18 - 07 - 2024

تونس .. محاولة لفهم سياق إعلان اتحاد الشغل إضراب 16 يونيو

تونس ..  محاولة لفهم سياق إعلان اتحاد الشغل إضراب 16 يونيو

غدا الخميس 16 يونيو هو الموعد الذي أعلنه اتحاد الشغل في تونس للإضراب العام للعاملين في الدولة والشركات العامة،  وهو أضخم اتحادات النقابات وأعرقها وتصفه هتافات منتسبيه وأنصاره بأنه أكبر قوة في البلاد. وهذا الإضراب الذي لا يعد الأول يأتي في سياق أزمة سياسية، وهذا مع تشديد الاتحاد على أنه في  طبيعته وأهدافه الست "اجتماعي اقتصادي".  ولكن قبل  محاولة فهم مايجرى بين الرئيس قيس سعيد وحكومته وبين الاتحاد وحدوده واحتمالاته دون مبالغات وتهويل أو تهوين من المفيد الإشارة إلى هذه الواقعة التي جرت بين القاهرة وتونس. 

بنهاية شهر يونيو 2018 وقبل أن يغادر مراسل " الأهرام" في تونس ببلوغ سن الستين بعدها بأسابيع معدودة، تلقى رسالة إلكترونية من مركز الجريدة بالقاهرة ـ على ندرة هكذا رسائل ـ يطلب على وجه السرعة تقريرا إخباريا عن "إعلان وشيك بإفلاس تونس". وما حدث أن المراسل ـ الذي كنته ـ اندهش لأن متابعاته ساعة بساعة من داخل البلاد التونسية لا تشير إلى هذا النبأ أو التوقع. وماكان إلا أن قام بواجبه الصحفي المهني، فبدأ بمراجعة كل ما يتوافر حديثا وباللغتين الإنجليزية والعربية عن الأوضاع الاقتصادية لتونس بالمواقع الإلكترونية لصندوق النقد  والبنك الدوليين ، وكذا النشرات الإخبارية والتحليلات بمواقع الإقتصاد العالمي الشهيرة والموثوقة كـ  "بلومبيرج" و"الإيكونوميست". ثم سارع بالحديث مع عضو بمجلس إدارة البنك المركزي التونسي  حينها ( الصديق الدكتور فتحي النوري) و آخر عضو مجلس التحاليل الاقتصادية برئاسة الحكومة ( الدكتور معز شقيق الصديق الصحفي كمال العبيدي). ولما تأكد المراسل تماما من أنه لا صحة لقرب إعلان الإفلاس، أرسل "للأهرام" نافيا وموضحا.

كما زاد على ذلك كتابة تقرير إخباري تحليلي يوضح وبشكل غير مباشر  كيف تحسن الحكومة في تونس نسبيا من شروط تفاوضها مع صندوق  النقد والدائنين الدوليين مستعينة بالضغوط التي يمارسها عليها اتحاد الشغل؟ . وهذا فضلا عما هو معلوم حينها من تأثر هذه المفاوضات بضغوط أخرى من برلمان كان يضم أحزابا متعددة ومعارضة قوية وصحافة حرة، فضلا عن ممارسة المواطنين لحق التجمع والتظاهر. وأنصف "الأهرام" نفسه هذه المرة، فنشر في عدد 19 يوليو 2018 تحت عنوان :" اقتصاد تونس بين مؤشرات التحسن وانتقادات المعارضة". وقد أشار المتن إلى أن ضغوط صندوق النقد على تونس ـ وفق هكذا سياق اجتماعي سياسي متميز ـ لا تستطيع أن تدفع حكومتها إلى  تنفيذ كافة شروطه و"روشتته المعروفة عالميا" بشأن بيع شركات القطاع العام، أو الاستغناء عن أعداد من موظفي الدولة، أو زيادات قاسية في أسعار السلع الأساسية. وهذا دون المرور بتدرج بطئ كما جرى ويجرى مع أسعار الطاقة . وأكرر أنه يحسب للمسئولين عن النشر في "الأهرام" حينها تمرير هذا الكلام، بينما كانت مصر تشهد قفزات مهولة في أسعار السلع والخدمات الأساسية صادمة للمواطنين. 

