28 - 06 - 2024

نوال السعداوي .. متمردة على القهر وضعت أصابعها في عين الغولة

نوال السعداوي .. متمردة على القهر وضعت أصابعها في عين الغولة

الداخل الي الشارع الذي سكنته نوال السعداوي خلف معهد ناصر بموازاة نهر النيل في شبرا يستشعر  منذ الوهلة ان العيون التي تنظر اليه تعرف وجهته.. وكلمة سره هي نوال السعداوي.. بسرعة وبديهية يوجهك من تسأله  الي البناية والدور والشقة التي تقطنها (الدكتورة نوال).

هي التي يسعي إليها الرافضون لكل ماهو موروث ومسلم به.. ويسعي  إليها المنحازون الي الحياة العادلة، وقد كنا جماعة من حاملات نون النسوة، جمعت بينهن نون الإنسان التي تعلو التفرقة والتمييز.

طرقنا بابها وفتحت هي التي كانت حينها تقترب من سنواتها التسعين.. حملنا قلقنا وأفكارنا وطعامنا  وشرابنا ودلفنا الي مطبخها نخدم أنفسنا بأنفسنا فلا عاملة او عاملا في البيت، هي فقط تعد طعامها وتنظف ثيابها وتقرأ وتكتب وتسافر وتعيش الحياة ولا تخشي الموت فتنتصر عليه لأنها عاشت حياتها هي كما أرادت واختارت ودربت الجسد والعقل فكانا طوع إرادتها لأنها نوال السعداوي التي أرادت أن تحمل اسم امها فهي تقول: أنا نوال زينب السيد، رغم تاثرها الحاسم بوالدها، وأرادت أيضا أن تسقط الإمام.. الإمام الطاغية المستبد الفاسد الحاكم الظالم الذي يقهر البشر فأسقطته مع الملايين من الصغار والكبار.. شاركتهم أيام ثورة يناير وكانت مثلنا، قبلتها ميدان التحرير.. ومكان لقائها ومواعيدها عند تمثال عمر مكرم.. طالت آمالها السماء فانتظرت دولة الخلاص.. دولة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وانتصار المرأة في معركة  معركة عقلها الذي هو غير ناقص وغير مكبل وغير مبدع .. فلم تأت إلا دولة قاطعي رؤوس  النساء عندما اضطروا إلي تصويرهن  في طريق  الوصول الي البرلمان فجعلوها بلا رأس أو وضعوا مكان صورتها وردة.. وحكموا بعد ان استفحلت  سلطتهم أيام مبارك والسادات.

يا نوال فين عيونك

هي نوال بنت زينب السيد.. بنت كفر طلحة ورثت عن أبيها التمرد ورفض الموروث وورثت عن جدتها الفلاحة الجبارة الصلابة والمواجهة، فالجدة تحارب العمدة الظالم في كفر طلحة وتقول له: (انت  ماتعرفش ربنا..ربنا عرفوه بالعدل ..ربنا  هو العدل)

فكان أن تعلمت الطفلة أول درس في فلسفة الحياة من  الجدة.. ورأت الطفلة أحلام أمها المجهضة في الزواج والبقاء في البيت بلا رسالة من أجل جودة الحياة وهي تقول لها (اوعي تتجوزي).

ثم تكره الطفلة تفضيل شقيقها (طلعت) عليها فيما يفضل فيه الذكور، فتكتب رسالة الي الله تسأله: لماذا (طلعت) أفضل منها.

وتستجيب الصغيرة علي أبواب مراهقتها إلي صوت عذب يداعب مشاعرها من مذياع جارها الشاب وهو يردد أغنيتها  الآسرة (يا نوال فين عيونك).. ثم تنتهي القصة القصيرة قبل أن تبدأ. 

المرأة والجنس

تدخل الفتاة كلية الطب وتتخرج لتأخذها الحياة الي الأدب والقصة والكتابة والسيرة الذاتية وفلسفة الحياة التي استقتها من جدتها الفلاحة، فتكتب في الجنس والختان والعذرية والحجاب وتسقط  كل ماهو كاذب وتدب أصابعها وقلمها في عين الغولة الحمراء ولا تخشاها، فبدأت حربها ضد الختان منذ أكثر من نصف قرن فكان قهرا واعتداء.

وباسم الدين علي جسد الانثي باقتطاع جزء من جسدها حفظا للعرض والشرف، وهو في حقيقته عدوان وكراهية فتسأل نوال: اذا كان الختان من أجل شرف المرأة فما هو دليل شرف الرجل، وتقول ان المرأة كانت في الأساطير القديمة إلهة الحكمة (إيزيس وأثينا) وإلهة العدل (معات) ثم جاء الإله  الذكر  الطبقي الأبوي وحول حواء إلي حليفة الشيطان وقهرها باسم الشرف، فما هو دليل شرف الرجل. وتقول: شرف الإنسان هو الصدق في التفكير والأفعال والأحاسيس.. الإنسان الشريف لا يعيش حياة مزدوجة ولا يخاف من الحرية. 

