في عيد ميلاده قبل الأخير (2004) ، وكان قد بلغ من العمر 93 عاماً، سُئِل "نجيب محفوظ": ما شعورك وقد وصلت إلى هذا السن؟ فأشار إلى أنه يشعر وكأنَّه وصل إلى "محطة سيدي جابر"! ، وهي المحطة قبل الأخيرة التي ينزل فيها غالبية الركاب إلا قلة قليلة قبل أن يصل القطار إلى "محطة مصر" في قلب الإسكندرية في نهاية رحلته.. شيء من شعور "نجيب محفوظ" بالوحدة في محطته الأخيرة، وشيء من احساسه بقرب انتهاء الرحلة وتوابعها، قد يشعر بهما من يمر "بأزمة منتصف العمر" إن لم تكن "أزمة خاتمة العمر"!! وهي مرحلة يصبح فيها الشخص "كالمُنْبَتّ" في الحديث الشريف "لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى"، فلا هو شاب حيث يبدأ الطريق، ولا هو في نهاية مشواره بحيث يستقر.. لا هو قادر على الاختيار.. ولا هو قادر على الاستمرار.. وهو ما أشار إليه نجيب محفوظ في "السُكَّريَّة" : "الشباب لعنة والكهولة لعنات، فأين راحة القلب أين؟" وفي "ميرامار" "الشباب يبحث عن المغامرة، والشيخوخة تنشد السلامة".. وتظل مقولته الخالدة "ما أضيق الوقت وما أقصر العمر!".
في أزمة منتتصف العمر تتضح الحقيقة جليةً لمن يمرون بها: الشعور بأنك في منتصف طريق لا تستطيع الرجوع منه، أو الحياد عنه، أو حتى استكماله.. كلُّ البدائل غير ناجعة، وكلُّ الخيارات غير مقنعة.. ويصبح الشخص "مثل العصفور الذي يُقلى في الزيت فلا هو يموت فيستريح، ولا هو يطير فيهرب".. أقسى أنواع الفشل هو الفشل في منتصف الطريق، وأشدُّ أشكال الهزائم هي الهزائم في منتصف المعارك.. إعادة رسم الطريق في منتصفه مؤلمٌ وقاسٍ، والإقرار بالهزيمة والإخفاق في وسط المعركة مخزٍ ومريرٌ .. ولذلك كان دعاء البعض "اللهم إني أعوذ بك من الهزيمة في منتصف الأشياء، اللهم بلّغْني تَمَامها، أو انزعها من قلبي"..
في انتظار جودو!
في أزمة منتصف العمر تزداد موجات جلد الذات ويشتد تيار الندم المفرط على الفرص الضائعة، وكما يقول الأديب البرتغالي "جوزيه ساراماجو": "لا يسعكَ أنّ تتخيلَ، كمّ تطولُ قائمة إتهامِ الذاتّ مع التقدمِ فِي العمر.. فلا الشباب يعرف ما يستطيع، ولا الشيخوخة تستطيع ما تعرف!". ومن مظاهر أزمة منتصف العمر أيضاً أن يشعر الشخص بأن جهده لم يُؤْتَى ثماره المرجوة وبأنَّه "قد ضيَّع في الأوهام عمره"، ويشعر بمثل ما شعر به "ابن الفارض": "إنْ كان مَنزِلَتي في الحبّ عندكُمُ .... ما قد رأيتُ فقد ضيّعْتُ أيّامي"..
في أزمة منتصف العمر ، يصبح الجميع في انتظار "جودو" على حدّ تعبير الكاتب الأيرلندي "صمويل بيكيت"، أو "المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال" على حدّ تعبير الإمام "أبي حامد الغزالي".. ينتظر الشخص في هذه الأزمة من يمدُّ إليه يدَّ المساعدة حقيقةً أو مجازاً، مادياً أو معنوياً.. أشدُّ درجات"الطيش" تكون في هذه المرحلة.. وأقصى أنواع التطرف تولد خلالها.. وتصبح كلُّ الاحتمالات بلا ضفاف، وكلُّ البحار بلا شواطىء.. ولذلك، تكون الإشادة بَمَنْ يُلقي بطوق النجاة، وتكون الإشارة إلى مَنْ يمسك بشعلة الهداية.. في أسباب رفضه الحصول على جائزة نوبل في الآداب في عام 1925، أشار "جورج برنارد شو" ،(وكان في السبعين من عمره تقريبا آنذاك) إلى أن هذه الجائزة " أشبه بطوق نجاة يُلْقَى به إلى شخص وصل فعلاً إلى بر الأمان!" .. عندما تأتي المساعدة متأخرةً فلا أهمية لها.