وحتى اليوم ـ والحمد لله ـ لم تعلن تونس إفلاسها. كما لم تجرؤ أي من حكومات ما بعد ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 يناير 2014 على بيع شركة عامة كبيرة أو معروفة واحدة أو تصفيتها. وقد وضع اتحاد الشغل بين مطالبه الست عندما أعلن نهاية شهر مايو الماضي عن إضراب 16 يونيو: "الشروع الفوري في إصلاح المنشآت والمؤسسات العمومية حتى تلعب دورها الاقتصادي الاجتماعي وعدم اللجوء إلى الخوصصة ( الخصخصة) الجزئية أو الكلية تجسيما ( تنفيذا) لمحضر الاتفاق الممضي بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل بتاريخ 22 أكتوبر 2018". وأيضا وضع بين مطالبه لهذا الإضراب تنفيذ الاتفاقات مع الحكومات السابقة بشأن زيادات الأجور للعاملين في هذه القطاعات، والدخول في مفاوضات جديدة حول زيادات أخرى لمجاراة التضخم وغلاء الأسعار حتى نهاية عام 2023. 

 ومن يتابع عن كثب مجريات الاقتصاد السياسي بتونس يلاحظ أن اتحاد الشغل قد رسخ تراثا لما يسمى بـ " المفاوضات الاجتماعية " ودوريا مع الحكومات المتعاقبة. ويسبقها في المعتاد التلويح بالإضرابات قبل حلول شهري يناير و يوليو من كل عام، حيث تتخذ القرارات الكبرى المالية والاقتصادية الحكومية. وفي كلا المناسبتين فإن الاتحاد في هذا السياق وكالأطراف المختلفة يستخدم أوراق الضغط المتاحة له لتحسين موقفه التفاوضي. والأمر يتزامن هذه المرة كما في عديد قبلها مع جولة جديدة من المفاوضات بين تونس وصندوق النقد من أجل الحصول على قرض جديد يقدر بنحو أربعة مليارات دولار. 

  وكم من مرات عديدة سابقة تراجع فيها الاتحاد مع اللحظات الأخيرة عن تنفيذ الاضراب العام بعد الدخول في مفاوضات مع الحكومة أو الحصول على وعود بتنفيذ عدد من مطالبه. وعلى سبيل المثال حدث هذا مع حكومة يوسف الشاهد في 8 ديسمبر 2016 ( إضراب عام لكل العاملين ) و 24 أكتوبر 2018 ( إضراب للوظيفة العمومية / موظفي جهاز الدولة) و 22 نوفمبر 2018 ( إضراب القطاع العام)، ومع اضراب للوظيفة العمومية والقطاع العام معا كان مقررا يومي 21 و22 فبراير 2019 مع الحكومة نفسها. ولعل آخر إضراب عام في الوظيفة العمومية والقطاع العام قد جرى تنفيذه بالفعل كان في 17 يناير 2019. وفي كل الأحوال هناك العديد من الإضرابات التي جرى تنفيذها على مستوى هذه المدينة أو الولاية وبين القطاعات النقابية، وبخاصة نقابة التعليم الأساسي والثانوي برعاية فروع الاتحاد في الجهات والنقابات التابعة له. 

 وبالتالي ليس من السهل حتى الدقائق الأخيرة قبل حلول صباح الخميس 16 يونيو الجاري الحديث بثقه بأن الاتحاد سينفذ هذا الإضراب أيضا. فالتراجع يظل واردا وليس مستبعدا تماما على ضوء الأخذ والرد مع حكومة نجلاء بودن وقصر قرطاج الرئاسي. وأيضا على ضؤء تفاعلات تجرى داخل هياكل اتحاد الشغل نفسه وضغوط على قيادته المركزية. صحيح أنه على خلاف الحالة المصرية فإن معظم العاملين في الاقتصاد الرسمي منظمون وبنسب عالية كبيرة في اتحاد الشغل ( نحو مليون عضو) ، وحتى العاطلون لهم بدورهم نقابات وتنظيمات أخرى على صلة في الأغلب مع الاتحاد. لكن بالطبع هناك سلبيات وعراقيل في إدارة اتحاد الشغل لسلاح الاضراب العام في مواجهة السلطات، ومنها ما هو موضوعي.وأيضا ما هو ذاتي يرتبط بطبيعة وأحوال قيادة الاتحاد المركزية ومصالح ما يطلق نقاده عليه "البيروقراطية النقابية "، وما يقال عن انحرافاتها غير الديمقراطية وعن تمثيل العمال والعاملين ومصالحهم. ودائما هناك صراعات وضغوط داخل هياكل ومؤسسات الاتحاد نفسه بين مستويات القيادات والكوادر الوسطى والقواعد . وهذا ناهيك عن ملفات مفتوحة قابلة للاستغلال من طرف السلطات، بعضها يتعلق بشبهات فساد إداري أو مالي اقتصادي . وتطفو الآن على السطح قضية متداولة في المحاكم بشأن تعديل لائحة الاتحاد في مؤتمره بمدينة سوسة يوليو 2021 على نحو سمح باستمرار شخصيات  من الوزن الثقيل المؤثر داخل القيادة المركزية بما يتجاوز فترتين متتاليتين.

