26 - 06 - 2024

آني أرنو - الفائزة بنوبل - ووجع الذنب والتمرد على الأب العامل والجد العربجي

آني أرنو  - الفائزة بنوبل - ووجع الذنب والتمرد على الأب العامل والجد العربجي

"إن وظيفة الكتابة أو نتاجها ليست طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا يُنسى". (آني أرنو)

***

فازت الكاتبة الفرنسية آني أرنو اليوم الخميس السادس من أكتوبر بجائزة نوبل السويدية الشهيرة التي يتنافس عليها كبار الكتاب في العالم كله، كانت التوقعات ترجح فوز الكاتب سلمان رشدي الذي تعرض مؤخرا لمحاولة اغتيال في نيويورك بعدما أصيب بسببها بجروح خطيرة ونقل للمستشفى لاجراء جراحة عاجلة. وتم القاء القبض على منفذ الهجوم، لكنه نجا. وأعادت محاولة الاغتيال الفاشلة إلى الذاكرة فتوى آية الله الخميني، المرشد السابق للنظام الإيراني، الذي أفتى بقتل سلمان رشدي في 14 فبراير (شباط) 1989بسبب نشر رواية "آيات شيطانية" ، لكن الجائزة ذهبت لكاتبة هذه المرة بعد أن تعالت أصوات كثيرة تندد بنسبة حصول الكاتبات عليها ، وهي أول امرأة في بلادها تنال الجائزة الأدبية المرموقة وبذلك تكون آني أرنو الكاتبة رقم ـ 17  من بين 119 فائزا فى تاريخ الجائزة العالمية ، منذ أن انطلقت فى عام 1901، وحتى عام 2022

من المعروف أن اسم آني إرنو ‏ بالميلاد آني دوشيسن ، ولدت في 1 سبتمبر 1940 بمدينة ليلوبون. وهي كاتبة ومدرسة أدب فرنسي. حصلت على جائزة رينودو الأدبية عام 1984.

عللت لجنة جائزة نوبل اختيارها الكاتبة الفرنسية البالغة من العمر 82 عاماً للجائزة: "لما أظهرته من "شجاعة وبراعة في اكتشاف الجذور والاغتراب والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية ووصفت اللجنة انتاجها الأدبي بأنه "أعمال غير مهادنة أنجزتها على مدى 50 عاماً، صورت فيها حياة تشوبها الفوارق الكبرى في اللغة والجنس والطبقة". 

وتبلغ قيمة الجائزة المقدّمة من الأكاديمية السويدية 10 مليون كرونا أي ما يوازي 807 آلاف جنيه إسترليني.

علقت الفائزة بالجائزة قائلة "إنه لشرف عظيم".تفاجأت جداً. لم أتوقع أن تكون الجائزة في متناولي ككاتبة". وأستطردت: "إنها مسؤولية كبرى أن نشهد، ليس في الكتابة فحسب، ولكن أن نشهد بدقة وعدالة تجاه العالم". 

ذكرني الخبر بالعظيمة الراحلة د أمينة رشيد أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة القاهرة وزوجها الراحل د سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة أيضًا اللذين ترجما رواية "المكان" أول عمل قرأته وكتبت عنه لآني أرنو وبهذه المناسبة أعيد نشر هذا المقال الذي حاولت أن أقدم فيه كتابا صغيرا في حجمه كبيرا في قيمته ليتعرف القارئ ليس على الكاتبة وحدها ولكن على جهد المترجمين العظيمين.

المكـان

عندما اختارت د. أمينة رشيد ود. سيد البحراوي رواية الكاتبة الفرنسية آني أرنو «المكان» لينقلاها من الفرنسية إلى العربية اختاراها ربما للسبب نفسه الذي دفع الكاتبة «أني أرنو» لاختيار موضوع روايتها، فمنذ الصفحة الأولى تعلن «أني أرنو» أن كتابها ولد من وجع «وجع أتاني في فترة المراهقة عندما قادتني المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء في البرجوازية الصغيرة إلى الابتعاد عن أبي العامل السابق والمالك لمقهى، وبقالة، وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والتمرد.. لماذا لا يقرأ لماذا.. يسلك بفظاظة.. كما يكتب الروائيون».. وجع مخجل لا يستطيع الإنسان أن يصرح به أو حتى أن يشرحه لأحد.

