18 - 09 - 2024

معتقلون سابقون يروون حكايا الرعب من سجن صيدنايا "جثث مدفونة في غرف الملح"

معتقلون سابقون يروون حكايا الرعب من سجن صيدنايا

"تجمدت في موضعي لأكثر من ساعة ونصف الساعة، فلقد أدركت أني سأقتل الآن لأدفن في غرفة الملح تلك، ولكن، لماذا يحرموننا من الملح ولديهم كل هذا الملح"

هذا ما دار في خلد المعتقل عبدو (اسم غير حقيقي)، وذلك قبل نقله من السجن إلى المحكمة أحد أيام شتاء 2017، حيث دفعه أحد الحراس داخل غرفة لم يرها من قبل، فغاصت قدميه الحافيتين في كميات كبيرة من الملح الصخري.

لم يكن عبدو قد ذاق طعم الملح منذ عامين، وقت دخوله لسجن صيدنايا سيئ الصيت قرب دمشق، والذي يمنع القائمون عليه الملح في طعام السجناء، فما كان من عبدو لحظة شم رائحة الملح، إلا أن اغترف بيده من الملح الذي يغطي أرضية الغرفة ليستمتع بمذاقه.

ولكنه تجمد رعبا عقب دقيقتين من تناوله الملح، حيث تعثرت قدماه بجثة نحيلة ملقاة على الملح وإلى جانبها جثتان أخريان، هذا بحسب ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية 

وتقول الوكالة أنها تنقل تجربة أحد الناجين من التجربة "الأكثر رعبا" في حياته، في سجن يصفه معتقلون سابقون بـ"القبر"، و"معسكر الموت"، و"السرطان".

وتوثق رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا -في تقرير ستنشره قريبا للمرة الأولى حكايا "غرف الملح"، وهي بمثابة قاعات لحفظ الجثث داخل السجن بدأ استخدامها مع ارتفاع أعداد الموتى خلال سنوات النزاع الذي اندلع عام 2011، حيث يخلو السجن من ثلاجات لحفظ جثث المعتقلين الذين يسقطون بشكل شبه يومي جراء التعذيب أو ظروف الاعتقال السيئة، وتوضح الوكالة أن إدارة السجن -على ما يبدو- لجأت إلى الملح لدوره في تأخير عملية التحلل.

وبناء على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها وكالة الصحافة الفرنسية مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري "غرفتي ملح" على الأقل، توضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، في حين يغيب الملح تماما عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، على الأرجح لإضعافهم جسديا.

ويقول عبدو 30 عاما، لوكالة الصحافة الفرنسية، طالبا عدم الكشف عن اسمه الحقيقي خوفا على أفراد من عائلته لا يزالون يقطنون في مناطق سيطرة النظام في سوريا، "بداية، قلت لنفسي: الله لا يوفقهم، لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟!".

موضحا أنه بعد تناوله الملح، توجه إلى الحمام الخالي من المياه في زاوية الغرفة، ولكنه بعد خروجه منه، تعثر بالجثة الأولى، قائلا "دستُ على شيء بارد، كانت رجل أحدهم"، وتجمد عبدو من الخوف، بعدما رأى الجثث الثلاث الملقاة على الملح، وقد نُثر عليها المزيد منه، وبدأت رجلاه ترتجفان.

ويقول من منزله الحالي في لبنان "ظننت أن هذا سيكون مصيري، وأنه حان دوري لإعدامي وقتلي، لم أعد أقوى على الحركة، جلست قرب الحائط وبدأت بالبكاء وتلاوة القرآن".

لم يتحرك عبدو من مكانه لنحو ساعة ونصف الساعة، ويضيف "كان هذا أصعب ما رأيته في صيدنايا جراء الشعور الذي عشته، ظنا بأن عمري انتهى هنا".

ويصف عبدو غرفة الملح قائلا، مستطيلة، 6 أمتار بالعرض و7 أو 8 أمتار بالطول، وأحد جدرانها من الحديد الأسود يتوسطه باب حديدي، وتقع الغرفة في الطابق الأول من المبنى المعروف بالأحمر، وهو عبارة عن قسم مركزي تتفرع منه 3 أجنحة.

لم يتنفس عبدو الصعداء سوى حين عاد السجان، ووضعه في سيارة نقل السجناء، وتأكد أنه في طريقه إلى المحكمة.

