17 - 07 - 2024

الفنون جنون ! .. هل هناك علاقة وطيدة بين الفن والمرض النفسي؟

الفنون جنون ! .. هل هناك علاقة وطيدة بين الفن والمرض النفسي؟

- وجود مبدعين على رأسهم فان جوخ، الذى قطع أذنه، وتخلص من حياته بالإنتحار كانوا سببا فى ترسيخ هذا المعتقد
- إدوارد مونك صاحب لوحة الصرخة رفض العلاج وقال "معاناتي جزء مني وفني.. وسيؤدي تدميرها إلى تدمير فني"
- فرويد بكشف العلاقة بين النشوة واللذة التى أحسها ليوناردو دافنشي حين لامس الطائر شفتيه وهو طفل

يقول بيكاسو: "الفن يغسل من الروح غبار الحياة اليومية".

كثيرا ما نسمع كلمة الجنون فى وصف الأفكار القوية والمدهشة، فجملة "فكرة مجنونة" تطلق على تلك الأفكار الغريبة، وكذلك "الفنون جنون" جملة يطلقها البعض فى كثير من الأحيان كنوع من الإندهاش من غرابة العمل الفنى وقدرة الفنان على تصدير أفكار غريبة عن المألوف لدى العامة. وعممت تلك الجملة على الأفكار المدهشة التى يأتى بها أى شخص فى أى مجال من مجالات الحياة.فهل هذه الجملة مجرد نوع من المبالغة، أم أنها تحتوى بالفعل على قدر من الحقيقة؟ هل الأفكار المجنونة –على حد تعبيد البعض- مرتبطة بالإضطرابات النفسية؟

   لا يعنى هذا أن الإبداع منحصر فقط فى أؤلئك الفنانين الذين يعانون من مشكلات نفسية، فهناك الكثير من المبدعين أكثر إنفتاحا وإيجابية ويمتلكون صحة نفسية عالية ولا يعانون من أى مرض بل ولديهم شعور كبير بالرفاهية وينتجون إبداعات يومية ويرون أن الإبداع يعد علاجا يحافظ على حالتهم النفسية، ويعتبروه وقاية ومناعة من الوقوع فى المشاكل النفسية. 

وهذا يؤكد أن النشاط الإبداعى يحمى أصحابه من التعرض لأمراض نفسية، فهناك بلا شك رابط بين الإبداع والمرض العقلى، فهو يحافظ على الذين لا يعانون من الأمراض النفسية، ويكون وسيلة فى إنقاذ المصابين بالأمراض النفسية والتقليل من إنتكاساتهم، ومساعدتهم للتعافى. بل وتحول حياتهم الى الأفضل، وتنشيط الدماغ أثناء النشاط الإبداعى.

مما لا شك فيه أن وجود مبدعين على رأسهم الأكثر شهرة فينسينت فان جوخ، الذى قطع أذنه، وتخلص فى نهاية المطاف من حياته بالإنتحار عام1890، كانوا سببا فى ترسيخ هذا المعتقد لدى الكثير من الناس. وقد دفعتنى تلك العلاقة بين المرض النفسى والإبداع الى البحث، والتعرف على الفنانين الذين يعانون من أمراض نفسية وعلاقتها بإبداعهم. لم أتعامل مع المرض العقلى بشكل سلبى فربما يكون عاملا للإبداع وإنتاج أعمال رائعة. وأعتقد أن كلمة "الفنون جنون" لم تطلق من فراغ.

(الصرخة -إدوارد مونك )

اضطرابات نفسية ومزاجية تطغى

نحن أمام حقيقة لا يجب تغافلها حين نحاول قراءة وتحليل تلك الجملة، وهى وجود علاقة أكيدة بين الفن ووظائف العقل والعواطف والمشاعر لدى الجميع. وقد تجلى هذا الأمر لدى عدد من الفنانين الذين يعانون بالفعل من إضطرابات نفسية، وإنعكست حالاتهم المزاجية على أعمالهم الفنية

  عبّر العديد من الفنانين البارزين الذين يعانون من اضطرابات نفسية عن أفكارهم وحالاتهم المزاجية في أعمالهم الفنية. وقد قالها صراحة الفنان إدوارد مونك (1863-1944) النرويج، والذى رفض العالج رغم أنه كان يعانى من الإكتئاب والقلق. قال "معاناتي جزء مني وفني . لا يمكن تمييزها عني ، وسيؤدي تدميرها إلى تدمير فني. أريد أن أحافظ على هذه المعاناة".