قالت نوال للغولة مرة ثانية: عينك حمراء لأن عذرية الأنثي ليست هي الشرف.. وأن ٣٠% من الإناث  غير عذراوات يولدن بدون غشاء بكارة، فالعذرية ليست سوي جزء من الكذب، والأمهات والدايات تحايلن  بالكذب في تزييف العذرية وكان لدي نوال عشرات  الحكاياتالقاسية عن إناث قتلن بسبب  عدم عذريتهن.  

وتواصل نوال غرس أصابعها في عين الغولة، فتعلن أن الحجاب رمز سياسي وليس رمزا دينيا وشكلا من أشكال القهر وعبودية المرأة، وأن الملابس ليست لها وظيفة أخلاقية، الأخلاق لا علاقة لها بالملابس ودخول الجنة ليس بقطعة قماش، ولكن نوال كانت أيضا ضد العري، فالأنثي ليست بضاعة معروضة للبيع كي تتغطي أو تتعرى، فحينما سترت عقلها مرة باسم الدين ومرة باسم الجنس قهرها الرجل وفي السياسة فقدت كل شيء.

كان الثمن الذي دفعته نوال مبكرا، وهي طبيبة شابة تكتب في مجلة وزارة الصحة، هو الفصل من عملها فكانت نوال الطبيبة الكاتبة القاصة صاحبة الفكر الذي يترجم لكل لغات العالم. 

(سقوط الإمام) 

تواصل نوال غرس أصابعها في عين الغولةالحمراء، ولكنها  هذه المرة تتوجه بضرباتها الي رأس  السلطة القاهرة فهو الشقيق طلعت الذي سألت عنه الله في بدايات طفولتها، ثم الزوج الأول الذي أخذتها نظرة الضعف والاحتياج لديه، ولم تعرف حينها أن الإنسان الضعيف يخفي تحت جلده صفات دنيئة يترفع عنها القوي فكان الطلاق الذي تصفه نوال قائلة: الزوج الأول مدمن والثاني كاذب فكان الطلاق. 

وبعد أن أسقطت سلطة الزوج توجهت الي سلطة الإمام الذي يغرف من أموال النفط وأموات آل سعود ليسيطروا علي العقل بـ(العلم والإيمان والدجل)، فيتم تدمير العقل وتدمير الاقتصاد والتعليم الذي يتأسس علي التدين وليس علي مقاصد العدل.

استقالة الإله

وبعد أن تتحرر نوال من سلطة الإمام تتخلص في سبيل تحرير العقل من سلطة إله البطش والطغيان الذي يحكم باسم الله والله كما قال له أبوها ليس كتابا يخرج من المطبعة، وإنما الله هو العدل وعند إسقاط الإله كانت تهم الردة والكفر والإلحاد جاهزة، ولكنها واصلت ضرباتها قائلة: لا أخاف الموت ولا النفي ولا السجن، ففي الموت لن تكون هنا ولن تشعر  بالموت لان الحياة ستكون انتهت.. وخبرت النفي والسجن فقد حولت شهور سجنها في سجون أنور السادات الي حياة ثرية مؤكدة أنمخاوف السجن وهم.

ووصفت السادات بالجنون بسجنه ١٦٥٠ من رموز أمة علي خلفية كامب ديفيد وتخريب للاقتصاد والعقل المصري عصر ريجان والسادات ورموز النفط الشيخ والدكتور (الثورة والنخبة) والجماعة التي توغلت واصلت سيطرتها في سنين مبارك ثم حكمت بعد الثورة. 

في سعيها الي الانعتاق من عبودية الزوج والامام والحاكم الباطش تصف نوال النخبة بأنها ليست نخبة وإنما هم منافقون ومنافقات.

أما مارأته نوال منذ سنوات بعد أن انتظرت دولة الخلاص، فكان استعدادا لرحلة من استغنت واكتشفت قوتها في ذاتها فرأت أن الشعب الذي أراد أن يسقط النظام لم يرد ان يسقط رأسه فقط .. ولم يرد ان يسجن شباب الثورة ولم يرد ان يحكمنا رجال البورصة.. وكان ينتظر دولة للخلاص بثورة تعليمية وثقافية  ودينية لا بمصر تدار لصالح رجال الأعمال والمستوردين، وبتفويض كان يعني العمل وليس الفقر الذي زاد ومصير البيع لكل شئ..

استطاعت نوال ان تتحرر من الخوف ومن السجن ومن خلل الفكر وتري الطب ليس سلعة وإنما هو منح الصحة والنجاح، ليس الشهرة وانما هو منح مالقينا للغير.

استغنت نوال فامتلكت  قوة رهيبة، واجهت وحاربت وتحررت وأرادت ان تكون رسالتها رسالة تحرير للعقل، وفي سبيلها حرمت من تكريم بلدها فكرمها العالم وترجم كتبها وفتح لها جامعاته وقاعات  محاضراته.. فصلت من عملها ولكنها ذهبت إلي الفضاء الأوسع، سجنت فتحولت حياة السجن إلي تجربةمثمرة، انتصرت في الحياة فعاشت تسعين عاما، انتصرت علي الموت فذهبت راضية.

---------------
بقلم : نور الهدي زكي

مقالات اخرى للكاتب

لسنا في رحلة إلى الرئاسة .. يا سادة!





اعلان