في الأمثال الفرنسية إشارة إلى أن "عمر الرجل كما يشعر، وعمر المرأة كما تبدو".. وفي أزمة منتصف العمر، لا فرق بين الرجل والمرأة: "كلُّهم في الهمّ شرق".. وعلى حدّ تعبير الأديبة الفرنسية "سيمون دي بوفوار": "الذين يعتقدون أن جميع مراحل العمر حلوة مدهشة، هم أنفسهم الذين يعتقدون أنَّ كلَّ الأطفال أبرياء، وأن كلَّ الشباب المتزوجين سعداء، وأنَّ كلَّ العجائز حكماء"، هي أحكام لا وجود لها، مثلها مثل "الغول والعنقاء والخل الوفي"!.. كان الأديب الفرنسي "فيكتور هوجو" يشير إلى المفارقة الأبدية: "نقضي نصف العمر في انتظار لقاء من نحبهم، والنصف الآخر في وداع الذين أحببناهم"!.. وفي منتصف العمر تكون "التحويلة" بين قطارات العمر المتنوعة.. وتكون محطات الربط بين خطوط مترو العمر المختلفة.. وتكون كلُّ البدائل مفتوحة ومتاحة، وهو ما يسبب الحيرة، ويولد القلق! وعلى حد تعبير الكاتب الجزائري "واسيني الأعرج": "ماذا تريدني أن أفعل في عالم أضيق من حذائي.. العمر يركض وأنا لم أفعل شيئاً بحياتي!".
قانون ساكسونيا!
مدينة ساكسونيا هى مدينة ألمانية قديمة، شهرتها جاءت من قانون كان سائداً في القرن الخامس عشر الميلادي وضعه النبلاء في هذه المدينة.. ووفقاً لقانون ساكسونيا، كان العقاب الذي يتم توقيعه على الفقراء وعامة الناس من جنس العمل، فمن قتل يُقْتَل، ومن يسرق تُصادَر أمواله .. وهكذا.. أما العقاب على الأغنياء فيتم على الظل؛ إذا أخطأ أحد طبقة النبلاء؛ يقف هذا المخطىء فى الشمس، ويتم محاكمة " ظله" ، ويتم توقيع الحكم على هذا " الظل" ضرباً ، وشنقاً ، وتعويضاً.. كان ولا يزال قانون ساكسونيا مثالاً للعدالة الوهمية الانتقائية، والقسطاس الشكلي الطبقي.. وهو ما جسَّده فنياً ببراعة فريد شوقي وعادل إمام في فيلم "الغول" (1983) عن قصة وحيد حامد، وإخراج سمير سيف.
في أزمة منتصف العمر يتم تطبيق قانون ساكسونيا.. ما بين "طيش" الشباب كمبرر لأخطاء الصغار، وضعف السنين كمبرر لأخطاء الكبار، يتم محاكمة مَنْ هم في منتصف العمر محاكمة الفقراء في ساكسونيا.. لا تبريرات مقبولة لمن بلغ أشدَّه وبلغ أربعين عاماً.. ولا حصانات مضمونة لهم.. أصحاب هذا العمر يحملون أوزارهم كاملة، ويحملون أثقالاً فوق أثقالهم.. معظم من هم في منتصف العمر ويمرون بأزماته، هم نتاج عقود طويلة من سياسات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ورغم ذلك يتحملون نتائجها كاملة، يتحملونها وهناً على وهن، وضعفاً فوق ضعف.. وغير مسموح لهم بالشكوى.. وغير متاح لهم التعبير عن حيرتهم الكاملة.. هم تروس في ماكينة الحياة كما يتصورها النبلاء، ويطبق قوانينها الفقراء!
