30 - 06 - 2024

جمال عز العرب

جمال عز العرب

كنا نراجع مواد الصفحات قبل إرسالها الى المطبعة لما سألنى صلاح عيسى : تعرف دكتور اسمه جمال عزالعرب ؟ 

- دكتور ايه ؟ 

- دكتور عيون 

- يبقى أخويا .. خير ؟

- تمام .. قصرت عليا المشوار 

- ايه الحكاية  ؟ 

حكى لى عن واحد صاحبه كان فى المانيا يبحث عن علاج ابنه الصغير ، ونصحه الطبيب الالمانى  أن يعرضه فى القاهرة على طبيب مصرى اسمه جمال عزالعرب ومن الاسم توقع صلاح أن أكون على صلة به.

بعد أيام قدم لى صلاح صديقه الذى حضر ليشكرنى ويعبر عن امتنانه لما قام به الدكتور جمال . سألت جمال عما فعله فأجابنى بابتسامه وكلمتين ..  و لا حاجة دى حالة مألوفة .

ثم صمت  .. ولا كلمة زيادة  و لا تفاصيل . 

هذا الموقف تكرر معى  فى علاقتى بشقيقى  .. أسمع عن انجازه من الآخرين بالصدفة بينما هو لا يحدثنى عن نفسه حتى ونحن نعيش معا فى نفس الغرفة .. كان تلميذا فى مدرسة على عبداللطيف الاعدادية وعرفنا من اعلان تلفزيونى أن مدرسته وصلت الدور النهائى فى مسابقة أوائل الطلبة بين المدارس و سيذيع التلفزيون المباراة النهائية على الهواء  .

 دهشت لأن المسابقة بدأت منذ اسابيع على مراحل متدرجة صعد فيها فريق  المدرسة المكون من أربع أولاد بينهم جمال شقيقى و لم يحدثنا عنها إلا  فى اليوم الأخير ! 

كان يوما مشهودا فى تاريخ الاسرة يوم إذاعة البرنامج ، تجمعنا حول التلفزيون نترقب الاسئلة والاجابات..على الشاشة ظهر بوضوح جمال قائد الفريق وعقله يرتب الاجابات مع زملائه ثم يترك الميكرفون لواحد منهم يذيعها وينال تصفيق الحضور بمجرد اعلان القرار .. 

( اجابة صحيحة ) 

تعددت الاسئلة ولم يتغير سلوك جمال ظل محافظا على دوره مبتعدا عن الميكرفون ، بمرور الوقت شعر أبى بالغيظ ، كان يجلس على الكنبة شغوفا بالمتابعة والى جانبه كنت وصديقى محمد نوفل . صاح أبى كأنه يناديه بصوت مرتفع :

- يابنى اتكلم انت ..مأخر نفسك ليه ؟ 

ظهرالقلق والغضب فى السجاير التى أشعلها أبى ونساها فى الطفاية ، حاولت أخفف عنه فقلت :  جمال مالهوش ذنب هو المدرس غالبا متفق مع الاولاد على طريقة الاجابة 

عارضنى نوفل قائلا: لأ ..جمال السبب هو شخص غيرى وعنده إنكار للذات  

رمقنا ابى بنظرة غيظ وهو ينهض مغادرا المكان، ثم  توقف إذ ظهر جمال يمسك الميكرفون ليجيب بنفسه على السؤال ، كان المطلوب إعراب بيت من الشعر الجاهلى .. وتمكن جمال من الاجابة بثبات وثقة ، وكان ذلك هو السؤال الأخير أعلن بعده فوز مدرستة بالجائزة الاولى.. فانطلق الصياح والفرح ، وأشرق وجه أبى . واخوتنا الصغار يهللون .

مرت الأيام ولم يختلف الحال يسافر جمال الى انجلترا ويعود وبعد سنوات أعرف أن اسمه محفور هناك على جدار بالجامعة لأنبغ الدارسين بها منذ تأسيسها ، حسبما أبلغنى أحد الدارسين هناك . 

لم يهتم جمال بعمل عيادة خاصة وانضم الى مجموعة دولية من الاطباء تقوم بحملات صحية للتدريب والعلاج فى بلاد العالم الثالث فسافر الى سوريا والاردن والصومال وكينيا واريتريا والهند وباكستان .. 

