16 - 08 - 2024

فلسفة الفوضى !

فلسفة الفوضى !

قبل ساعات نشرت وكالات الأنباء تغطية لهروب الرئيس الأفغاني المدعوم من الولايات المتحدة من العاصمة كابول مع سيطرة طالبان. الكلمة التي جاءت في عناوين الاخبار الرئيسة هي "الفوضى Chaos" في وصف حالة أفغانستان عقب سيطرة طالبان.

قبل أكثر من 20 سنة تفتق ذهن صناع السياسة الخارجية الأمريكية عن مصطلح "الفوضى" الذي أضيف إليه صفة "الخلاَّقة".

لم يكن صناع السياسة يفترضون مصطلحا بالغ الحمق والسذاجة، فهناك جذور فلسفية للفكرة تم تجريبها في كل من أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء قبل أن يتم نشر المصطلح في الشرق الأوسط وآسيا الجنوبية، خاصة في العراق وأفغانستان.

تقوم فكرة الفوضى الخلاقة على أن المجتمعات التي تعيش في ظل الحكم الاستبدادي لعدة عقود تتحول إلى ركود عفن تفقد فيه الشعوب شغفها بالحياة وتفتقر فيه الجماعات والأحزاب كل فرصة للحراك وسط هواء سياسي فاسد يسيطر عليه النفاق والغباء والإخصاء العقلي الذاتي فضلا عن احتكار المال والسلطة في فصيل دون غيره.

حين تقدم النصائح والدعوات السلمية الهادئة للحكام المستبدين بضرورة فتح الحياة السياسية وإعادة توزيع النفوذ وتقاسم السلطة لا يستجيب أحد، ولا تصبح الفرصة المتاحة الوحيدة سوى "الانفجار" فتأتي القوى الخارجية حاملة شعار مناصرة الحرية وحقوق الإنسان.

يفترض هؤلاء الغزاة من "رسل الحرية" أنه مثلما ظهر الكون وخلقت الأرض وما عليها من حياة وفق نظرية "الانفجار العظيم"  فإن الحياة السليمة المبدعة لا يمكن أن تولد من هذه المجتمعات المتيبسة المتصلبة إلا من خلال إحداث حالة من الانفجار أو الفوضى الخاضعة للنظام والسيطرة.

تسلل المصطلح نفسه إلى فلسفة العلاقات الاجتماعية والعاطفية والزواجية، حتى أن البعض يعتبر أن بوسعه البدء في حياة جديدة على أنقاض حيوات سابقة وأن الانفصال والطلاق أو تفكيك هياكل اجتماعية سابقة أمر ممكن لإعادة تركيب حيوات جديدة. 

تقوم فكرة الفوضى في نسختها الأمريكية التي تم تطبيقها جيوبوليتيكا في عالمنا الشرق أوسطي على أنه لا بد من قلب كل الأشياء رأسا على عقب وتحريك كل المياه الراكدة وتجريب كل الممنوعات السابقة فيرفع إلى أعلى من كانوا في القاع ويطاح بمن كانوا في القمة إلى أم الحضيض.

الفوضى الخلاقة تجربة تصب في المقام الأول في صالح الولايات المتحدة إذ يستفيد منها مئات الآلاف من أبناء الشعب الأمريكي من العسكريين وصناع الأسلحة وعلماء الجغرافيا والسياسة واللغات والانثروبولوجيا وشركات إعادة الإعمار والاستكشاف البترولي والمعدني وطرق التجارة البرية والبحرية والتجسس العلمي والمجتمعي فضلا عن إبقاء الولايات المتحدة متمركزة في النقاط الساخنة في قلب العالم.

قبل 20 سنة دخلت الولايات المتحدة الشرق الأوسط رافعة شعار "الفوضى الخلاقة" فلم يتحقق من الخلق الجديد شيء ولم ترث المنطقة سوى الفوضى منزوعة الإبداع مع حمامات من الدم والأشلاء، والتقاتل والعداء ذي المجموع الصفري.

قبل ساعة من كتابة هذه السطور وضعت BBC عنوان "طالبان تجلب الفوضى إلى كابل". ولكنها لم تشر من قريب أو بعيد إلى مصير "الفوضى الخلاقة". 

- -  -

في معركة الأفكار يتم الترويج إلى أن عالمنا العربي الإسلامي واقع بين فكىِّ رحى: إما استبداد يعمر عقودا طويلة ينشر الخوف ويتسبب في إخصاء العقول وتجفيف الأرواح، أو فوضى خلاقة على دبابات أجنبية وها هي تخرج  تاركة البلاد في فوضى دون خلق أو إبداع وحتى دون اعتذار.

هناك طريق ثالث للنجاة في الداخل ومن الداخل وبالداخل: الديموقراطية وتداول السلطة والتعليم الحقيقي لا الشكلي ولا الاستعراضي مع  ترسيخ حقوق الإنسان وتطبيق القانون على الجميع في دولة تعيش على "النظام الخلاق" اتقاء لشر "الفوضى الفتاكة".
-------------------------
بقلم: د. عاطف معتمد 
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

جمال حمدان والخلافة الإسلامية (1)