30 - 06 - 2024

اليوم.. الذكرى الأولى لرحيل عفيفي مطر بحثًا عن أغنية الميلاد

اليوم.. الذكرى الأولى لرحيل عفيفي مطر بحثًا عن أغنية الميلاد

مع غروب شمس هذا اليوم، الخميس، تكون قد مرت سنة كاملة على غياب الشاعر المصرى والعربى الكبير محمد عفيفى مطر، فى مثل هذا اليوم آثرعفيفى مطرأن يعود إلى صيرورته الأولى، إلى "مجمرة البدايات" ليتخلق مرة أخرى، جسد عفيفى مطر الذى اندمج مع طين هذه الأرض المباركة، آثر أن يعود إليها أخيراً، بينما أبت روحه أن تتركنا فى هذه الظروف الصعبة، تحدث أكثر من كاتب أنهم كانوا يشعرون بها ترفرف على ميدان التحرير.

ليس غريباً ولا مصادفة أن تصدر الأعمال الكاملة لمطر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة مع بدايات ثورة يناير، وليس غريباً أيضاً إصراره الكبير على الحضور فى مجموعة كبيرة من الندوات خصصت لقراءات عنه ولمتابعة طرحه الشعرى، كان آخرها فى بيت الشعر وفى الهيئة العامة للكتاب فى القاعة المسماة على اسم الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، لتحضر ربما سخرية القدر، حيث اشتهر العداء الكبير الذى كان بين الشاعرين الكبيرين، وموقف "عبد الصبور" الغريب من "مطر" الذى رفض طباعة أى عمل له فى مصر وقت أن كان يشغل (أى صلاح) منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب.

فضّل عفيفى مطر أن تكون رقدته الأخيرة فى قريته التى ولد فيها عام (1935) "رملة الأنجب" بمحافظة المنوفية، بعد معاناة مع مرض الكبد الوبائى، "المرض الذى مات به ملايين المصريين منذ كانت مصر ومنذ كان النيل"، كما يقول الشاعر العراقى سعدى يوسف، لم يكن يستريح "مطر" كثيراَ حين يكون بعيداًَ عن قريته، حيث لم يكن يغادرها إلا منفياً، حيث قضى فترة من عمره فى العراق، أو مسافراً مستعجلاً أن يعود إليها.

استطاع "مطر" أن يركب بخبرة كميائى عارف، مستحضره الخاص، هذا المستحضر الذي مزج فيه معاناة الإنسان المصرى وحزنه الموروث، وتراثه العجائبى الضخم المعجون بطمى الأرض ورمادها وجمرها المتوقد، بالمثولوجيا الفرعونية، مضيفاً إليها شطحاته الصوفية، وحالات كشف لا يصل إليها إلا سالك، مدعماً موهبته الكبيرة بمعرفته الواسعة، وهو الحاصل على ليسانس الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، بتيارات الفلسفة الحديثة، خاصة الفلسفة المادية، بالإضافة لمعرفة كبيرة واطلاع واسع وثقيب على الفلسفة الإسلامية بأعلامها وبأخبار "الباطنيين" والجامعات السرية، بالإضافة طبعاً لقراءاته المتعمقة للشعر العربى والشعر العالمى، كل هذا استطاع "مطر" أن يصبه فى إنائه الخاص ليصنع عالمه الشعرى الزاخر والمتعدد والغامض فى بعض الأحيان، فى لغة حافلة بالمجاز، بعيدة كل البعد عن لغة العادى والمستهلك التى سادت الكتابة الشعرية فترة كبيرة.

