26 - 06 - 2024

نبيل عبد الفتاح يبحر ويفجر الأسئلة ويطرح الرؤى: من نقد الجسد الكيرفي.. إلى "تسييد" أنصاف المواهب

نبيل عبد الفتاح يبحر ويفجر الأسئلة ويطرح الرؤى: من نقد الجسد الكيرفي.. إلى

أطل بجسارة مثقف نوعى على عصر العاديين الرقمي في ملتقى الشربيني الثقافى 
- الثورة الرقمية فتحت المجال واسعا أمام إنتاج الذات الأنثوية الفردية .. وإحداث شروخ في الثقافات المجتمعية.
- الموجات الحقوقية ساهمت بمحدودية فى تطور الأوضاع النسوية، فما زالت المرأة تحت سطوة الثقافة الذكورية  
-البوستات والتغريدات والفيديوهات (الطلقة) فتحت المجال واسعا أمام المرأة الفرد لجلب الأموال والإيقاع بالذكور
الذات الفردية للذكور والإناث ساعدت فى إبداء الآراء  الساخرة أو التافهة دون خوف بل امتدت إلى  نقد السلطة
- ثورة الرقمنة أسقطت عصر "النجوم اللامعة" وفق تعبير هيكل.. وسقطت معه أيقونات السياسة والجمال
- الجسد تحول إلى موضوع لجراحات التجميل للرجال والنساء سواء من القادرين أو من  الطبقة الوسطي
- ولع النساء بالجسد الكيرفي والصدور الناهدة ونحت الخصر وتجميل الأنف تحول إلى هوس حتى لدي الرجال!
- النظرة الجمالية للجسد الفرنسي تغيرت .. بفعل الرغبة في الإثارة وتحقيقًا للتشبع الجنسي.
- أفكار وميول العاديين في العصر الرقمى انحازت لثقافة الترفيه والاستهلاك السريع فتخلت الدول عن الثقافة الرفيعة 
- زمن السرد آيل للغروب ومنسوب الشعر في ارتفاع وقصيدة النثر ستغدو جزءا من ديوان الحياة القادمة.
-
 أنصاف المواهب تمددوا فى عالمنا العربي حتي أن البعض من التافهين بات  يطلق عليهم لقب المفكرين

*************

 - لا ندري بالضبط ماذا حدث؟ كيف جلس مفكر كنبيل عبد الفتاح ليشرح بدقة كل هذا الواقع .. فيطرح أسئلته المبدعة،على ضوء الماضي الذي يعرف كل ثقب فيه، ولا يزال يشرحه ويحلله ويستلهم منه ضفيرة او جديلة بين ماهو واقع وما هو متوقع!

ماهي كواليس تلك الليلة التي أطل فيها على ملتقى الشربيني، في محاضرته التى لايوصف مقدار ثرائها بحال من الأحوال؟

يمكننا تصور ركام من الكتب استدعاه الى ذاكرته، وعشرات الآراء والتحليلات، ومئات الأفكار التي شاعت في عصور سابقة، أيا كانت مسمياتها، من العصور الوسيطة الى العصور الحديثة.. من عصر الزعيم إلى عصر الجماهير الغفيرة .. من عصر المثقف الفرد الى العصر الرقمي. ما الأغاني والموسيقى التي كانت في خلفية عقله ومقدمة ذائقته ووجدانه، كي يكتب عن الغناء والموسيقي؟ أي أفلام وأي نجوم وأي ممثلين.. عن أي جمال ألح على خياله وتفكيره وهو يفكر في المرأة وتطورها في المجتمع، من عصر الثقافه النوعية الى عصر العاديين الرقمي؟ ما الفيدوهات "الطلقة" -على حد تسميته - التي شاهدها، والصور التي طالعها.. حتي خلص منها إلى استنتاجاته عما أسماه "المرأة الفرد"، والتى تحدث عنها في الجزء الثاني والأخير من المحاضرة التي ألقاها في ملتقى الشربيني الثقافي؟ كيف أمكن له أن يطل على عوالم العاديين عن قرب بهذا الشكل وهذه الجسارة؟

