب مشلوح فلتأخذوا ضده كل الاجراءات القانونية!!) اسقط فى يد الفقى (أكد لى هذه الوقائع حرفيا الأنبا ساويرس). عاد الفقى لمبارك يجر أذيال فشل المهمة التى اقترحها.

 هنا ثار مبارك حتى أن الفقى قال لى الكلام الذى تفوه به مبارك على البابا ولا أستطيع الإفصاح عنه!.. كان من الطبيعى أن يكون هناك رد فعل من مبارك ضد البابا خاصة أن الفيديو يمثل أكبر خبطة صحفية لأى جريدة فى العالم (فضيحة لرجل دين وموثقة بالفيديو) وكان من المستحيل نشرها فى جريدة قومية أو حزبية بل فى جريدة فضائحية مثل النبأ. 

وما الدليل على هذا ؟ تصادف أن حضرت قبل الواقعة بأيام فى التلفزيون المصرى الاحتفال بعيد الإعلاميين الذى كان يحضره مبارك.. لفت نظرى وقوف ممدوح مهران رئيس تحرير النبأ فى الصف وأثناء وصول مبارك عنده سلم عليه وتبادلا حديثا سريعا، لحظتها توقفت واستغربت ليس لدعوة ممدوح ولكن للحديث. الأهم أن عدد الفضيحة فى النبأ كان فى صفحته الاولى مقال لممدوح مهران بعنوان (الرئيس قالى انت اللى فاهمنى ياممدوح !!!) . وهذا يعنى وبلا عناء أن الفيديو كان قد تسرب إلى النبأ تصفية لحسابات سياسية وردا على موقف البابا الذى لم يقدر صنيعة مبارك (لم يكن الفقى راضيا على موقف البابا ورده ولكن هذا لا يعنى أن الفقى يتدخل بعد ذلك فلم يكن مسؤولا رسميا).

الإشكالية هنا أن ممدوح ومن معه أخذتهم مفاجأة الفيديو ومفاجأة التكليف (أيا كانت جهة التكليف) وقاموا بالنشر بطريقة لا علاقة لها للصحافة أو بمهنية على الإطلاق، هنا كان رد الفعل الجماهيرى من العقلاء ومن المسئولين هو تعبير عن الضمير الجمعى المصرى الذى يحترم الدين والأديان، فقد كان للموضوع جانب سياسى فكان من الطبيعى أن يكون لى دور خاصة فى الجانب الإعلامى فقد كنت صديقا للانبا ساويرس وكانت تربطنى به علاقة خاصة وأعلم وأثق فى سلوكياته، ولذا كنت قد قمت بكتابة ثلاث مقالات فى جريدة الأخبار أدافع فيها عن الأنبا ساويرس وأوضح ما كان غير واضح. وعلى ذلك كنت قد رتبت زيارة إلى الدير المحرق من الإعلاميين والسياسيين والصحفيين والفنانين تضامنا مع الدير المحرق. وتكررت الزيارة أكثر من مرة فى عهد الأنبا ساويرس، والأنبا بيجول أسقف ورئيس الدير الحالى وكانت تتم لقاءات مع الزائرين والدير فى إطار من الحب والقبول وعن طريق حوار هاديء وموضوعي، وذلك إيمانا دائما بأن العلاقات الإنسانية هى الرابط الانسانى والدائم بين البشر حتى يكون هناك حوار موضوعي ولقاء وقبول.
-------------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك*
* سياسي وبرلماني مصري سابق

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (١٣)





اعلان