في أغلب محاوراتي التليفزيونية على فضائيات عديدة، كنت أدعو منتقدي السلطة إلى التوقف عن انتقادها من الخارج، والعودة إلى مصر لمعايشة الواقع والجهر بآرائهم دون وجل، وذلك وفاء مني لعهد قطعته على نفسي بألا أنتقد من خارج الحدود أو على منبر خارج مصر.. ونفذت ذلك خلال تسع سنوات من الاغتراب، كنت إذا كتبت مقالا يعارض الحكم أرسله للنشر في صحيفة مصرية.
ليس فقط اتقاء لحساسيات النشر في صحيفة غير مصرية، أو الانتقاد من منبر إذاعي أو تليفزيوني يبث من خارج مصر، وإنما إيمان راسخ بأن الشجاعة تقتضي أن تواجه من تنتقد، والنبل الوطني يقتضي أن تبتعد عن مظنة أن يوظف رأيك لخدمة أجندة أحد.
لذلك تكررت دعواتي لعودة المجاهرين برأي معارض، سواء على الشاشات أو وجها لوجه، يقينا مني أن الإدلاء بالرأي – معارضا كان أو مساندا - هو من صميم العمل الوطني، الذي يجب أن يكرم صاحبه، لا أن يهان، وإيمانا بأن مصر – مهما كان شطط حكامها – ليست جمهورية موز، بل دولة عريقة بها إرث حضاري ومؤسسات وقانون وعقول سياسية نابهة لا تعدمها أي سلطة، وتعرف أن الاختلاف سنة من سنن الحياة، وأن نقد السياسات والتوجهات ليس عملا يعادي الدولة، بل يصوب خطاها ويضيء لها الطريق، وأنه لو توافرت الشجاعة لمقربين من السلطة بمكاشفتها بحقيقة ماكانت عليه البلاد قبيل هزيمة 1967 (على سبيل المثال) من عدم استعداد وترهل، لتجنبت مصر مرارات الهزيمة التي تركت ندوبا عميقة في قلوب وأرواح عشرات الملايين من أجيال متلاحقة، وكسرت حلم دولة فتية كان يتوقع لها أن تحتل المكانة التي تليق بها وبشعبها، تقدما وإشعاعا حضاريا يصل الماضي التليد بالحاضر المحفوف بالتحديات.
وعندما سمعت مساء أمس خبر توقيف جمال الجمل لدى عودته إلى مطار القاهرة، قدرت أنه سيخضع لاستجواب أمني يستغرق ساعات قليلة عن الفترات التي قضاها بالخارج، يترك بعدها ليذهب إلى بيته آمنا مطمئنا، فرغم خلافي في الرأي معه على الشاشات إلا أن الرجل ينضح وطنية ويحظى باستقلالية في الرأي، وكثيرا ماعانى لدى وجوده في الخارج ودفع أثمان عدم الالتحاق بسرب، غير أن الساعات مرت بطيئة ولم يصدر بيان يبرر توقيفه أو احتجازه أو يكشف عما يجري معه وما إن كان سيحال إلى جهة تحقيق قضائية وبأي تهم.
استدعيت كل ماقلت عن حتمية العودة كشرط للإدلاء برأي معارض وحججي التي سقتها، ووضعت نفسي مكان من كنت أواجههم وفكرت فيما يمكن أن يظن بي – بعد اختبار الفكرة على أرض الواقع – هل يا ترى يظنون أني كنت أوقع بهم أو أنصب لهم فخا؟ هل كنت أغرر بهم وأعرض نموذجا لدولة في خيالي، غير متحقق في الواقع، وهل ينسف ذلك كل رأي قلته أو رؤية عرضتها؟ حسبي أني أفعل ما أقول.
الرأي ليس جريمة، وانتقاد السياسات والأشخاص الذين ينفذونها ليس عداء للدولة بقدر ما هو غيرة على ماضيها وحاضرها ورغبة في أن تجد الأجيال اللاحقة وطنا متقدما متحضرا منتصرا على التحديات، تعيش فيه ويعيش في ضمائرها، مصر أكبر من أن تضيق برأي أو تعصف بمعارض أو تعاقب عاشقا على عشقه، لذلك أطلب من كل صاحب عقل ورأي حصيف، في أجهزة الدولة، أن يتدخل فورا لإخلاء سبيل جمال الجمل وتركه يعيش ويكتب بالطريقة التي يحبها، طالما لم يرتكب الرجل جريمة في حق بلده.
سيكون إخلاء سبيل جمال الجمل انتصارا لفكرة المعارضة من الداخل، وبادرة تغيير تسدل الستار على فترة كئيبة عانينا فيها من الدعاية السوداء التي تبثها منابر الخارج، وسيبطل الذرائع التي يستخدمها خصوم النظام في الكيد لمصر، وينسف الأسس الأخلاقية للاستقواء بالخارج.
لا أتمنى أن تتحقق مقولة جمال الجمل الذي كتب يوما: "أكتب بلا حسابات للأسقف المنخفضة، في بلد صار كل شئ فيه منخفضا، بلد نغرس في أوحاله الورد فيرمينا بالشوك، نغني فيه للأمل وبالأمل فيغرقنا في اليأس والبؤس، ننصره فيخذلنا".
هل كثير على كتاب مصر أن يغنوا للأمل فيزهر من بين حروفهم، وأن يغرسوا الورد فيطرح وردا وعبقا، وأن ينصروا بلدهم ضد التخلف وقصر النظر والإدارة الخاطئة فينصرهم وينزلهم المنزلة اللائقة بهم؟!
أتمنى أن يتدخل رجل رشيد فورا لإنهاء محنة جمال الجمل.
---------------------------
بقلم: مجدي شندي