تبدأ الرواية إذن بهذا الشعور المتناقض حيال الأب، فما الذي دفع صاحبة هذا الوجع إلى إعادة اكتشافه، تخبرنا بعد قليل أن صوت أبيها المفاجئ- سند نجاحها في مسابقة الأستاذية- قد غمرها بشعور من الخيانة الطبقية، إذ كانت قد انتقلت عبر رحلة الدراسة والعمل من عالم أصلي شعبي- كما تقول- إلى عالم البرجوازية المثقفة التي تعتبر نفسيا الوحيدة حاملة القيمة، لهذا وجدت نفسها في حاجة إلى الكتابة عن الأب وعن المسافة الثقافية بينهما. ثم تستعرض في مقدمتها كيف كان مشروعها صعبًا حتى توصلت في النهاية إلى اختيار شكل الكتابة المحايدة.. فتمكنت من إنهاء روايتها.

وقد مكنها ذلك- على حد تعبيرها- من التحرر عبر الكتابة بسبب المشاركة مع أناس مجهولين في تجربة مشتركة، ولمن يعيش ممزقا بين ثقافتين، وقالت إن وظيفة الكتابة أو نتاجها ليست طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا يُنسى.

وأعود للحديث عن سبب اختيار المترجمين للرواية، إنها قصة التحرر من وطأة مشاعر الخيانة للطبقة التي خرجت منها ابنة العامل البسيط وهي تصعد السلم الاجتماعي إلى البرجوازية وتحل في داخلها ثقافة محل ثقافة، وهي بالطبع تجربة فريدة من نوعها، خاصة أن موت الأب- وهو حادث خاص شديد الحميمية حتى بالنسبة لابنة «خانت» - قادر على تفجير مثل هذه اللحظة المواجهة.. من اللحظة الأولى ترفض الانحياز للفن!!

وهنا لابد أن يتبادر إلى ذهني سؤال: لماذا هذا الرفض.. هل هو بداية للتحرر أم مراوغة للتحرر؟

وتأتي الإجابة على بعد سنتميترات قليلة عندما تختار أني أرنو «كو» اسمًا للقرية التي ولد فيها الأب، فهي إذن حتى هذه اللحظة لم تستطع أن تكشف بالكامل عن مكان الوجع رغم أنها تصف أبطاله: الجد الذي يعمل عربجيا في مزرعة، والذي مات في الملجأ، والجدة عاملة النسيج في البيت، والأب الذي ترك الدراسة بسبب جمع التفاح والتحق للعمل بالمزرعة نفسها حتى دخل الجيش.. عمات عاملات في بيوت الأسر الكبيرة، وأم عاملة في المصنع متهمة وزميلاتها من العمات بأنهن يمشين على حل شعورهن.

استأجرا مسكنا في مجموعة من البيوت المحاذية لشارع كثيف المرور.

هكذا تصف مكان بيت العائلة الأول، ثم تصف كيف اختار العروسان أول متجر لهما على بعد ثلاثين كيلو مترا من ميناء «الهافر» ... مازالت لا تستطيع التحرر.. لكنها في الوقت ذاته تضع يدها على الداء ، عندما تكتشف أن تبرؤها من ثقافة أهلها لم تبدأ معها، لكنها بدأت مع الأم التي تستطيع تخطِّي الحواجز الاجتماعية وتطالب الأب أن يكف عن عاداته السيئة «أي عادات الفلاح والعامل».. والأب يسخر منها عندما تقول: أخرجت ريحا».

تعترف "آني" أنها ليست سعيدة بالكتابة في هذه الرواية لأنها- كما تقول- أقرب إلى الكلمات والجمل التي سمعتها وأنها تُبرزها بالخط المميز، ليس من أجل أن تعطي للقارئ معنى مزدوجًا ومتعة تواطئية ترفضها، ولكن فقط لأن هذه الجمل تقود حدود ولون العالم الذي عاش فيه أبي وعشت فيه أيضًا، وفيه لا تستبدل كلمة بأخرى.. فماذا كتبت «آني أرنو» بالخط المميز.. «في حاجة للحياة، كان جادا في أي تعامل، سعداء رغم كل شيء. لا مفر. من حقهما أن يلقنا المهملين دروسا في 1939، رغم كل شيء ينبغي أن نحيا، كان يلطم، كنا نعيش في الهواء الطلق. لا أحد يستطيع أن يضرهم، البنت مش محرومة من أي حاجة، نظرا لوضعهم، غير متعالين، أن نكون في غير مكاننا، حيقولوا علينا إيه، شخص في مكان عال. دا فلاح).