في كل مرحلة تاريخية، يوجد جيل عليه دفع الفدية، وتحمل المسئولية.. وفي كل مرحلة، يوجد جيل يتحمل كلُّ فرد فيه تذكرة ركوبه كاملة، إضافة إلى تذكرتين أخريين للصغار والكبار، ورغم ذلك، فقد لا يجد هذا الجيل له مقعداً يرتاح إليه، أو مسنداً يتكأ عليه.. وعليه الوقوف طوال الرحلة، ممسكاً بأهداب الأمل في نزول بعض الراكبين.. وعلى هذا الجيل أن يعتقد في قدرته على تغيير الواقع أو رفع الراية البيضاء وإعلان هزيمته أمامه.. وعلى حد تعبير "ألبرت إينشتاين" "عندما لا يفهمك الكبار، وينتقدك الصغار، ويعتبرك المجتمع مجنوناً، فهذا يعني أنك قادر على تغيير العالم مثلي"، وهذا يعني أيضاً أنك تمر بأزمة منتصف العمر..
العمر المسروق
في مقال مشهور للدكتور "مصطفى الفقي" عنوانه "الجيل المسروق والدور المسحور"، أشار فيه إلى أزمة منتصف العمر من الناحية الوظيفية؛ حيث يكون هناك جيل أو مرحلة عمرية مثل "الميزانين" في بعض البنايات والعمارات الكبيرة، لا يتوقف عندها الأسانسير.. فتجد المصعد محملاً بركابه دون أن يمر بالميزانين.. وشبَّه "الفقي" جيله بأنه «الجيل المسروق» الذي يبدو وكأنه يسكن «الطابق المسحور»، حيث لا يقف المصعد عنده؛ ويظل ساكنوه بكفاءاتهم وخبراتهم وقدراتهم محشورين فى ذلك الطابق.. في أزمة منتصف العمر بعض من هذا الشعور.. شيئ أشبه "بالرقص على السلم" أو "بالحنجلة".. تكون نتيجته "لا اللي فوق شافونا، ولا اللي تحت سمعونا"، فلا نحن صغار حتى نركب المصعد من أول دور، أو نعيد بدء الرحلة من جديد، ولا نحن كبار قد وصلنا إلى الدور المنشود وعرفنا نهاية القصة وإن لم نرض عنها:"لو أني أعلم خاتمتي ما كنت بدأت"!
في كتابه الأخير "حصاد السنين" والذي يضم سيرته الذاتية، أشار "زكي نجيب محمود" في مقدمته إلى "ترنيمة البجعة"؛ إذ "يقال عن البجعة إنَّها إذا ما دنت من ختام حياتها، سُمِعت لها أناتٌ منغومة تطرب آذان البشر.. ولا يمنع أن تكون تلك الأنات صادرة فى الغالب عن أَلَمٍ يكويها. ومن هذه الترنيمة الجميلة قُبيل وفاتها، جاء التشبيه عند أدباء الغرب، إذ يصفون عملاً جيداً أبدعه صاحبه بأنَّه ترنيمة البجعة".. في أزمة منتصف العمر قد يبحث الإنسان عن ترنيمة تميزه، وعن عمل يبرزه، أو حتى عن علاقة عاطفية جديدة تعيده إلى صباه الضائع!.. مرحلة منتصف العمر هي مرحلة "التوتر" و"القلق" والاكتئاب الكبير في حياة من يمرون بها، وإنْ ظنَّها البعض "تغريدة البجعة" أو رقصة الطرب "فالطير يرقص مذبوحاً من الألم"!
البدايات والنهايات لها ألف مدخل ومخرج.. أما الحالات الوسطى، وعنق الزجاجة، ومنتصف العمر، فضيقة، ومتعرجة، وفيها منحدرات خطرة.. ولذلك فالنَّاجون منها هم الفائزون الحقيقيون.. وقليلٌ ما هم.. ويظل العمر "ثمناً باهظاً جداً ندفعه مقابل النضوج" على حد تعبير الكاتب المسرحي البريطاني "توم ستوبارد"..
---------------------------
بقلم: د. أيمن منصور ندا
(تم نشر هذا المقال بجريدة الأخبار يناير 2021)