17 - 07 - 2024

بنيتا العنوان والشخصية في اٌقصوصة (عبده الوزير ..إزازة سابقًا) للدكتور محمد عمر

بنيتا العنوان والشخصية في اٌقصوصة (عبده الوزير ..إزازة سابقًا) للدكتور محمد عمر

التسلق والانتهازية والوصولية سلوك اجتماعي يشيع في ظلال الأنظمة التي توصف بالنامية على سبيل المجاز المهذب! ومن ثم وجدنا هذا السلوك باديًا في بنية كثير من الأعمال الروائية العربية الحديثة، لاسيما عند أديبنا العالمي نجيب محفوظ حيث شخصية سعيد مهران في اللص والكلاب، ومحجوب عبدالدايم في روايته (القاهرة الجديدة)، وشخصية سرحان البحيري في رواية (ميرامار) وشخصية يوسف في رواية (الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم .. وقد استحوذت بشدة على اهتمام الكاتب المصري المعروف عمرو عبد السميع، وهو رسام الكاريكاتير، والكاتب السياسي، وأحد كتاب الادب الساخر البارزين في الصحافة المصرية، حتى إنه ليخصص لها روايتين متواليتين: الأولى بعنوان «كفاحي.. صفحات من سيرة المناضل المتقاعد طلبة هريدي»، والثانية بعنوان: «الفنطاس ـ قصة حياة أمة".. وغير ذلك من الأعمال الحديثة والمعاصرة! التي يمكننا من خلال إحصائها أن نقرر أن شخصية «الانتهازي» في الرواية العربية الحديثة، ذات حضور بارز، أدى بها إلى أن تكون «شخصية نمطية» في أدبنا الروائي الحديث والمعاصر،...

 وها نحن أولاء نقف مع تجربة سردية قصيرة لقاص جامعي معاصر هو الدكتور محمد عمر في تجربته (عبده الوزير ..إزازة سابقًا)؛ حيث تدور سرديتها حول تلك الشخصية المتسلقة الوصولية الانتهازية النفعية الخائنة المخادعة المتلونة المتشدقة، وهي تجربة آسرة فيها ما يجذب،  ومن ثم أقف وقفات نقدية مع بنياتها على النهج الآتي:

1-         بنية العنوان:

(عبده الوزير ..إزازة سابقًا) تعبير اسمي، يدور حول شخص له لقبان (عبده الوزير)، و(إزازة)!

ولفظة (عبده) مصرية بامتياز، وتكاد تكون من مجال الصحافة أيام مجدها في الستينيات وما بعدها، حيث نتذكر جميعًا شخصية (عبده مشتاق)؛ فضمير الغائب ليس راجعًا إلى الذات العلية بل إنه راجع فقط إلى(المنصب)، و(الهدف) فهو عابد فقط ومشتاق فقط لأحدهما! فـ"عبده مشتاق" نموذج لشخصية متسلقة، تحلم بالوصول إلى السلطة، ولكن حلمه دائمًا لا يتحقق، فيحاول بكل أشكال النفاق والرياء أن يصل إلى هدفه، تلك الشخصية التي ابتكرها الراحل أحمد رجب ورسمها الفنان الراحل مصطفى حسين.

وتعبير (عبده الوزير) اسم ممثل مصري اشتهر بدور المتحرش الفاتك، وكأنني بالقاص هنا يتهم هذه الشخصية بالاشتياق إلى المنصب، والتحرش عبر تعامله مع الأحياء!  ولفظة (إزازة) من العامية المصرية، ومقابلها الفصيح (زجاجة)، وهي تشير إلى السلوك الشائن عند بعض شباب البيئات الساقطة من إدمانها الخمور والمخدرات؛ فهؤلاء مرتبطون بالإزازة ارتباطًا دائمًا؛ فهي مصدر متعتهم ووسيلة سكرهم وعربدتهم! ويدل على هذا التحليل وصف القاص لبطله" عبده إزازة؛ كما عرفَهُ زملاؤهُ في أوَّل سنوات الدِّراسةِ شاردًا، يهرفُ بكلماتٍ عبثيَّةٍ، تحمل كلَّ سماتِ الجَهل، وفوضويًّا في تصرُّفات تعبِّر عن مستواهُ الاجتماعيّ والفِكريّ المُتدنّي، ومُترنِّحًا كأنَّهُ في حالة سُكْرٍ دائم حتَّى لقَّبوه عبده  إزازة بما انعكس عليه من طول معاشرة الأوغاد والأوباش من كل صِنفٍ"!