 صحيح أن قيادة اتحاد الشغل تؤكد وتوضح وتلح اليوم على أن هذا الإضراب ليس سياسيا. وهذا على خلاف ماكان سابقا حين قاد الاتحاد اضرابات سياسية صريحة إثر اغتيال الشهيدين شكرى بلعيد ومحمد البراهمي فبراير ويوليو 2013، و حتى نجح في إقالة حكومتين يقودهما حزب حركة "النهضة" ، وإن عاد الاتحاد ليقود الوساطة والحوار بين مكونات أخرى في المجتمع المدني بتونس لإخراج البلاد من أزمتها وصولا إلى اقرار دستور 24 يناير 2014 واجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية خريف هذا العام. الأمر الذي استحق عليه جائزة "نوبل" للسلام مع عمادة ( نقابة ) المحامين ورابطة حقوق الإنسان واتحاد الأعراف ( رجال الأعمال والصناعة ) في العام التالي مباشرة. 

 ولا يخلو التضاغط و التفاوض الآن حول اضراب 16 يوليو " الاجتماعي" بدوره من سياق سياسي. فالمطلب الأول لهذا الإضراب يصطدم على نحو غير مباشر مع نزعة الرئيس سعيد للتضييق على حرية الحركة في المجالات العامة وجمع وتركيز السلطات كلها. وهذا المطلب يدعو لإلغاء منشور أصدرته الحكومة في ديسمبر الماضي موجه للوزارات والمصالح والشركات العامة يلزمها بألا تتفاوض مع النقابات إلا عبر رئاسة الحكومة . وهذا على خلاف ماكان. وفي حسابات السياق السياسي لهذا الإضراب " الاجتماعي" أيضا تمسك الاتحاد برفض المشاركة في الحوار الوطني الذي دعا اليه الرئيس سعيد لوضع دستور جديد. وثمة هنا حسابات معقدة وليست سهلة. وبالتالي تظل مفتوحة على احتمالات عديدة ورهن تطورات ومفاجآت المستقبل القريب. فمن جانب يؤكد الاتحاد على مبررات الرفض والامتناع والمقاطعة للحوار.  ويلخصها قادته في أنه " صوري"،  مشيرين إلى الاتهامات الموجهة للرئيس سعيد بأنه اتجه الى حكم الفرد، وعازم ـ ودون التفاعل مع غيره ـ على تنفيذ مشروعه لنظام حكم رئاسي تسلطي يضعف إن لم يلغ الأحزاب والنقابات والجمعيات وكافة الهيئات والأجسام الوسيطة. إلا أن تصريحات قيادة الاتحاد وحتى اليوم تؤكد أنه لم يتقدم بعد إلى مربع الدعوة لمقاطعة الاستفتاء على دستور قيس سعيد. 

وفي الحسابات السياسية المعقدة لقيادة اتحاد الشغل أيضا ، حرصه على التمسك بموقفه المعلن ، منذ اجراءات الرئيس في 25 يوليو 2021، بأنه لاعودة للمرحلة السابقة عليها ولا عودة لبرلمانها. وهذا بصرف النظر عن أن الاتحاد نفسه كان من بين صانعي توافقاتها وقواعد عملها السياسي ونظام حكمها وتوازناتها ودستورها.  ناهيك عن حرص قيادة الاتحاد حتى اليوم على النأي به عن الاصطفاف مع معارضي الرئيس على أي نحو كان. وفي حسابات السياسة بتونس هنا وهناك حرص متبادل من الرئاسة والاتحاد كليهما على تجنب التعجيل بصدام مباشر بينهما. صحيح هناك مؤشرات ووقائع تدلل على حملات وموجات من الصدام غير المباشر. ولكن عند قيادة الاتحاد والرئاسة من الضغوط والأحمال الثقال والأولويات ما يدفع الطرفين لتغليب تجنب هذا الصدام المباشر أو التعجيل به. 

.. ولعل في السياقات السابقة ما قد يعين على متابعة ما سيجرى بشأن إضراب الخميس 16 يونيو الجاري في تونس، وفهم ملابساته وتعقيداته . 
----------------------
بقلم: كارم يحيى
من المشهد الأسبوعية

,