قفزت الى ذهنى صورة (الأطباء الحفاة) كما دعى اليها الزعيم الصينى ماوتسى تونج ، اطباء يخضعون علمهم لخدمة البشر كواجب انسانى يقومون به وليس سلعة يبيعونها لمن يستطيع ، خصوصا بعدما أوقف نشاطه على قرى الصعيد من الفيوم الى المنيا وقنا وسوهاج يعقد الدورات التدريبية للاطباء والعاملين بالصحة ويربط بين الرعاية الصحية ومساعى التنمية الشاملة فى المجتمع المحلى . وهو جهد يقوم به مع آخرين بعيدا عن الأضواء لا يعود عليه بمنافع مادية أو أدبية .حتى اهله واخوته لا يعرفون عنه إلا انه عنده شغل فى الصعيد.

أفكر أحيانا فى تفسير هذا النمط من السلوك بغض النظر عن تقديرنا له ، فلسنا نعيش وسط الملائكة والتمسك بمثل هذا السلوك المثالى له عواقب ومتاعب ليست هينة . وأظن انى مسئول بدرجة ما عنه .

كنت أعامل أخى كأنه ابنى البكرى أنقل اليه حماسى الوطنى وأقفز به اسوار الطفولة من حفلات صباح الجمعة بسينما مترو نشاهد معا توم وجيرى الى قاعة المركز السوفيتى نشاهد المدرعة بوتمكين ومعارض الصور والكتب وانا بحماس الشباب كأنى ماكينة كلام منهمر أتعجل الأيام ليكون اخى الطفل رفيقى فى الحلم والعمل .فى تلك الايام كنت منتشيا بكلام وخطط عبدالناصر وحلم صلاح جاهين بتماثيل رخام ع الترعة واول سفينة فضاء مصرية على غلاف مجلة المصور، قدمت نسخة المصور الى جمال وطلبت منه ان يحفظها كأننى أقدم اليه الكتاب المقدس ليحفظ العهد بيننا .

فلما دارت الايام ووقعت النكسة كان اخى الطفل الصغير ابن العاشرة لا يعرف كيف انطبقت السما على الارض بين يوم وليلة ..لم يفهم حزن ابى وثورته على جهاز الراديو وحيرته كأنه يعصره ليعرف ما خلف التشويش والشوشرة ,, فيجرى الصغير ويلجأ الى بأسئلته المتتالية فأتهرب منه , ويلاحقنى : مش انت كنت بتقول عندنا اقوى جيش .. طيب فين الصواريخ اللى قلت عليها ؟

تطورت الاحداث وبعد ثلاثة شهور من الحبس الانفرادى تمت أول زيارة واستدعيت الى مكتب المأمور للقاء أبى وأخى الصغير ، فى طريقى اليهما شعرت برعشة خوف لم أشعر بها أبدا ونحن فى قبو أمن الدولة امام جلادى الداخلية ولا فى الزنزانة المغلقة على وحيدا ليل نهار ، كنت فى الحقيقة خائفا من مواجهة أبى وأخى اكثر من كل مامررت به لأنى شعرت بمسئوليتى عن ايذاء أبى وما ناله بسببى وخوفى من اسئلة أخى التى لا أعرف لها اجابة . ولعله يرانى كذبت عليه وخدعته .

أظن أن هذة التجربة أثرت فى وعى أخى الصغير واختياراته ولعله وجد ان التعامل المباشر مع الواقع اجدى وانفع من الجدال الحزبى ورب بذرة تغرسها فى صمت وهدوء تبقى وتثمر ، بينما الرطانة السياسية سحب من الكلام العابر . لعله رأى عالم الاعلام والاحزاب وشجار الساسة وأكاذيب الصحافة كلها بالون هائل مبهرج الألوان لايبقى منه أثر. ووجدنى صرفت العمر فى تجارب السياسة والصحافة  ولم احصد غير الاحباط  و المرارة . 

بينما شبر واحد من الارض يستصلحه فلاح أو مريض واحد تنقذه أو طفل واحد تعلمه  يضيف إلى عمران الأرض وخير البشر . صناع الحياة فى هدوء بالملايين فى كل مجال  بعيدين عن الجلبة والضوضاء ،هم سر البقاء الابدى 

كنت مخطئا عندما تصورت أن كل من لا ينشغل بالسياسة كما نعرفها مقصر كأنها معيار وعى الانسان أو فاعليته . 

يا صديقى واخى الملاك الحارس لعائلة عزالعرب 

كل سنة وأنت طيب.
-------------------------
بقلم: أحمد عز العرب

مقالات اخرى للكاتب

جمال عز العرب





اعلان