نشأ إدوارد مونك فى أسرة متوترة ويحكمها القلق، فقد كان أبوه مسيحيا أصوليا يعانى من مرض عقلى، وقد كان هذا له التأثير المباشر على الفنان خاصة وقد توفيت أمه بمرض السل عام 1868 وكان عمره خمس سنوات، وبعدها توفيت أخته الكبرى عام 1877، وصدر والده له المخاوف من الغيبيات، مثل الموت والجحيم، والأفكار المقلقة. فقد أرجع وفاة أمه وأخته الى أنه عقاب إلهى على -سبيل المثال- مما أصاب إدوارد بالقلق والإكتئاب، ولم يستطع التحرر من هذه الأمور التى إنعكست فى لوحاته التى نفذها بضربات الفرشاه المرتبطة بالإنطباعية وما بعدها والتى تميزت بالبساطة والخطوط العريضة الثفيلة والتناقضات الحادة والإرتباك والمحتوى العاطفى الرمزى. فتناول موضوعات تمثل الحزن، واليأس والعزلة والوحشة، وتوجت هذه الأعمال بلوحته الشهيرة "الصرخة" التى تمثل القلق العالمى للإنسان، والتى عبر فيها بكل بساطة عن قلقه وخوفه وألمه من خلال تلك الرأس الضعيفة التى تواجه الخطر الذى أوضحه مونش قائلا: "كنت أسير على الطريق مع صديقين عندما غربت الشمس ؛ وفجأة ، تحولت السماء إلى اللون الأحمر مثل الدم. توقفت واتكأت على السياج ... أرتجف من الخوف. ثم سمعت صوتًا هائلاً، إنها صرخة الطبيعة اللانهائية ".

لقد عانى إدوارد من الخوف والمرض والموت فتكونت عبقريته وكان الأكثر تعبيرا عن العالم المعذّب من خلال إبداعاته الفنية ليترك لنا مجموعة ضخمة من الأعمال الفنية المعبرة عن هذه المعاناة التى كانت بدايتها موت أمه بمرض السل وهو فى الخامسة وموت أخته بنفس المرض بعد أن أكملت الخامسة عشر ربيعا.. تلك المعاناة التى توجتها لوحته الشهيرة "الصرخة" أيقونة الفن الحديث.

والصرخة هى اللوحة الأكثر تعبيرا عن رؤية الفنان لهذا العالم العبثى المحاط بالقلق وعدم اليقين. إنها شحنة من الدراما القابضة التى تعبر عن الخوف تاركة صدى الصرخة مسموعا حتى حين تشاهدها حتى الآن. فقد صور ثلاث أشخاص ساعة غروب الشمس إثنان مشغولان بالحكى فى حين يقف الثالث فى الجزء الأمامى من اللوحة بجوار سور ممتد يرفع يديه بمحاذاة رأسه ويبدو وجهه ملتويا مع جسده والفم والعيون مفتوحة بهلع وهو يعلن صرخته المدوية والمعبرة عن الرعب، والذى كثف الإحساس بالجو المزعج تحول الفراغ المحيط والخلفية إلى أشكال متماوجة وتدرجات اللون الأحمر الدموى الصارخ الذى حقق الإيقاع التجريدى من الخطوط المتموجة والتى يزلزلها ذلك الخط الحديدى المتجه نحو الداخل والذى يزيد من الإحساس بالجو المزعج.

(رجل يلتهم إبنه - فرانسيسكو دي جويا)