الاتهام الأكبر الذى كان قُدر للشاعر الكبير أن يواجهه دائماً هو اتهام البعض له بالغموض، وصعوبة التعامل مع شعره، وربما كان سببا لأن ينصرف الكثيرون حتى من النقاد عن مطالعة تجربته، وهو ما أرجعه "مطر" لصعوبة تجربته وصعوبة الشعر، بالإضافة إلى كونه ليس شيئاً مهما فى أى مؤسسة ثقافية، ولا يكون هناك جزاء للكتابة عنه إلا الشكر، وعن غموض تجربته يتحدث "مطر" فى إحدى حواراته قائلا: "إن الشعر يتعامل مع مناطق الغموض، وهل هذا العالم واضح وجلي، الغموض جزء مهم فى تربية الإنسان فى الدنيا، وفى فهم الإنسان نفسه وفهم الحياة والموت والخير والشر، العالم ملتبس والدنيا غامضة والإنسان أكثر غموضا مما يتصور، والشعر يتقاطع مع هذه المناطق الغامضة فى النفس والروح، فلا ضير بالغموض، بالعكس الشعر الأفضل هو الذى يتعرض لهذه المناطق الغامضة فى حياة البشر وفى تكوينهم".

تعرض "مطر" لتجربة سجن قاسية بسبب آرائه السياسية المعارضة وميوله البعثية، والتى سجلها فى قصيدة "هلاوس ليلة ظمأ" من ديوان "احتفاليات المومياء المتوحشة"، والتى يقول فيها:

"قد كنت مضطجعا أعابث شعر بنتى..

الصغيرة أفزعتها قشرة الدم والصديد على عظام الأنف

ـ أهذى أم هى الزنزانة انفتحت على زمنين

واتسعت على هول المكان؟!

ريق وجمرة حنظل، تتشقق الشفتان:

ـ يا عبد العليم:

ما للجرار ادحرجت والقلة الفخار عفرها الرماد .."

بدأ "مطر" مسيرته الشعرية الحافلة بديوان "من مجمرة البدايات"، والذى يفتتحه بقصيدة "فردوس بائعة المانجو"، والتى يختتمها قائلاً:

"يا أختى كل الأحزان إذا مرت ماتت

ما دمنا نضرب فى التيه

كى تبحث روحانا فيه

عن ثوب وبقايا ظل ورغيف

وهنيهة نوم فى ظل أليف"..

أصدر مطر بعد ذلك دواوين "الجوع والقمر" و"من دفتر الصمت" و"يتحدث الطمى" و"ملامح من الوجه الأنبيذوقليسى" و"رسوم على قشرة الليل" و"كتاب الأرض والدم" و"شهادة عن البكاء فى زمن الضحك" و"النهر يلبس الأقنعة" و"رباعية الفرح" و"أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت" و"فاصلة لإيقاعات النمل" و"احتفالات المومياء المتوحشة" و"المنمنمات" و"معلقة دخان القصيدة" و"صيد اليمام" و"ملكوت عبد الله" و"يقين الرمل" و"فخريات تذروها الريح". إلى جانب كتاباته المهمة للأطفال "مسامرات للأطفال كى لا يناموا" وسيرته الذاتية الفذة " أوائل زيارات الدهشة" والتى تعتبر علامة مهمة جدا فى مسيرته ومسيرة كتابة السير الذاتية فى مصر، وكتابه "شروخ فى مرآة السلف"، بجانب ترجماته لمجموعة من الشعراء الأجانب.

فها هى روح عفيفى مطر تملأ علينا دنيانا، تنادينا لكى نرد للشاعر العظيم الكثير من حقه المهدر، والكثير من الاحتفاء والتكريم الذى لم ينله فى حياته، وهو الذى كان يشعر بذلك وسجله فى قصيدة "كلمة نفسى" من ديوان "مجمرة البدايات"، والتى يقول فيها:

وأعلم أننى سأعيش أصغر شاعر

وأموت مجهولا ومغبونا

ولكنى سأطلق فى لهيب الصدق أوجاعى

سأبحث من خلال الموت عن أغنية الميلاد

سأدفن مهجتى فى الأرض كى تنمو بخضرة عود

وسوف أعيش جرح تفردى فى الأرض

أترك ضجة الأعياد.






اعلان