ولكنه أثناء خروجه من الغرفة، رأى قرب الباب أكياس جثث سوداء فارغة مكدسة، هي ذاتها الأكياس التي نَقل فيها في أحد الأيام، وبأمر من الحراس، جثث معتقلين.


ويقول عبدو -الذي أفرج عنه عام 2020- "في صيدنايا، قلبي مات، لم يعد شيء يؤثر بي، حتى إن قال لي أحدهم إن شقيقي مات، بات الأمر بالنسبة لي عاديا"، ويضيف "جراء الموت والعذاب والضرب الذي رأيته، كل شيء بات عاديا".

ويروي معتصم عبد الساتر، 42 عاما، تجربة مشابهة في غرفة مختلفة تقع في الجناح نفسه من الطابق الأول من المبنى الأحمر، حيث يصف غرفة بعرض 4 أمتار وطول 5 أمتار، ولا يوجد فيها حمام.

دخل معتصم تلك الغرفة يوم 27 أبريل 2014. ويومها، شعر وكأن قلبه سيخرج من صدره من شدة الخفقان، بعدما ناداه السجان لإطلاق سراحه، لا يزال يتذكر كل تفاصيل ذلك اليوم، وبينها طعام الإفطار الذي كان عبارة عن قطعة خبز و3 حبات زيتون، ودع معتصم رفاقه وسار فرحا خلف سجانه، لكنه فوجئ بطلب منه، وهو دخول غرفة لم يرها سابقا.

ويقول من منزله في الريحانية (جنوبي تركيا) "غرقت قدمي في مادة خشنة،نظرتُ، فإذا به ملح بعمق 20 إلى 30 سنتيمترا"، مشيرا إلى أنه الملح الصخري ذاته الذي اعتاد على أن يرى جوالات منه على جانب الطرق خلال أيام الشتاء، والذي تستخدمه السلطات لتذويب الثلج المتراكم في الشوارع.

تذوق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، لكن سرعان ما وقعت عيناه على 4 أو 5 جثث ملقاة في المكان، ويقول "شعور لا يوصف، أصعب من لحظة الاعتقال. قلت لنفسي سيعدمونني الآن ويضعونني بينهم، أنا أساسا أشبههم".

حين دخل معتصم السجن عام 2011، كان يزن 98 كيلوغراما، لكن حين خرج منه كان وزنه لا يتجاوز 42 كيلوغراما، ويضيف "كانت الجثث تشبه المومياء، وكأنها محنطة… كانت عبارة عن هيكل عظمي مكسو باللحم يمكن أن يتفكك في أي لحظة".

بقي معتصم في الغرفة 3-4 ساعات، ويقول "كان الملح يذوب من تحتي، من شدة تصبب العرق مني"، ويضيف معتصم الذي لا يزال يتذكر أسماء أصدقاء توفوا إلى جانبه في المهجع جراء الضرب والأمراض، "ليست الجثث ما أثر بي.. بل فكرة أنني بت أنتظر إعدامي".

ويشير المعتقلان السابقان إلى عدم انبعاث أي رائحة كريهة من الغرفتين، وإلى أنهما لم يتمكنا من تحديد سبب وضعهما فيهما لبعض الوقت، ويقول معتصم "قد يكون ذلك لإخافتنا".

وتقول الوكالة الفرنسية أنه ليس من الواضح إن كانت الغرفتان استخدمتا في الوقت ذاته "كغرفتي ملح" في العامين 2014 و2017، أو إذا تم استبدال واحدة بأخرى. كما ليس معروفا إذا ما كانت تلك الغرف لا تزال موجودة.

وبناء على شهادات معتقلين وموظفين سابقين في السجن، تعتقد رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن أول "غرفة ملح" وُجدت في النصف الثاني من عام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردي الأوضاع في السجن، ويقول الشريك المؤسس في الرابطة، دياب سرية، من مكتب الرابطة في غازي عنتاب التركية "تمكننا من تحديد غرفتي ملح على الأقل، وكل منهما استخدمت لتجميع جثث الأشخاص الذين قضوا تحت التعذيب أو توفوا جراء الأمراض أو عمليات التجويع".

ويروي الناجون من صيدنايا وسجون النظام السوري وأفرعه الأمنية حكايات رعب لا تنتهي، وباتت رواياتهم جزءا رئيسيا من تحقيقات تجري في دول غربية حول جرائم الحرب المرتكبة في سوريا.