لقد عبر إدوارد مونك فى لوحات كثيرة عن الصراعات الداخلية فى أعماق الناس، وإهتم بالتأكيد على حالات الخوف والإحباط والألم والندم أيضا. يبدو هذا واضحا حتى فى أسماء اللوحات " الفتاة والموت، يأس، ليلة عاصفة، قرب سرير الموت، سراط الموات، رعب، الغضب، رماد". ففى لوحة رعب(1893-94) على سبيل المثال صور إمرأة ذات شعر أحمر تغرق فمها فى عنق عشيق ذو مظهر غريب، حيث تتدفق فوقها أشعة تزيد من حالة الرعب والفزع للمشهد ككل. وفى لوحة سراط الموت والتى أفرج عن مشاعر حزنه فيها بعدما جاءه خبر وفاة والده الذى تمنى أن يكون موجودا لحظة الموت، فصور شخصية غامضة ذات قبعة كبيرة تحدق فى نافذة عند الأضواء الساطعةعلى نهر ويظهر الصليب على الأرض كرمز لإستحضار روح والده. وهذه اللوحة تجسد حالة ذهنية ترتبط بالفكرة والفلسفة والرمز. وحتى عندما رسم لوحة رقصة الحياة من 1899-1900 ، وصور شخصية رجل زائغ العين يرقص مع امرأة في ثوب أحمر. لا تلتقي عيونهم، وتبدو أجسامهم صلبة على مسافة، فى حين يرقص الأزواج الآخرون بشغف، وعلى اليسار تظهر فتاه بشعر ذهبى وفستان أبيض أما جهة اليمين، تظهر إمرأة أخرى في ثوب أسود، وجهها مظلم مثل الملابس التي ترتديها، هذا التناقض بين الثوب الأبيض والثوب الأسود وبينهما ببؤرة العمل الراقص والراقصة المتصلبان يريد الفنان أن يقول إنها "رقصة الحياة المخدوعة".

لم يقف مونك عند مدرسة أو أسلوب محدد، إنما كان يتجدد ويتعلم ويسافر ويستأثر ويؤثر ويغامر باللون والخطوط، ولهذا استطاع ان يلعب دورا مهما فى التعبيرية الألمانية، وأن يكون متفرداً في أسلوبه وموضوعاته. تأثر على سبيل المثال بمجموعة الرمزيين الفرنسيين التى انضم اليها، كما تأثر بأسلوب فان جوخ وألوان جوجان قبل أن يكون له أسلوبه الخاص، وإستفاد من سفرياته لبرلين ومشاهدته لأعمال الفنانين هناك. لكنه يظل الفنان الأكثر تعبيرا عن الكآبة والحزن.

(حزن ، 1891 متحف مونش ، أوسلو)

تغيير حالات الوعي

إن العلاقة بين الفن والصحة النفسية أمر واقع يتفاوت وتختلف ظروف حدوثه حسب الظروف الحياتية التى يعيشها الفنان وحجم معاناته منها فى مرحلة ما من حياته. لكن المؤكد أن هذه المعاناة تنعكس على فنه. لذلك فإن الأعمال الفنية التى تجذب الناس للإستمتاع بها ترجع لموضوعاتها الإنسانية التى يتبناها الفنان مثل الحب والموت والسعادة واليأس، والعديد من الخبرات التى تنطوى على تغيير حالات الوعى أو السيطرة على الواقع. وقد أثبت هذا العديد من علماء النفس الذين بحثوا فى هذا الشأن كان فى مقدمتهم فرويد الذى ألف كتاب حلل فيه شخصية "ليوناردو دافنشى" بدءا من الحلم الذى ساوره وهو طفل والذى أحس فيه ليوناردو بنشوة ولذة أثناء الحلم. وقد قام فرويد بكشف العلاقة بين النشوة واللذة التى أحسها ليوناردو حين لامس الطائر شفتيه وهو طفل وبين الإبتسامات التى سجلها وهو كبير فى عدد من لوحاته مثل "موناليزا"، وصورة المسيح" وغيرها، وذلك من خلال التحليل النفسى للشخصية والذى يوضح سمات الشخصية بين ما هو ظاهر وماهو مختفى والذى ينكشف فى لحظات التفاعل من خلال اللاشعور دون تزييف.

وإذا تأكد هذا الإرتباط بقوة لدى ليوناردو العبقرى المتحكم بدرجات كبيرة فى مشاعره، فإنه يتأكد بقوة أكبر بكثير لدى الفنانين الذين يواجهون مشاكل نفسية. فإنهم يكونون أكثر تلقائية فى طرح ما بداخلهم "بالعقل الباطن" بمجرد تعاملهم مع الفن كأداة تعبير. وهناك العديد من الفنانين الذين أكدت أعمالهم وجود صلة بين الفن وصحتهم العقلية. من هؤلاء

فرانسيسكو دي جويا، وفنسنت فان جوخ، وإدوارد مونك، وفريدا كاهلو ومارك روثكو. وجميعهم عانوا من مشاكل في الصحة العقلية في مرحلة ما من حياتهم. يعكس فنهم بشكل فريد تلك العلاقة بين ما أبدعوه وحالتهم النفسية.
---------------------------
بقلم: د. سامى البلشي

(الموناليزا - ليوناردو دافنشى)

(من أعمال الفنان مارك روثكو)


(من أعمال الفنانة فريدا كاهلو)