- بدا نبيل عبد الفتاح وكأنه مركز دراسات قائم بذاته، بل وبديلًا له في عصر اضمحل فيه وتضاءل دور مراكز الدراسات واسهامها في التحليل والاستنتاج والرؤي البديلة. انتقل كعازف سيمفوني ماهر بين الأفكار، ففى الجزء الأول من محاضرته أكد اننا نقترب من نهاية عصر المفكر والمثقف النقدي ورجل الدين التقليدي وان تحولات جذرية تتجه بنا الى القطيعة مع العالم الحديث ومابعده، والرقمنه والذكاء الصناعى نحو عالم مغاير تماما. وقال إن الاختلالات البيئية سوف تؤثر على مسارات تطور الثقافات الانسانية على  تعددها و تنوعها الكوني،  ستؤثر كذلكفي العقل الانساني، ولن يعود الانسان مركز الوجود فى الفلسفة  والفكر، وأن التأثير سيصل إلى حد إحداث تغيرات جغرافية تتعلق بزوال مناطق جغرافية بأكملها.

وأكد ان التدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم تسبب في تحريك مستويات ومؤشرات العنف الاجتماعى والأسري، مشددا على أن العنف الاجتماعى انعكاس لانفصال السياسة والنخب الحاكمة عما يجري وراء السطوح المجتمعية.

فى الجزء الثاني من الحوار يرصد مالم نعد نراه عند علماء الاجتماع السياسي..  فهو ينشغل بتحليل مالا يتقدمون إلى تحليله، من تأثير عصر العاديين الرقمي على المرأة.. ونظرتها لنفسها واستقلالها الاقتصادي، فى الوقت الذي تستمر فيه سطوة المجتمع الذكوري عليها! وصولا  إلى التطورات السياسية والمجتمعية التى طرأت على أوضاع الأسرة، فلفت الانتباه إلى  ظاهرة تأنيث الأسرة  المصرية، وتطور المرأة وحصولها على بعض الحقوق، بفعل ضغوط جماعات الدفاع عن حقوق المرأة، ووصولها إلى مناصب مرموقة (قاضية ووزيرة ونائبة)، وفي المقابل تزايدت لغة التحرش والتنمر ضدها، كما رصد تحولا مهما وهو ظهور المراة كذات فردية، حيث فتحت المنشورات والتغريدات والفيديوهات (الطلقة) أمامها  المجال واسعا للتحول إلى الفردية.

الرقمنة والسلطة وسقوط الأيقونات!

توقع نبيل عبدالفتاح أن يؤدي ذلك إلى انعكاسات سياسية ستشكل قاعدة سوسيو - ثقافية نحو  التحول إلى الحريات الفردية العامة، مشيرا إلى أن خطابات عصر العاديين الرقمى (بوستات -تغريدات – فيديوهات - صور) أدت إلى الاهتمام بإثبات الذات الفردية للذكور والإناث، وتكريس الفردية وإبداء الآراء ساخرة أوتافهة ، دون خوف أو وجل من السلطة ، بل امتد ذلك الى نقد السلطة.

وانتقل نبيل عبد الفتاح للحديث عن أثر ثورة الرقمنة على عصر النجوم اللامعة وفق تعبير هيكل، بمعني سقوط الأيقونات في السياسة والجمال الأنثوي .. وقال: تغير مفهوم الجمال ومن هو الجميل، بحسب ملامح الوجه والعنق ولون الشعر والصدور الناهدة والتناسق الجسدي والأذرع والأيديوكل تفاصيل هندسة الجسد الجميل، حيث تحول الجسد إلى موضوع لجراحات التجميل المستمرة للنساء والرجال القادرين على إجراء هذه الجراحات التجميلية، والتي تحول معها الجمال إلى سلعة وموضة جمالية، وهذا التوجه لم يعد قاصرًا على الأثرياء وإنما امتد للطبقة الوسطى .

وكان لافتا أن مفكرًا من وزن نبيل عبد الفتاح أولى هذا الجانب الجمالي اهتماما خاصًا، حتى أنه فيما يشبه الرجوع إلى المراجع البحثية رجع إلى صفحة المتخصص في التجميل الدكتور أحمد السبكي، ليطل علينا منها بالتحولات التى طرأت على المرأه في مضمار الجمال واهتمامها بنوعية معينة من أشكال الجمال في الجسم وتكويناته، مثل الجسد الكيرفى والذي يبدو أنه تحول إلى نوع من الهوس، ولاحظ أيضا انجذاب كثير من الرجال إلى هذه النوعية من الأجساد، مشددا على ان هذا كله يعد تعبيرًا عن التغيير في النظرة الجمالية للجسد الفرنسي، إلى اشكال أخري من منطور ذكوري وإثاري، موضحا أن هذا التغيير نحو إثارية الجسد الكيرفي ونحته نحتا إنما هو استمرارية للتشبع الجسدي.