وبقراءة كلية للنص القصصي يمكننا أن نرى أنه كان أمام القاص جملة بدائل لهذا العنوان، مثل: (عبده)، و(عبده الوزير)، و(إزازة سابقًا)، و(الدكتور عبده)! هذه البدائل كانت أمام القاص، ولكنه آثر(عبده الوزير ..إزازة سابقًا) فلِمَ؟! 

إن القاص أستاذ جامعي معلم غايته البيان، وفي عنوانه ما يساعده على إنجاز هذه الغاية! فهذا العنوان يكاد يكون نصًّا جامعًا معبرًا عن مغزى القص ومرماه، وهو الإشارة إلى هذه الشخصية المتسلقة، والمنتقلة من حال سفلي (إزازة) إلى حال علوي (الوزير)! كما أنه عنوان يحمل إدانة للمجتمع الذي يكون فيه هذا (العبده)، والذي يشهد ما زوره من إنجازات وتطورات ومكتسبات مُزَيَّفة، ويكتفي بالمشاهدة، من غير أي موقف نقدي أو نضالي ضد هذا الفساد الذي أخرج هذا المفسد! 

2-         بنية الشخصية:

تكاد نكون هذه الأقصوصة قائمة على شخصية محورية في كل أجزائها، شخصية (عبده) الذي يتطور مع الأحداث، يستغل القلم الذي هو رمز (العلم) أو قل وسيلة الحصول على (الشهادة) والتي هو عبد لها في بداياتها لأنها سبب الوصول إلى قادم أهدافه! ومن ثم يركز القاص على ذلك في وصفه: "يطرقُ بأسفل القلمِ على طرفِ  الكُرْسي في لجنةِ الاختبار مشهدا محوريًّا في حياتهِ كلِّها. يطرقُ عبده  بالقلمِ طرقاتِهِ المعتادة، ويلتفتُ التفاتةً خاصَّةً في كلِّ مرَّة لطالبٍ مختلف..." وهو في ذلك له(طرقات متعددة) و(التفات خاصة)! ثم ينتقل إلى انتخابات الاتحاد، وإلى علاقته بأساتذته! فيفعل الأفاعيل التي من شأنها أن تكون وسيلته في التسلق على أكتاف الآخرين وعلى جهدهم، فيسبقهم وسط دهشتهم وحيرتهم!

ويظل القلم والكرسي حاضرين مع الشخصية البطلة (عبده الوزير) في كل مراحل حياته حتى المشهد الأخير: مشهد الدفاع عن استحقاقه الجائزة الثقافية حيث وصفه القاص: أخذ عبده ينقرُ بظهر القلم على طرف الكرسي وهو ينظر نظرة حزينة وعميقة ومتقنة مستنكرًا تلك الحملة الحاقدة المشككة في جدارته بالفوز بتلك الجائزة الكبرى"، ثم وصفه بـ "تتابعت نقراته بالقلم مع نبرات صوته الاحتجاجيّة..." 

