17 - 08 - 2024

"تكماندو" رواية سورية تؤرخ للفكر السياسي والصراع في الدول العربية

يأخذنا الأديب السوري "برهان محمد سيفو" في رحلة عبر المكان و الزمان نرى فيها الريف و المدينة ، العاصمة و الدولة ، الفقر و الغنى ، الصراع السياسي والاجتماعي ، والثقافي الفكري والنفسي .

و الريف في رواية توكماندو  قد يكون سوريا أو مصريا أو ربما يمنيا أو  تجد نفسك و أنت تقرأ عنه قد ذهبت بذاكرتك إلى مشاهد رأيتها في الريف الهندي أو الأفريقي أو الريف في أي دولة من دول العالم الثالث.. فكلها تقترب من بعضها في التأرجح بين فقر مدقع لفلاح بسيط وغنى لصاحب أملاك واسعة و مدارس تضم أبناء هؤلاء جميعا لتتمايز ملابسهم وفق مستويات أسرهم المادية ، لكن هؤلاء جميعا يجتمعون على عادات و تقاليد شرقية تعاني فيها المرأة تهميشا واستغلالا وتبعية و خنوعا لسلطة الرجل مهما كانت بساطة حاله علما و مالا . لكن أديبنا لا يفوته أن يفصل بين مشاهد الحياة الانسانية بكل معاناتها باستعراض لوحات مبهرة لجمال الطبيعة الخلابة والذي يسمح باستراحة للنفس وسط مشاهد البؤس ..

يعرض الأديب السوري الشقيق صراعات شرقية بإمتياز تبدأ من الريف بكل تفاصيله ليكون مدخلنا إلى الحياة الاجتماعية و السياسية بدولنا، فتدور احداث الرواية حول "علي" الشخصية المحورية، و الذي يعاني في طفولته صراعا كبيرا لكي يحصل على أقل حق من حقوق الطفل و هو حقه في الذهاب للمدرسة فبينما يحلم "على" بأن يكون التعليم سفينته للهرب من الفقر ، يحاول الأب أن يجعل من على نفسه قاربا للإبحار في بحر الفقر بأن يخرجه من المدرسة ليعمل في عمره المبكر ويعين والده على سبل الرزق  ، وهنا يكون دور الأم التي لا تملك قرارا لكنها تلجأ إلى رجل مسن بالقرية ليتحدث إلى زوجها ليعود "على" إلى دراسته ..

و لم يغفل الأديب إستخدام الرمز في تسميته للأشياء، فالقرية اسمها قرية "الصبر" لتصف حال أهلها والبطل المتطلع للعلم و الذي سيكون صاحب فكرّ تنويري فيما بعد إسمه "علي" و الدولة اسمها " توكماندو" ، لكنه يذكر :مصر" بإسمها و يعتبرها الأمل في احداث تنمية و بدء التنوير في المنطقة.

يأخذنا الكاتب إلى أحوال المرأة و قهرها مستعرضا وضع أمه في البيت وفي الفلاحة ، ثم حال عمته التي تتبنى طفلا رضيعا وجدته في طريقها ؛ فيتهمها المجتمع به و تتخلى عنها اختها و تضطر لأن تترك القرية إلى المدينة لتعمل و تربي الطفل الذي وجدت في أمومته عوضا عن عنوستها بعد أن فاتها قطار الزواج ، فيعرض للتقاليد الفاسدة لتلك المجتمعات التي لا تأبه للرحمة و الإنسانية قدر اهتمامها بالمظاهر و ان كانت كاذبة و الأخلاق و ان كانت إدعاءً.

ومع إنتقال بطل الرواية إلى المدينة لإستكمال تعليمه يعرض الكاتب للفوارق بين القرية و المدينة و الأوضاع الإجتماعية حيث مزيدا من التحرر و مزيدا من الحرية للمرأة من خلال شخصية "سعاد" جارته التي يرتبط بقصة حب معها ، تلك الفتاة الجميلة المتحررة القوية في التعبير عن حبها و التي يجد نفسه أكثر تعرفا على ذاته وإنسانيته مع غرقه في حبها.