وقال إن خطاب الجسد العادي في عصر العاديين يقول أنه لم يعد التعري للجسد  للجميل نوعا من البورنو جرافيا أو المواقع الاباحية، فهذا الجسد حضر دونما وجل أو إرهاب التعري او ضرورات التحشم، وهذا التحول انعكاس لأثر الرقمنة على الكتل الجماهيرية للعاديين، المتحررين من الضوابط الدينية والقيمية والعرفية التى كانت تضبط الجسد .

واستطرد موضحا أن صور وفيديوهات الجسد السريعة كطلقة تشير إلى رغبات جامحة فى محاولة العاديين لتأكيد حضورهم في العالم الافتراضي الذي بات يشكل محاولة للتحرر من قيود الضبط الديني والاجتماعى بل والسياسي. وفي هذا هى نوع من الحضور بإيماءة أو إشارة جنسية، ودعوة ضمنية للتفاعل الجنسي، وإظهار وإبراز لرقص الجسد الكيرفي المشار إليه. وهناك ايضا إشارات أخري، تصدر عن النساء اللواتي يظهرن عجيزتهن، سواء بالجلباب أو بغيره، وأثناء اعداد الطعام، وذلك من أجل حصد المزيد من اللايكات وجمع المال من شركات الإنترنت. واعتبر أن استخدام ألفاظ عارية أو جنسية انما هو جزء من عملية تحرير اللغة من بعض محرماتها اللفظية والتعبيرية في المجال العام اللغوي .

رفض الوصاية

طبقا لنبيل عبد الفتاح فإنه يمكن القول أن الخطابات الرقمية أيا كانت مكتوبة أو مرئية أو راقصة تستخدم لإحداث حالة مفارقة وساخرة، خاصة عندما تنتقل الحكايات الى دائرة السياسي ورموزه والسعى إلى نقده. لكن نبيل، كما لو كان يستدرك، يقول أن تحرير الجسد الأنثوي من قيود الواقع ليس تحريرًا لذاته من القيود الذكورية لأن مسعاها هو إثبات الذات، أي أنها تعيد إنتاج الذات الانثوية لصالح الذكورية وتجلياتها المسيطرة عليها في الواقع الفعلى إلى الواقع الرقمي من أجل المال أو الإيقاع ببعض الذكور .

وقال نبيل: مما سبق يمكن القول أن سوسيولوجيا الرقمنة تشير إلى ظواهر وتغييرات في مفهوم الثقافة ومعناها. ثمة تغيير نحو ثقافة عصر العاديين الرقمي وفرضهم عقائدهم وأفكارهم دونما وصاية من أية سلطات. ثمة ميل إلى ثقافة الترفيه التى تخاطب العاديين، فلم تعد الثقافة الرفيعة إحدى مرامي الدول والشركات الفنية الكبري، وإنما ثقافة الاستهلاك السريع.. وهذه الثقافة أدت إلى الاستهلاك السريع للممثلين والممثلاث، وتجاوز الجمهور لهم، مما أدي الى استبعاد بعضهم من الأعمال الدرامية وبقاء من يستطيع التكيف فقط

ولاحظ نبيل أن الفئات المعسورة فرضت نفسها وذوقها على الطبقات الوسطى والعليا، فأصبح هذا الذوق جزءا فاعلا في تشكيل أزماتهم واحتفالاتهم وترنمهم بأغانيهم المرقصة.

الرقمنة والأدب

وانتقل نبيل عبدالفتاح من حديث الفن إلى حديث الأدب وأثر الرقمنة على الإبداع السردي الروائي والقصصي والشعري في الأنساق اللغوية للسرد وعلاقاته وأنسجته وجمالياته ومجازاته، وقال إن اخطر الظواهر هي ظهور متزايد لورش العمل في الكتابة وتأليف السيناريو والرواية والقصة والاقبال عليها وصدور اعمال عن هذه الورش، وتزايد دور النشر غير المعروفة التي تنشر  بأجر، والكتابة من اجل الحصول على جوائز وظهور طوفان من السرديات الأدبية والنقدية الضعيفة، وبروز شلل من نقاد وكتاب تروج لبعضها البعض، وتحوُّل بعض كتاب الرواية لكتابة السرديات التاريخية هروبا من الواقع وبحثا عن نسيج روائي مختلف وآمن رقابيا. 