وفي مشهد ثان مع توالي صُعودِ عبده نجده يضطرّ أن يخفيَ بريقَ عينيهِ بنظارةٍ سوداءَ، أكسبتهُ مهابَةً ووقارًا، جمعَ فيها بين ملامح شخصيّتي: حسن اللُّول، والباشا لأحمد زكي في مزيج عجيبٍ" وكأني بالقاص هنا يدين الفن السينمائي والدرامي وينتقصه، ذلك الفن الذي أعلن هذه الشخصية الانتهازية وسوق لها وعرض في بهرجة ساحرة ومفخرة مبهرة!ونجد دلالة على هذه الإدانة في وصف القاص بطله في حفل تخرجه، حين وقفَ وسط قاعة الاحتفال ماسِكًا بالميكروفون، خاطفًا عيون المدعوين ومشاعرهم بطريقة جمعتْ بين مشهد محمود الخطيب التاريخيّ يوم اعتزاله وكلماته البسيطة الآسرة: ألف شكر.. ألف شكر، وكلمات أحمد زكي الوداعيَّة التي دعا فيها الناس للصِّدق في المشاعر والإيمان بالحبّ والعمل وقيمة الحياةِ. أخذَ عبده يصيحُ بداية بأدبٍ مصطنع: بالله يا إخواننا، أوقفوا التَّصوير، لا أريد تصويرًا ولا كاميرات، هذه لحظة صِدق لا أريد إفسادها وتعكير مشاعرنا النقيَّة الصَّادقة. تحوَّل صوتً عبده الأجشّ المتقطّعالذي يحمل صوت علي الشّريف ونبرات محمد رمضان إلى بحّة عبد الحليم حافظ في مرضه الأخير، وهمس ممدوح عبدالعليم تارة وخالد صالحفي مرض الموتِ"، فالفن السينمائي والدرامي هو الذي علم عبده لغة الخطاب المخادعة المؤثرة! حيث الشخوص: عبدالحليم، وأحمد زكي، وممدوح عبدالعليم، وخالد صلاح، ومحمد رمضان، إضافة إلى النجم الرياضي الخلوق محود الخطيب الذي أرى إدخاله بين هؤلاء غير سديد! فليس بممثل: لم يكن وأظنه لا يكون إن شاء الله!

وهكذا انتقل البطل المصنوع المزيف (عبده) من(عبده إزازة) إلى (عبده الدكتور) ثم(عبده الوزير)! انتقالات ثلاث عجيبة ومريبة! لا يفسرها علم ولا يتقبلها عقل، ولا توجد إلا عن طريق إعلام مضلل وفن هابط رخيص ومجتمع اضطرب في أولوياته واهتماماته! ويوازيها عبده الطالب، عبده الباحث الجامعي، عبده السياسي، عبده الحاصد للجائزة الثقافية الكبرى، وعبده الوطني!

وتوجد شخوص هامشية معممة في النص عبر عنها بلفظ الجمع مثل(الطلاب، الأساتذة، أولياء الأمور، الأوغاد والأوباش، المدعوين) إضافة إلى ست الكل التي ذكرها كنوع من التجمل ببرها والمتاجرة به، إضافة إلى الفقراء الذين كتبوا له رسالتيه وأبحاث تَرَقِّيه! حيث وصفهم القاص بأنهم" أولئك الفقراء من رفقاء الطريق الذين كتبوا رسالتيه وأبحاثه كتبًا ومقالاتٍ تحمل توقيعه البارز المميز اللافت"!

ومن الشخصيات التي كانت وسيلته في التسلق المذيعة التليفزيونية التي وصفها القاص بــ "برنامج تلفزيونيّ  يحمل اسم مذيعَتَه الشّهيرة ليحكي قصَّة حياته ورحلة كفاحهِ". وهي مذيعة ممثلة فاشلة في أداء دورها المخادع، حيث وصفها القاص:"ووجه المذيعة التي اختفت ضحكاتها فجأة لتتساقط دموعها التي لم تفلح في حجبها رغم محاولاتها المتقنة!"

وما زال في هذه التجربة الكثير الذي يقال في قادم الوقفات إن شاء الله.
----------------------------------
بقلم: د. صبري فوزي أبوحسين