28 - 06 - 2024

(عبده الوزير .. إزازة سابقًا) قصة قصيرة

(عبده الوزير .. إزازة سابقًا) قصة قصيرة

ظلَّ مشهدُ عبده وهو يطرقُ بأسفل القلمِ على طرفِ الكُرْسي في لجنةِ الاختبار مشهدا محوريًّا في حياتهِ كلِّها.

يطرقُ عبده بالقلمِ طرقاتِهِ المعتادة، ويلتفتُ التفاتةً خاصَّةً في كلِّ مرَّة لطالبٍ مختلف؛ فيفهم إشارته باتفاق مسبقٍ، ويرسل له بالإجاباتِ عبر إشاراتٍ تحمل شيفرةً سريةً بإجاباتٍ سريعةٍ ومتقنةٍ، تسمح بها أنظمةُ الاختباراتِ العبثيَّة.

مع مرور السّنواتِ يستمرّ طرق عبده وارتفاعه في الدَّرجات ونجاحاته اللَّافتة تدهش كلَّ من حوله؛ حتى أولئك الطلاب الذين استحوذ على إجاباتهم وإشاراتهم وأصواتهم في انتخاباتِ الاتِّحاد التي فازَ بها بسهولة عبر سنواتِ الدِّراسة محافظًا على سُلطة خفيّةٍ، كوّنتها علاقاتهُ بأساتذتهِ الذين يتولّى لهم جمعَ الأموالِ من جُيوبِ أولياءِ أمورِ الطُّلَّاب بمهارةٍ وحذق ثَمنًا للكُتبِ الدراسيَّةِ والمُذكّرات والمُلخَّصات وأوراق الأسئلةِ السِّحريَّة والسِّريَّة ذوات الأختامِالصُّكوكيَّة.

ومع توالي صُعودِ عبده اضطرّ أن يخفيَ بريقَ عينيهِ بنظارةٍ سوداءَ، أكسبتهُ مهابَةً ووقارًا، جمعَ فيها بين ملامح شخصيّتي: حسن اللُّول، والباشا لأحمد زكي في مزيج عجيبٍ، بتناقضاتهِ التي تشي بتحوُّل عبده إزازة؛ كما عرفَهُ زملاؤهُ في أوَّل سنوات الدِّراسةِ شاردًا، يهرفُ بكلماتٍ عبثيَّةٍ، تحمل كلَّ سماتِ الجَهل، وفوضويًّا في تصرُّفات تعبِّر عن مستواهُ الاجتماعيّ والفِكريّ المُتدنّي، ومُترنِّحًا كأنَّهُ في حالة سُكْرٍ دائم حتَّى لقَّبوه عبده  إزازة بما انعكس عليه من طول  معاشرة الأوغاد والأوباش من كل صِنفٍ. 

كان حفل تخرجه يوما فاصلًا بامتياز حين وقفَ وسط قاعة الاحتفال ممسِكًا بالميكروفون، خاطفًا عيون المدعوين ومشاعرهم بطريقة جمعتْ بين مشهد محمود الخطيب التاريخيّ يوم اعتزاله وكلماته البسيطة الآسرة: ألف شكر.. ألف شكر، وكلمات أحمد زكي الوداعيَّة التي دعا فيها الناس للصِّدق في المشاعر والإيمان بالحبّ والعمل وقيمة الحياةِ.

أخذَ عبده يصيحُ بداية بأدبٍ مصطنع: بالله يا إخواننا، أوقفوا التَّصوير، لا أريد تصويرًا ولا كاميرات، هذه لحظة صِدق لا أريد إفسادها وتعكير مشاعرنا النقيَّة الصَّادقة.

تحوَّل صوتً عبده الأجشّ المتقطّع الذي يحمل صوت علي الشّريف ونبرات محمد رمضان إلى بحّة عبد الحليم حافظ في مرضه الأخير، وهمس ممدوح عبدالعليم تارة وخالد صالح في مرض الموتِ.