كما تراجع مستوي السرد الروائي والكتابات النقدية المبدعة، وكلها ظواهر تشير الى تراجع نسبي في الطريق إلى غروب زمن السرد (وفق تعبير باسم الموسوي) وهو زمن ساد نتاجا للرداءة والتسطيح وضعف الحركة النقدية إلا قليلا .

أما في الشعر، فبنظرة إلى حالة، نجد أن منسوب الحالة الابداعية لقصيدة النثر في ارتفاع مع تهميش لها لدى المتلقى العام ومحدودية قراء قصيدة النثر وشعرائها لعديد من الأسباب على راسها الثقافة والأسئلة الفلسفية والوجودية والصور الشعرية غير المألوفة وعدم اهتمام دور النشر والجوائز وبعض النقاد بشعرائها مقابل اهتمامها بالرواية. إلا أن المؤشرات تقول أن الشعر سيكون جزءا من عوالم التغيير الكبري وسيغدو ديوان الحياة القادمة.

واختتم نبيل حديثه بقوله: يبدو أن غياب المثقف ذي التكوين المركب ورفيع المستوي هو أحد ضحايا عصر النهايات والما بعديات . المثقف رفيع المستوي نتاج الافكار الجديدة  ذات العقل النقدي ومبدع الاسئلة الجديدة. وتراجَعَ هذا النمط في المشاهد السياسية والاجتماعية في أوروبا  وعالمنا العربي بفعل الغياب والرحيل للمفكرين والقيود السياسية والوصاية الدينية والاجتماعية.
أدي ذلك إلى صمت المفكر في ظل النمط الاستعراضي لبعض الكتاب ومعدي البرامج. هناك أيضا عملية إزاحة من مقدمي البرامج التلفازية لصالح بعض الشخصيات الإثارية في خطابها التلفازي والتي تؤدي إلى إثارة الراي العام من أجل التريند وهو مالا يجاريه المفكر
.

هنا مع عصرالرقمنة حيث تراجع دور وفاعلية المفكر وتم تهميشه، خاصة من دوائر الاهتمام بإنتاجه الفكري بالنظر الى التراجع التدريجي فى التلقى وتراجع القراءات الورقية لصالح الاستهلاك الرقمي .

وأشار نبيل عبدالفتاح إلى الايديولوجيات الناعمة التي ظهرت في نهاية السبعينيات وبعدها بدأ المثقف يتوارى نسبيًا الى نهاية القرن الماضي، وبدأ معه الحديث عن نهايات المثقف الذي تكرس مع سطوة وهيمنة النيوليبرالية. وحل محله مقدم البرامج وخبراء الاعلام ثم مع الادارة الجديدة لمصممي البرامج واليوتيوب وغيرهم مع عصر البيانات  الضخمة والبيج داتا وكلها تعمل على توجيه الانتاج او الاستهلاك نحو هذه الرغبات المتعاظمة كونيا.

في عصرالعاديين الرقمي تراجع الدور النقدي والقيادي للمثقف النقدي وللمفكر وتكريس مايطلق عليه عصر نهاية المفكر والمثقف والذي اطلق عليه الفيلسوف الكندي "عصر التفاهة" ، اعتمادا على تمدد نمط الحضور (المديوركر) أو عصر أنصاف المواهب. 

وأشار نبيل عبد الفتاح إلى سيطرة أنصاف المواهب وتمددهم في عالمنا العربي حتي أن بعضهم أطلق عليه صفة مفكر ومثقف كجزء من النعوت التى تطلق على التافهين. والسؤال هو هل هناك مايلوح بعد نهاية المثقف في عالمنا؟ سؤال مفتوح رهين التطورات التقنية للرقمنه والأناسة الروبوتية واحتمالات التحول المرجحة إلى ما بعد الانسان.

-----------------
عرض بقلم: محمود الشربيني   







اعلان