مع وصول بطل الرواية للجامعة نكون قد دخلنا إلى المعترك السياسي المحتدم بين حزب سياسي متسلط يتولى الحكم و يشد على شعبه بالحديد و النار ، وجماعات دينية متشددة تتشح بالدين طلبا للحكم وللسلطة و بين أحزاب يسارية هامشية مع ضعفها تتخلى عن بعض مبادئها التنويرية بمساندتها للجماعات الدينية في صراعها مع السلطة الديكتاتورية الحاكمة  التي تسجن و تنكل بالمعارضين ، فترفع تلك الأحزاب اليسارية في مساندتها لقوى الظلام المتشددة مبدأ "عدو عدوي صديقي" رغبة منها في التخلص من السلطة الحاكمة.

تستمر احداث الرواية لتعرض تطور الصراعات الأيدولوجية و التي تتحول من صراعات فكرية إلى صراعات مسلحة بين سلطة الدولة و الجماعات المتشددة تحت لواءات الخلافة مقتفية أثر دول ديكتاتورية..

و تعرض الرواية لما يشبه الحلقات النقاشية بين شخوصها من مختلف فئات المجتمع بمختلف إنتماءاتهم الفكرية بين يسار ويمين و وسط ومستقل و الأخير لا هدف له سوى تنوير المجتمع و النهوض به، فتتوالى الأحداث الإجتماعية ممتزجة بالأحداث السياسية مستعرضا للتوجهات الفكرية من خلال تنوع شخوص الرواية و تعبير كل منهم عن تيار فكري أثر أو تأثر بالأحداث ...

يغوص الكاتب داخل الصراعات التى تدور بين التنظيمات الدينية و المؤسسات السلطوية، والصراعات الفرعية داخل هذه و تلك ، والتي تكشف عن كذب ادعاءاتهم الفكرية.  و يكون لمعاناة ومصير المرأة دائما دور في رسم قبح الواقع الذي تعيشه تلك المجتمعات.

و لا يفوت الكاتب أن يخلق ما يشبه المناظرات الفكرية بين أصحاب النظريات الدينية الصلدة، و أصحاب الفكر العلماني التنويري الذي يتبناه بطل الرواية "علي" مع تأكيد الكاتب من خلال بطله على أن العلمانية لا تعني الإلحاد ولا تقترب منه ..

لكن الكاتب ينتهي بنا إلى نهاية حزينة، فالفتاة التي تمثل التحرر تختطفها الجماعات الدينية و تصبح سبية للأمير ، والمحامي الذي ينتظر منه أن يدافع عن حقوق مواطنيه ينضم إلى الجماعات المتشددة ليكون عنصرا فعالا فيها ..

و الأخ الذي يفترض فيه حماية أخته و تفهم ما أكرهت عليه من ظروف يذبحها دون عقل أو تفكير.

و "علي" المفكر المستنير تستغرقه الدعوة إلى التنوير حتى يهيم على وجهه في الشوارع ليشرح حقيقة ما فيه مجتمعه من ظلام غير مفرق بين إنسان و جماد وينتهي به الحال في مشفى للأمراض النفسية.

الرواية في مجملها عمل فني ثقافي فلسفي ،  تؤرخ لفترة الثورات التى تعرضت لها دول المنطقة والصراعات التى دارت بين الجماعات الدينية و بين سلطات و مؤسسات تلك الدول. كما تؤرخ لتطور تلك المجتمعات فكريا و ثقافيا بلغة عربية فصحى لكنها سهلة و معبرة بقوة عن ما تحويه من فكر ، و يتبنى " علي " بطل الرواية، الأفكار التنويرية التي يتبناها الكاتب نفسه في شعره و في مقالاته و الحوار بين شخصيات الرواية يتدفق بسهولة و كأنه حوار يدور على أرض الواقع و يعرض لأنماط الفكر المختلفة.

لكني آخذ على الكاتب النهاية المأساوية لأبطال الرواية و التي توحي بأن مجتمعاتنا بعيدة حتى عن الأمل في التغيير و الاستجابة لنداءت التنوير و قد كنت أرجو أن أجد نهاية أخرى للرواية تدعو إلى مزيد من تضافر الجهود على سبيل التخلص من عادات و افكار بالية أدت إلى تخلف مجتمعاتنا.

---------------------

بقلم: الهام عبدالعال