ظلّ عبده يكرّر عبارات الشُّكر لستّ الكُلّ التي لولاها لما وقف في هذا المكان، ولما اجتمعت هذه الحشود لتهنئته بهذا النّجاح السَّاحق. كانت كلماته تائهةً وملفَّقةً، تجمع بين العبارات المسكوكة المبتذلة المقتبسة من أفلام ومسلسلات وأغانٍ واجتهادات عبثية بتحوير عبارات شبابيَّة في محاولة جاهلة للارتقاء بها، ولكنَّها مثيرةً للشَّجن ومحفزة للدموع من محاجرها بما حملته من نبراته المستعطفة، ونظراته المتسوِّلة لمشاعر كبار الزوّار والرعاة الذين يحرصون عادة على صدارة المشهد، والبروز في الصُّور بوجوه زائفة متعاطفةٍ متعايشة مع الحدثِ، بعلاماتٍ للإخلاص والولاء ومحبَّة البُسطاء والكادحينَ والمهمشين.. ومن يومها مُحِيَ لقبُ إزازة محوًا، وحلّ محلَّهُ لقب الوزير.

لم يقف طموح عبده عند درجة اللّيسانس؛ فاستثمر علاقاته بأساتذته، وارتفع بدوره معهم، وتفنن فيه، ونمَّاهُ مع السِّنين حتى صار الدكتور عبده. ومع كلّ صعودٍ صارت الوزارة تقترب منهُ لقدرته الفذّةِ على إلقاء حصاهُ السّحريَّةِ في أوقاتها المحسوبة بدقّة متناهية وأماكنها التي عرفها بحساسية وخبرة وطول مراس باستمرار لتتّسعَ دوائر الماء حوله؛ فغدا عبده الوزير وزيرًا. وكتب له أولئك الفقراء من رفقاء الطريق الذين كتبوا رسالتيه وأبحاثه كتبًا ومقالاتٍ تحمل توقيعه البارز المميز اللافت.

ظلّت صورته الجانبية بنظارته السَّوداء باعثة على الدّهشة، ومثيرةً كوامنَ النَّفسِ لرؤيته من الأمام حتَّى جاء اللَّقبِ المرتقبِ باستضافتهِ في برنامج تلفزيونيّ  يحمل اسم مذيعَتَه الشّهيرة ليحكي قصَّة حياته ورحلة كفاحهِ.

أخذ عبده ينقرُ بظهر القلم على طرف الكرسي وهو ينظر نظرة حزينة وعميقة ومتقنة مستنكرًا تلك الحملة الحاقدة المشككة في جدارته بالفوز بتلك الجائزة الكبرى المستحقة بأقلام مأجورةٍ تفسدُ عقول الشباب الوطني الطامح، مؤكّدا أنّ تضحيته في سبيل العمل العام حرمته من كثير من الجوائز والأوسمة المستحقة والألقاب العلميَّة التي تركها طواعيةً حبًّا لخدمة النّاس وإيثارًا، ولكنه صرخ فجأة صرخات ممزوجة بدموع مكتومة: أهذه هي المكافأة؟! يا إخواننا المناصب زائلة والكراسي ذاهبة، ولكن علمي الذي عشت من أجله لن أتنازل عن حقّي فيه، نعم حقّي الذي أخَّرته المناصب والألقابُ. إنهم يستكثرون عليّ جائزة نالها من هم دوني علمًا وفكرًا وعطاءً. هل كلّ ذنبي أنّني وطني؟ هل ذنبي أني وزير؟ أكلّ ذنبي أنني عبقري في زمن لايؤمن بالعباقرة؟!

تتابعت نقراته بالقلم مع نبرات صوته الاحتجاجيّة والكاميرا تنتقل بين هذا المشهد الاحتجاجيّ الأخَّاذ ووجه المذيعة التي اختفت ضحكاتها فجأة لتتساقط دموعها التي لم تفلح في حجبها رغم محاولاتها المتقنة.
------------
بقلم: د. محمد عمر *
* وكيل كلية الآداب - جامعة العريش






اعلان