ونلاحظ في هذه الاختيارات للصيغ التي تركز عليها الكاتبة، أنها كلها تشير بشكل مباشر للوضع الاجتماعي المتدنِّي، وللدفاع عنه، باعتبار أن البنت في الأصل ليست محرومة من أي حاجة، في حين أن هناك خطا متوازيا آخر يقود لعكس هذا المعنى، خاصة عندما تصف الأم شخصا بأنه «دا فلاح»، لكن هذه الكلمات ذات البنط الأكبر في الطباعة تتخذ صيغا مخالفة عند الأب بعد أن تتقدم الابنة في المدرسة وتتفوق في كل امتحان، شيء يكتسب، الأمل أني سوف أكون أحسن منه، لا يمكن أن نكون أكثر سعادة مما نحن فيه، دخل أبي في فئة الناس البسطاء، أو المتواضعين أو الناس الطيبين، شارك العظيم «يقصد ديجول». صحبت إلى البيت. في الجيب وعليه منديل (مثل فرنسي معناه إخفاء المهانة من عدم مجيء زوج البنت لزيارة أهلها)، ونلاحظ في هذه المرحلة من الرواية قلة هذه الكلمات واختلاف معناها، إذ يبدو الأب وقد استسلم لفكرة أنه أقل شأنا من ابنته، ويزداد هذا الشعور بزواجها من طبقة أخرى، لكنه أيضًا يحتفظ لنفسه بتقديراته، «شارل العظيم» تبتعد الكاتبة عن إحساسها بالاحتياج لمثل هذه الكلمات ونجد أن صفحات بكاملها لا تضم كلمة واحدة منها حتى إذا ما اقتربت الرواية من إعلان الإرث الذي كان عليها أن تتركه على عتبة العالم البرجوازي المثقف عندما دخلت فيه نجد عبارة واحدة بالخط العريض كان يغني «المجداف هو الذي يدور بنا».

اختيار المترجميْن جاء للسبب نفسه، لكن هل هذا يكفي؟ عندما قرأتُ الرواية في المرة الأولى أجبتُ على هذا السؤال بأنه لا يكفي، لابد من الانحياز للفن وللحظة الحميمة وتقديمها بدفئها وفطرتها وليس على بعد منها وبحياد.. لكن عندما قرأتها للمرة الثانية تراجعتُ، لأنه لا يمكن لقارئ أو غيره أن يختار لكاتب كيفية الكتابة، لكنها مجرد الرغبة أو الحنين لعالم كنت أتمنى أن تغوص في الموجع منه أكثر وتصفه لي أكثر طزاجة وألما!! ويحق بالتالي للمترجميْن أن يختارا هذا الكشف عن الخيانة حتى لو لم يكن فنيًّا أفضل ما هو موجود الآن على الساحة، فربما يكون الحب وليس الأيديولوجيا هو الدافع وراء الاختيار كما حدث معي، وأردت أن أداعبهما بدافع الحب أيضًا!!

***

حصلت رواية "المكان" على جائزة رينودو الأدبية عام 1984 ، وذكرت الدار التي نشرتها بالعربية أن الرواية معتمدة على وقائع وصور وذكريات مشاهد دقيقة وجمل شائعة تستعيد الكاتبة بها بدقة وضع أبيها وهامش الحرية المحدود الذي استقر عليه من أجل صنع مكانة تحت الشمس ، غير أنها لا تحيي فقط صورة الأب ، ولكنها تبرز بدقة كل الإرث الثقافي للمقهورين الذي نسيته من أجل الصعود في السلم الاجتماعي. وبعد رواية المكان ترجمت للكاتبة خمس روايات أخرى إلى العربية هي "الاحتلال" و "شغف بسيط" و "انظر إلى الأضواء يا حبيبى" و "الحدث" و "البنت الأخرى - لم أخرج من ليلي".
وأصدرت آني أرنو روايتها الأولى (ليز آرموار فيد) في عام 1974 لكنها اكتسبت شهرة عالمية بعد نشر (ليز آنيه) في عام 2008.
--------------------------
بقلم: هالة البدري


مقالات اخرى للكاتب

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات





اعلان